نيودلهي وموسكو.. تكتل إستراتيجي لكسر العزلة وتعزيز النفوذ في العالم المتغير

"الهند تتطلع لتزويد روسيا لها بمنظومة إضافية من الدفاع الجوي إس-400"
في ظل العقوبات الغربية المشددة التي فرضت على موسكو، تسعى روسيا إلى كسر عزلتها الاقتصادية من خلال تعزيز علاقاتها مع دول الشرق، وبالتحديد عبر شراكة إستراتيجية متنامية مع الهند.
بينما يواصل الغرب جهوده لفرض ضغوط اقتصادية على روسيا بهدف خنق اقتصادها، اختارت نيودلهي طريقًا مختلفًا يرتكز على البراغماتية والاستقلالية السياسية في علاقاتها الدولية. وتسعى الهند إلى الحفاظ على مواقف متوازنة تسمح لها بالمضي قدمًا في تطوير التعاون الاقتصادي والسياسي مع روسيا، رغم التوترات الدولية والعقوبات المفروضة على الأخيرة.
وتظهر هذه الشراكة أن روسيا تحاول توسيع شبكة شركائها خارج الدوائر الغربية، مما يعزز قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها العقوبات الغربية ويمنحها فرصًا للتنمية عبر علاقات مع دول كبرى في آسيا.

بوتين في الهند
في 4 ديسمبر 2025، استقبل رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زيارة رسمية إلى نيودلهي استمرت يومين، وهي أول زيارة لبوتين منذ غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.
لم تكن هذه القمة مجرد لقاء دبلوماسي عابر، بل شكلت محطة محورية أرست ملامح "خارطة طريق 2030" التي تتضمن تعزيز التعاون في مجالات التجارة والتكنولوجيا والطاقة الجديدة والطاقة النووية، إضافة إلى اتفاقيات لوجستية دفاعية تاريخية تشمل النقل البحري، وتنقل العمالة، والرعاية الصحية، وسلامة الغذاء، والتدريب البحري.
اتفقت الدولتان على إعادة صياغة علاقاتهما الدفاعية لتواكب سعي الهند نحو الاعتماد على الذات من خلال البحث والتطوير المشترك، فضلاً عن الإنتاج المشترك لمنصات دفاعية متطورة وقطع الغيار والمكونات الضرورية لصيانة الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية داخل الهند.
خلال زيارته، تحدى بوتين في مقابلة مع قناة "إنديا توداي" الضغوط الأميركية التي تمارس على الهند لوقف شراء الوقود الروسي. مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تستطيع شراء الوقود النووي الروسي، متسائلاً عن سبب عدم تمتع الهند بنفس الحق. مؤكداً استعداد موسكو لمناقشة هذا الأمر مع واشنطن، بما في ذلك مع الرئيس ترامب.
تعد الهند علاقاتها مع روسيا ركيزة أساسية لأمنها الاقتصادي والعسكري في ظل تغيرات التحالفات الدولية السريعة. وهي أكبر مشترٍ للأسلحة والنفط الروسي المنقول بحراً في العالم، رغم إجراء محادثات مع الولايات المتحدة بشأن اتفاقية تجارية تهدف إلى خفض الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس ترامب بسبب مشتريات الهند من النفط الروسي.
تشير التوقعات إلى أن واردات الهند من منتجات الطاقة الروسية ستشهد انخفاضاً إلى أدنى مستوياتها في ثلاث سنوات بحلول ديسمبر 2025، نتيجة للعقوبات والرسوم الجمركية الأمريكية، في حين أعلنت روسيا عن رغبتها في زيادة استيراد السلع الهندية بهدف رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030.
