بلوشستان في قلب صراع دولي بين الصين وروسيا والهند.. السيناريوهات المحتملة

في خضم تحولات جيوسياسية عالمية وصعود قوى جديدة في آسيا، يعود إقليم بلوشستان الممتد بين إيران وباكستان وأفغانستان إلى واجهة الصراع الدولي في ظل تعقيدات الوضع في هذا الإقليم الذي يعاني من تهميش مزمن واضطرابات أمنية متواصلة.
معهد "تحليل العلاقات الدولية" الإيطالي يرصد أبعاد هذا الصراع المحتدم بين الصين وروسيا والهند من جهة، والنظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى، ويطرح المعهد تساؤلا جوهريا حول مستقبل بلوشستان: "هل سيظل ساحة صراع بين القوى الكبرى، أم يتحول إلى مركز استراتيجي للتنمية الإقليمية وإعادة الإدماج؟".

معاناة منسية
يبدأ المعهد الإيطالي تقريره بالقول إن "منطقة بلوشستان ذات أهمية متزايدة في المشهد الجيوسياسي العالمي"، مشيرا إلى أنها "أصبحت محورا للتنافس بين الكتل الدولية الناشئة، لا سيما الكتلة الأوراسية بقيادة الصين وروسيا".
وبحسب المعهد: "أدى موقعها الإستراتيجي على الخليج العماني وبحر العرب إلى تحويلها من منطقة هامشية إلى عقدة مركزية في ممرات التجارة الدولية ومعادلات الأمن الإقليمي".
مضيفا أن "موانئ جوادر في باكستان وتشابهار في إيران يعدان ركيزتين لمشاريع بنية تحتية ضخمة". حيث يُعد الأول جزءا من الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني "CPEC"، والثاني من ممر النقل الشمالي–الجنوبي الذي تدعمه روسيا وإيران.
وهذه المشاريع -وفق ما ورد عن المعهد- تجسد جهودا منسقة لبناء تكتل مستقل عن الهيمنة الغربية، عبر تقليل الاعتماد على الممرات التجارية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، مثل مضيق "ملقا" وقناة "السويس".
ومن ناحية أخرى، يذكر المعهد أن "الصين وروسيا والهند يشتركون في استثمارات استراتيجية بالمنطقة، تهدف إلى إنشاء بنية نفوذ جديدة تعكس نظاما عالميا متعدد الأقطاب".
ولكن، بحسب ما ينوه عنه المعهد، يقبع خلف هذه الطموحات الجيوسياسية واقع مأساوي يعيشه سكان بلوشستان، البالغ عددهم نحو 10 ملايين نسمة، والذين ينتمون إلى مجموعة عرقية ناطقة بالفارسية.
وتابع: "إذ حُرم البلوش من حقهم في تقرير المصير منذ التقسيمات الاستعمارية التي قسمت أراضيهم بين إيران وباكستان".
مضيفا أنهم "يعانون من تهميش سياسي واقتصادي وثقافي، ويواجهون قمعا شديدا في ظل مطالبهم المتكررة بالاستقلال ووقف ما يعتبرونه احتلالا لأرضهم".
علاوة على ذلك، يلفت مركز الأبحاث إلى أن "البلوش في إيران، يُعاملون كمزدوجي التهميش دينيا وعرقيا، ويُستهدفون بسياسات تمييزية وقمعية".
وأردف: "أما في باكستان، فتسود حالة صراع منخفض الحدة منذ عقود، تتخللها اتهامات خطيرة لقوات الأمن بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان".
ورغم هذا الواقع المضطرب، يقول المعهد: إن "مشاريع الموانئ الكبرى سلطت الضوء على بلوشستان كمركز إستراتيجي جديد، ما جذب اهتماما آسيويا ودوليا متناميا نحو منطقة طالما عانت من التهميش والنسيان".

