ميثاق الأحزاب السودانية الغليظ.. تحديات تاريخية وواقع مرّ

أزيز مارشات عسكرية صادحة في إذاعة أم درمان السودانية، وبيان من ضباط الجيش يعلنون فيه بداية عهد جديد، هكذا استيقظ الشعب السوداني صبيحة يوم 30 يونيو/ حزيران 1989، في الحدث التاريخي المعروف بثورة الإنقاذ الوطني، وقد تولى قيادته العميد عمر البشير، الذي أصبح رئيس السودان منذ ذلك الحين، وهندسه وخطط له الزعيم السياسي الديني الراحل حسن الترابي.
لتبدأ في الخرطوم عهود الديمقراطية الثالثة كما أطلقوا عليها، ورياح تغيير مستمرة عصفت بالحلفاء قبل الأعداء، وتبدلت أدوارهم، ولكنهم حرصوا على البقاء في المشهد، تحت مظلات حزبية وتنظيمات فكرية.
وفي حمأة المماحكات الثورية، وبروز الأسئلة الوطنية، من طبيعة بناء دولة منشودة لأهل السودان، إلى حقيقة الهوية الوطنية للشعب، وآمال الازدهار والتقدم، انسابت تلك المصطلحات في الشارع الغاضب الرامي إلى إحداث تحولات حقيقية يتجاوز بها سنوات المعاناة الصعبة.
إلا أن طبيعة المسرح السياسي السوداني تحمل معطيات مختلفة، في ظل وجود خريطة حزبية واسعة ومعقدة التفاصيل ومتشابكة العلاقات، لها تاريخ ممتد في عرض الحياة السياسية للبلاد، آخذة المواثيق الغليظة على الدوام لخدمة الوطن والمواطن، وبذل التضحية والفداء في سبيل استقرار البلاد،
ولكن الناظر إلى تلك الأحزاب المقدرة بالمئات يجدها موجودة منذ استقلال السودان، وأغلبها بني على أفكار أيديولوجية صلبة، وفي كثير من الأحيان كانت منفصلة عن الواقع تتحكم بها فلسفات القادة، وطموحات التنفيذيين، بعيدا عن آمال الشعب.
من رحم الحركة الإسلامية
المؤتمر الوطني الحزب الحاكم في البلاد الذي خرج من رحم الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي، ومجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني بقيادة عمر البشير، وعلى وقع الاختلاف الذي حدث بين الترابي والبشير، بشأن بعض القضايا على رأسها الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية، وتوسيع مهام البرلمان والحكومة، أقدم وقتها البشير على حل البرلمان، وإعلان الأحكام العرفية، واعتقال الترابي والكثير من أعضاء جبهته، ثم أسس حزب المؤتمر الوطني عام 1998، بأيدولوجية إسلامية قومية محافظة، ووضع الحزب مجموعة من المبادئ منها إقرار الحاكمية في الدولة لله، مع ترسيخ الحكم بآليات الشورى والديمقراطية، مع تحقيق الوحدة الوطنية، وتطهير المجتمع من الفساد مع العمل على استقلال الأمة، وهي المفارقة بين سلوك الحزب في الواقع السياسي والاجتماعي وهذه الأهداف المعلنة.
فمنذ تأسيس الحزب كواجهة للحكم والحاكم، قام بالسيطرة المباشرة على جميع أجهزة الدولة، بدءا من الحكومة والبرلمان إلى النقابات والاتحادات العمالية، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية.
وفي فبراير/ شباط 2014، دعا الحزب إلى ما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني الجامع، وهي الدعوة التي قبلتها بعض الأحزاب ورفضتها أحزاب أخرى رأت أن طريقة عمل الحزب ورئيسه جزءا حقيقيا من مشاكل السودان.
وعلى أثر اندلاع المظاهرات المنددة بحكم الرئيس السوداني عمر البشير، أصدر الحزب مجموعة بيانات ترفض تلك الاحتجاجات، ويتهم القوى المعارضة بالعمل على الإثارة والفتنة والنيل من استقرار البلاد.
جدليات الحكم والسياسة
للإخوان المسلمين تاريخ قديم في الحياة السودانية تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، متأثرة بالجماعة الأم في مصر وامتداد لها في السودان لطبيعة العلاقات المتجذرة بين البلدين، وفي العام 1959 حاول الإخوان المشاركة في الانقلاب على الرئيس السوداني إبراهيم عبود، لرفضهم سياساته ووجوده على سدة الحكم من الأساس، ولكن تلك المحاولة باءت بالفشل لينقلب عبود على الجماعة ويلقي القبض على مراقبها العام الرشيد الطاهر بكر ويحكم عليه بالسجن لمدة 5 سنوات، لتدخل الجماعة في حالة ركود.