بعد فرض واشنطن تعريفات جمركية وعقوبات شاملة على موسكو بهدف عزلها وإضعاف اقتصادها، كان قطاع الطاقة من أكثر القطاعات تضرراً، إذ اضطرت روسيا لعرض نفطها الخام بأسعار مخفضة بعد فقدان مشترينها الغربيين. واستغلت الهند هذه الفرصة مع تزايد حاجتها للطاقة، فزاد واردها من النفط الروسي بشكل كبير، ما ساعدها على احتواء التضخم وتأمين إمدادات طاقة بأسعار معقولة، مما جعلها سوقاً حيوية لروسيا وشريكاً عملياً لها في ظل العقوبات الغربية.
رافقت بوتين خلال زيارته رئيس شركة "روس نفط" العملاقة، مما يدل على أهمية موسكو لتعزيز صادراتها النفطية إلى الأسواق الآسيوية. وعلى الصعيد السياسي، لم تنضم الهند إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، رغم الضغوط الكبيرة من الولايات المتحدة والدول الغربية.

في هذا السياق، يرى الصحفي والخبير بالشأن الروسي علي إبراهيم أن روسيا التي تم استبعادها من التمويل والتكنولوجيا الغربية، بحاجة ماسة إلى شركاء يستوردون منها ويستطيعون استيعاب صادراتها. مشيرا إلى أن موسكو تهدف لاستخدام الممر التجاري مع الهند لتعزيز توريد سلع أخرى تمكّنها من الصمود اقتصاديا في هذه المرحلة الصعبة.
وأضاف إبراهيم لـ"الاستقلال" أن استمرار الهند في شراء النفط الروسي بأسعار مخفضة يسهم جزئياً في الحفاظ على إيرادات موسكو اللازمة لتمويل حربها في أوكرانيا.
وأشار إلى أن الصناعات الدفاعية تشكل حجر الزاوية في العلاقات بين الهند وروسيا، حيث لا تزال موسكو المورد الرئيس للمعدات العسكرية الهندية، مع تقديرات تشير إلى أن ما بين 60% و70% من المخزون العسكري الهندي الحالي — من طائرات مقاتلة وغواصات إلى دبابات — هو روسي أو سوفيتي المنشأ.
وأوضح أن هذا الواقع يتطلب الحفاظ على علاقة دافئة بين موسكو ونيودلهي لضمان إمداد مستمر بقطع الغيار والتحديثات ودعم الصيانة. كما أن الهند حريصة على زيادة صادراتها من الأدوية والمنتجات الزراعية والمنسوجات إلى روسيا، وتسعى لإزالة الحواجز غير الجمركية، بالإضافة إلى رغبتها في الحصول على إمدادات طويلة الأمد من الأسمدة الروسية، ما يجعل رسم خارطة المصالح هو جوهر زيارة بوتين.
ولفت إلى أن الهند تتطلع أيضاً للحصول على منظومة الدفاع الجوي الروسية إس-400، التي أثبتت فعاليتها في المواجهة العسكرية القصيرة مع باكستان في مايو 2025، رغم أن التأخير الروسي في تسليمها مرتبط بحرب أوكرانيا. ويسعى مودي للحصول على ضمانات من بوتين بشأن مواعيد التسليم، مع العلم أن ذلك لن يتم دون تنازلات، خصوصا في وقت يريد فيه مودي أن يؤكد للداخل الهندي والعالم أنه لا يزال يعد بوتين حليفه ولم يخضع للضغوط الأميركية.
وقال إبراهيم: إن التشابك الكبير في المصالح بين البلدين له أبعاد جيوسياسية أيضاً؛ حيث يريد الكرملين إظهار فشل جهود الغرب لعزل روسيا بسبب حرب أوكرانيا. ولهذا السبب، تركز روسيا على الصين والهند لكسر العزلة الغربية عنها، مستفيدة من ثقل هاتين الدولتين في فتح روابط اقتصادية مع آسيا والجنوب العالمي.
وأضاف أن بعد عزل روسيا عن أوروبا، يسعى الكرملين لتعويض طبقة رجال الأعمال المحسوبين عليه عبر توسيع التعامل التجاري مع الصين والهند، لتظل موسكو لاعباً رئيسا في هذه المناطق الحيوية اقتصاديا.