الإستراتيجية الصينية
ومن جهة أخرى، يشير معهد "تحليل العلاقات الدولية" إلى أن "ميناء تشابهار الإيراني أصبح يكتسب أهمية متزايدة في الإستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية للصين".
منوها إلى أن "الصين كانت تركز جهودها سابقا على ميناء جوادر في باكستان ضمن مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، والبالغ قيمته 65 مليار دولار، كجزء من مبادرة الحزام والطريق".
ووفقا للمعهد، يهدف المشروع إلى ربط منطقة شينجيانغ الصينية ببحر العرب عبر بنية تحتية ضخمة، تُعد "جوادر" مركزها الرئيسي.
وفي هذا السياق، يوضح المعهد أن "الميناء يشكل، بالنسبة للصين، بديلا استراتيجيا عن مضيق ملقا، بينما رأت فيه باكستان فرصة للتنمية الاقتصادية".
وتابع: "إذ إن الاضطرابات المستمرة في إقليم بلوشستان الباكستاني، حيث تواجه الحكومة تمردا مسلحا من قبل أقلية البلوش المعارضة لمشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، أعاقت تنفيذ المشروع وهددت السيطرة الفعلية لإسلام آباد على الإقليم".
"وبعد تصاعد الهجمات ضد منشآت عسكرية صينية وباكستانية، اتجه البرلمان الباكستاني نحو مناقشة احتمال فقدان السيطرة على الإقليم"، بحسب ما ذكره المعهد.
"وفي ظل هذا التدهور الأمني، كثفت الصين من جانبها اهتمامها بميناء تشابهار، الذي يبدو أكثر استقرارا تحت السيطرة الإيرانية"، وفق التقرير.
وفي مارس/ آذار 2025، التقى السفير الصيني في إيران بمسؤولين إيرانيين لمناقشة تفاصيل اتفاقية إستراتيجية مدتها 25 عاما، تشمل استثمارات طويلة الأجل في قطاعات الطاقة والصناعة والنقل والبنية التحتية.
"بما في ذلك إنشاء مدينة ذكية ومرافق بتروكيميائية ومشاريع في مصايد الأسماك وإدارة المياه"، كما ورد عن المعهد الإيطالي.
ومن جانبها، تسعى الصين من خلال هذه الاستثمارات إلى تحقيق هدفين رئيسين؛ "تأمين مسارات آمنة لنقل النفط من الخليج" و"مواجهة النفوذ الأميركي والغربي في المنطقة".
وبشكل عام، يبرز المعهد أن "تعزيز البنية التحتية في جوادر وتشابهار يُعد جزءا من استراتيجية أوسع لبكين تهدف إلى تقويض الهيمنة البحرية الغربية".
ولذلك، مع تصاعد التوترات في بلوشستان الباكستانية، تزداد أهمية "تشابهار" كموقع بديل أكثر أمانا لتحقيق المصالح الصينية في المنطقة، حسبما أفاد التقرير.

قلق هندي
ووسط هذا السياق المعقد، يسلط معهد "تحليل العلاقات الدولية" إلى أن "الهند استثمرت أيضا في بلوشستان الإيرانية من خلال استثمارات كبيرة في ميناء تشابهار، والتي بدأت قبل الاستثمارات الصينية".
وكانت إستراتيجية نيودلهي -كما يوضح المعهد- تهدف إلى "مواجهة المحور الناشئ بين باكستان والصين".
وعلى عكس ميناء "جوادر"، الذي يخضع لتأثير صيني كبير ومندمج ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، فقد طُور ميناء "تشابهار" بدعم هندي فقط، وكان يُراد له أن يبقى خارج المشروع الصيني.
وجاء هذا الخيار -كما يقول المعهد- استجابة لحاجتين أساسيتين لدى الهند.
فمن جهة، كانت تسعى لتجاوز الأراضي الباكستانية، نظرا للعداء التاريخي بين البلدين، من أجل الحصول على وصول مباشر إلى أفغانستان وآسيا الوسطى.
ومن جهة أخرى، أرادت ترسيخ نفوذها الإستراتيجي في منطقة أصبحت أكثر خضوعا لدبلوماسية البنى التحتية التي تقودها بكين وإسلام آباد.
وهنا، يذكر المعهد أن "مشاركة الصين في تطوير ميناء تشابهار قد تثير قلق نيودلهي، التي كانت حتى الآن تعد تشابهار بمثابة النظير الإستراتيجي لميناء جوادر".
"وفي حين أن جوادر لم يصبح بعد عمليا بشكل كامل بسبب استمرار أعمال العنف في إقليم بلوشستان، إلا أن التجارة عبر ميناء تشابهار كانت قد بدأت بالفعل، مما منح الهند ميزة تنافسية في الوصول إلى آسيا الوسطى"، بحسب ما ورد عن المعهد.