ولكن جاءت الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس إبراهيم عبود العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، لتطيح به وتعود الجماعة بقوة إلى ساحة العمل السياسي تحت قيادة الدكتور حسن الترابي الذي لمع نجمه في الأوساط السودانية، وانتخب أمينا عاما للجماعة في ذلك الوقت.
وفي العام 1969 وقع انقلاب جعفر النميري، الذي رفضته جماعة الإخوان المسلمين والكثير من القوى الوطنية السودانية، وقام الدكتور حسن الترابي عام 1977 بإجراء صفقة مصالحة وطنية مع نظام النميري، لتتفجر الخلافات داخل الحركة، وانتهى الأمر عام 1980 عندما أعلنت مجموعة كبيرة رفض سياسة الترابي البراغماتية، وانشقوا عنه وأعلنوا أنفسهم الممثلين الرسميين لجماعة الإخوان المسلمين، ووجدوا تأييد التنظيم الدولي للإخوان، وتبنوا منهج التربية والإصلاح لدى الجماعة، وكان من أبرز قادتهم صادق عبد الله عبد الماجد، و الحبر يوسف نور الدائم.
أما الترابي فلم يتخلى عن نهجه اليميني الإسلامي، ففي العام 1986 أسس تنظيما خاصا أطلق عليه اسم "الجبهة الإسلامية القومية"، وكان هو عراب انقلاب العميد عمر البشير بعد ذلك قبل أن يتفرقا، ويؤسس عمر البشير المؤتمر الوطني، وأما الترابي فقام بتأسيس المؤتمر الشعبي المعارض عام 2001، وإن ظل كل منهما يقول بنهجه المحافظ، وتبني الهوية الإسلامية.
ومن أبرز الأحزاب اليمينية "حركة الإصلاح الآن" بقيادة غازي صلاح الدين العتباني مستشار الرئيس عمر البشير الأسبق، تلك التي انشقت عن الحزب الحاكم عام 2013، بقيادة العتباني و31 قياديا إسلاميا، وقرروا في العام 2014 المشاركة في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس البشير، ثم كان لهم نصيب من البرلمان والحكومة، حتى اندلاع احتجاجات ديسمبر/ كانون الأول 2018، ليقدموا لها الدعم الكامل.
أحزاب اليسار
الوجود الشيوعي في السودان قديم، يعود إلى زمن حركة حستو "الحركة السودانية للتحرر الوطني، التي بدأت نشاطها في أربعينيات القرن الماضي، وهي حركة أسست على النضال ضد الإنجليز، ورفض الوحدة مع مصر، وبعد حصول السودان على استقلاله عام 1956، غيرت الحركة إسمها إلى "الحزب الشيوعي السوداني"، وسرعان ما دخلوا في صراعات على أسس عقائدية مع الإسلاميين في السودان، ونظموا عدة مظاهرات تندد بهم، ليقوم الإسلاميون بعمل حملة مضادة متهمين الحزب خلالها بازدراء الأديان ومناهضة الإسلام، وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1965، قام البرلمان بحل الحزب وطرد نوابه.
دعم الشيوعيون انقلاب جعفر النميري نكاية في الإسلاميين، وجماعة الإخوان المسلمين، ولكن اختلافهم مع النميري كان سريعا إثر محاولتهم الانقلاب عليه عام 1971، وهو الانقلاب الذي بفشله كسر ظهر الحزب، حينما تم التنكيل به، وأقدم جعفر النميري في ذلك الوقت على تنفيذ سلسلة إعدامات في قادة الحزب ومنهم جوزيف قرنق، وعبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد الشيخ بالإضافة إلى مجموعة الضباط الذين حاولوا الانقلاب.
جاء انقلاب الإنقاذ عام 1989 بقيادة الجبهة الإسلامية القومية، ليقضي على البقية الباقية من وجود الشيوعيين وأحزاب اليسار في المشهد، خاصة وأن الحالة الدولية أيضا كانت تشهد تراجعا شرسا للشيوعية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي معه انهارت التجربة الاشتراكية، وفي العام 2005 عاد الحزب على استحياء لممارسة انشطته بعد مصالحة أجراها مع الرئيس البشير، وظل الحزب يعاني من النقص العددي، وعدم وجود دماء جديدة قادرة على الاستمرار، ومع هذا قدم الحزب دعمه للمظاهرات المندلعة ضد النظام الحاكم في أواخر العام 2018.
الأحزاب القومية
محاولات الأمة السودانية لنيل استقلالها من المحتل الإنجليزي في منتصف القرن الماضي، ودعوات الانفصال عن مصر، أوجدت الكثير من الحركات والأحزاب، منها حزب الامة القومي، أحد أعرق الأحزاب السودانية الذي تأسس عام 1945 كأول حزب جماهيري في تاريخ السودان، ووصل الحزب في تاريخه إلى تشكيل وقيادة العديد من الحكومات منها حكومة عبد الله خليل بين عام 1956، و195، وعارض الحزب بشدة انقلاب "الإنقاذ" عام 1989 بقيادة حسن الترابي وعمر البشير، بعدها اضطر زعيمه الصادق المهدي إلى الهروب سرا من السودان عام 1996، ليعود إلى السودان عام 2000 بعد توقيع معاهدة مصالحة مع النظام، وهو ما لم يستمر طويلا، إذ قام الصادق المهدي بتوجيه انتقادات لاذعة إلى البشير عام 2014 ليتم القبض عليه، ويذهب إلى منفاه الاختياري في بريطانيا عام 2017، وفي مارس/ آذار 2018 انضم الحزب إلى "قوى نداء السودان" التحالف المعارض الضخم الذي يضم أحزابا مدنية وحركات مسلحة ومنظمات مجتمع مدني، ومع بداية الاحتجاجات ضد البشير في نهاية العام 2018، أيد الأمة القومي تلك التظاهرات، معلنا رفضه لسياسة النظام الخرقاء، وطالب الجيش والشرطة بحماية المتظاهرين.
وهو الاتجاه المخالف لحزب "الاتحاد الديمقراطي"، ذلك الحزب المتجذر في التركيبة السياسية السودانية، الذي لم يعلن موقفه الحاسم من احتجاجات المدن السودانية 2018، لكن وجود وزرائه في الحكومة يعد مؤشرا على توافقه المبدئي مع النظام، وإن ندد محامو الحزب بالإجراءات القمعية ضد المتظاهرين، ويعود تأسيس الحزب إلى العام 1951، وكان مؤيدا للوحدة بين مصر والسودان بسبب إيمانه بمبدأ (وحدة وادي النيل).
الفيل داخل غرفة السياسة
في الأول من يناير/ كانون الثاني 2019، طالب 23 حزبا سودانيا مع نواب في البرلمان الجيش السوداني بحماية التظاهرات التي شهدتها أغلب المحافظات، وللجيش السوداني تاريخ طويل في الحياة السياسية والاجتماعية على غرار معظم جيوش الشرق الأوسط، تاريخ طويل من الانقلابات والتدخلات لقلب الموازين في قصور الحكم، وكما يقول المفكر السوداني عبد الله علي إبراهيم (إن الجيش هو الفيل داخل غرفة السياسة السودانية) وهي عبارة مقصدها أنه المتحكم الرئيسي من وراء الستار، وهو الحقيقة العظيمة التي لا يمكن تجاهلها رغم عدم رؤيتها.
الأمر الذي يمكن ترجمته من الواقع، فرغم أن الانقلابات تدعمها الأحزاب أو تؤطر لها القوى السياسية، ولكن في النهاية من يقوم بها ضباط في الجيش، سواء من الإسلاميين أو القوميين أو حتى الشيوعيين، فحزب الأمة هو من خطط لانقلاب إبراهيم عبود عام 1958، والبعثيون هم من رتبوا لانقلاب جعفر النميري عام 1969، وأخيرا الإسلاميون هم من رتبوا لانقلاب عمر البشير عام 1989.
لذلك يؤكد عبد الله إبراهيم أن الجيش السوداني مؤسسة سياسية بامتياز تمارس السياسة والتحليل وموازنة المصالح وتحدد شبكات القوة في كل ما يتعلق بها.
المصادر
- تقرير موقع إضاءات عن الأحزاب السودانية
- B.B.C مظاهرات السودان أسبابها وخلفياتها
- إعلان ميثاق الخلاص الوطني
- ٢٢ حزبا تطالب بإقلاع نظام البشير
- تقرير الجزيرة عن حزب المؤتمر الوطني
- تقرير وكالة الأناضول عن مسيرة الأحزاب السودانية
- الأحزاب السودانية تطالب الجيش بحماية المظاهرات
- تقرير موقع إضاءات عن الحركة الإسلامية والجيش في السودان
- مفهوم التحالفات بين الأحزاب السودانية