مسار تجاري لروسيا
ومن جهة أخرى، يبرز المعهد الإيطالي أنه "ضمن شبكة المصالح والتفاعلات الجيوسياسية المعقدة التي تميز منطقة بلوشستان، تبرز أيضا الشراكة المتنامية بين إيران وروسيا".
ففي 17 يناير/ كانون الثاني 2025، وقع الرئيسان فلاديمير بوتين ومسعود بزشكيان في موسكو "معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة".
جدير بالذكر أن هذه الاتفاقية تمتد لعشرين عاما وتتكون من 47 مادة، وتهدف إلى "تعزيز التعاون الثنائي في مجالات رئيسية مثل الدفاع والطاقة والتجارة والتكنولوجيا والثقافة والمالية".
وفي هذا السياق، يضيف المعهد أن "البلدين يشتركان في هدف التصدي للنفوذ الغربي والتخفيف من آثار العقوبات الدولية المفروضة عليهما".
ورغم أن المعاهدة لم تذكر منطقة بلوشستان صراحة، إلا أن روسيا ترى في هذه المنطقة منفذا محتملا نحو "المياه الدافئة".
وهو هدف إستراتيجي طويل الأمد للكرملين، يهدف -وفق ما يقوله المعهد- إلى تأمين وجود بحري مستقر في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية.
ومن ناحية أخرى، يعكس المعهد الإيطالي أن "أحد الركائز الأساسية لهذه الشراكة هو مشروع الربط بين البلدين عبر ممر النقل الدولي الشمالي-الجنوبي، والذي يُعد مسارا تجاريا إستراتيجيا يربط الهند بروسيا عبر إيران وجنوب القوقاز".
وبحسب المعهد: "يُنظر إلى هذا الممر المتعدد الوسائط، الذي يدمج بين السكك الحديدية والطرق البرية والبحرية، كبديل حاسم للمسارات التقليدية من الشرق إلى الغرب ومحرك لعملية التكامل الإقليمي".
وفي هذا الإطار، يلخص المعهد المشهد قائلا إنه "من خلال هذا التوجه الذي يجمع بين تسهيل التجارة والتعاون الاستثماري وتطوير البنية التحتية، تعزز إيران وروسيا شراكتهما الاقتصادية، وتساهمان في بناء منطقة أوراسية أكثر ترابطا وتعددية في مراكز القوة".
وفي إطار ما ذُكر سابقا، يسلط المعهد الضوء على أن "منطقة بلوشستان تبرز في المشهد الجيوسياسي المتغير كعنصر محوري في إستراتيجيات القوى المناهضة للغرب".
إذ أصبحت البنى التحتية والممرات التجارية والتحالفات العسكرية أدوات لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، حسب التقرير.
ومن أبرز هذه التحالفات -كما يذكر المعهد- الشراكة العسكرية المتنامية بين إيران وروسيا والصين، والتي تجسدت في مناورات "حزام الأمن البحري 2025" في ميناء تشابهار الإيراني.
ويوضح المعهد الإيطالي أن هذه التدريبات، التي انطلقت عام 2018، أصبحت تقليدا سنويا يكرس رمزية "تشابهار" كميناء استراتيجي يتجاوز دوره اللوجستي.
وفي ظل احتدام التنافس بين الكتل الدولية، يثير المعهد تساؤلا حول "ما إذا كان تعزيز المحور الإيراني الروسي الصيني في بلوشستان سيحدث تغييرا جذريا، محولا الإقليم من منطقة مهمشة وغير مستقرة إلى مركز ثقل جيوسياسي بديل للنظام الغربي".
وفي هذا الشأن، يوضح المعهد أن "تحقيق هذا التحول يتوقف على قدرة هذه القوى على إدارة التوترات المحلية وتحقيق توازن بين الطموحات الاقتصادية والاستقرار الداخلي وتجنب التصعيد العسكري".
وفي سيناريو إيجابي، على حد قول المعهد، يمكن أن تعزز هذه الشراكات التنمية الاقتصادية والبنى التحتية في بلوشستان دون التسبب بزعزعة الاستقرار، مما يحول الإقليم إلى عقدة محورية في الممرات اللوجستية الأوراسية.
ومن جهة أخرى، يسلط المعهد الضوء على أن "الاستثمار وتوفير فرص العمل، إلى جانب مقاربة أكثر شمولا تجاه مجتمعات البلوش، قد يسهم في تخفيف التوترات العرقية وتعزيز الاندماج الإقليمي".
ولكن، يبرز المعهد أن "بلوغ هذا المسار يتطلب حوكمة متعددة الأطراف وتجنب الاستقطاب، بمشاركة فاعلين مثل الهند".
أما في السيناريو السلبي، يقول المعهد إن "تصاعد التوترات قد يؤدي إلى نزاعات انفصالية وهجمات على البنية التحتية وقمع متزايد من إيران وباكستان، ما سيشل المشاريع التجارية ويطرد الاستثمارات".
وأضاف: "علاوة على ذلك، قد تتحول المنطقة إلى ساحة مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى، لا سيما إذا شعرت الهند والولايات المتحدة بتهديد من النفوذ الصيني".
وفي النهاية، يشير معهد "تحليل العلاقات الدولية" إلى أن "واشنطن ودول الخليج -قلقة على مصالحها في بحر العرب- قد تدعم فكرة بلوشستان مستقل وموال للغرب، لتكوين منطقة عازلة واحتواء التوسع الشرقي".
ويختتم المعهد تقريره قائلا إن "مستقبل بلوشستان مرهون ليس فقط بالاستثمار فيها، بل بمن يحدد موقعها الإستراتيجي، في عالم تتساوى فيه أهمية الممرات مع الحدود، وتصبح السيطرة على السرد الجيوسياسي بوزن السيطرة على الأرض".