مصالح متبادلة
شهدت العلاقات الاقتصادية بين الهند وروسيا قفزة نوعية خلال السنوات الأخيرة؛ حيث ارتفع حجم التجارة الثنائية إلى رقم قياسي بلغ 68.72 مليار دولار بنهاية مارس 2025، مقارنة بـ 8.1 مليارات دولار فقط في عام 2020.
ويعزى هذا النمو إلى مشاريع لوجستية إستراتيجية، أبرزها تطوير ممر شمال- جنوب الذي يربط روسيا وبيلاروسيا بالمحيط الهندي، فضلا عن تعزيز دور طريق البحر الشمالي كمسار رئيسي لتسهيل التجارة عبر القطب الشمالي.
ويشمل التعاون بين البلدين تطوير البنية التحتية على طول ممر النقل عبر القطب الشمالي، مما يفتح آفاقاً واسعة لتوسيع حجم التجارة الثنائية. ولا يقتصر التعاون على ذلك، بل يمتد إلى شراكات صناعية متقدمة، مثل إنشاء مصنع روسي هندي للأدوية في منطقة كالوغا لإنتاج علاجات متطورة للسرطان، إلى جانب برامج "صنع في الهند" التي تسمح للشركات الروسية بإنتاج سلعها محلياً.
إضافة إلى ذلك، برزت مبادرات مالية مبتكرة لتعزيز التعاملات في مجال الطاقة بين البلدين، تشمل تحويل المدفوعات من الروبية الهندية إلى اليوان الصيني عبر بنوك معتمدة، مما يسهل التجارة ويعزز التكامل المالي.
تعكس هذه الديناميات المشتركة رؤية الهند وروسيا، العضوين المؤسسين لمجموعة البريكس، لتوسيع نفوذهما الاقتصادي عالمياً، مستفيدتين من تزايد دورهما في شبكة التجارة الدولية وتنويع مساراتها الإستراتيجية.
وفي الرابع من ديسمبر 2025، أفادت وسائل الإعلام أن رئيس بنك VTB الروسي، أندريه كوستين، اقترح على مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف إنشاء آلية لسداد مستحقات الطاقة مع الهند عبر بنوك معتمدة تُحوّل المدفوعات من الروبية إلى اليوان.
وفي هذا الإطار، رأى الكاتب والباحث السياسي الروسي أندريا أونتيكوف أن زيارة بوتين إلى نيودلهي مهمة للطرفين، خاصة في ظل استمرار العقوبات الغربية على روسيا، وتحول الهند إلى أكبر مستهلك للنفط الروسي بأسعار مناسبة.
وأضاف أونتيكوف في تصريحات تلفزيونية أن الهند تواجه ضغوطا أميركية، لكن التقارب مع روسيا يمثل خيارا إستراتيجيا لتأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية.
وأكد التزام البلدين بمواصلة التعاون الاقتصادي والدفاعي، مع بحث روسيا عن طرق لتجاوز العقوبات الغربية، خصوصا في قطاع النفط والخدمات البنكية.
وأشار إلى وجود ممر مشروع جنوب-شمال لنقل البضائع الهندية عبر الأراضي الروسية، معتبراً أن هذه المشاريع تعزز التقارب بين موسكو ونيودلهي في ظل الضغوط الأميركية، وإدراك الهند عدم الاعتماد على واشنطن التي تسعى لفرض سيطرتها.
وختم أونتيكوف بالقول إن الأكثر أهمية بالنسبة لروسيا هو استمرار تصدير النفط إلى الهند، مما يشكل أرضية مشتركة قوية بين البلدين تعزز مصالحهما المتبادلة.
المصادر
- بوتين ومودي يتفقان على زيادة التجارة وتعزيز العلاقات بين الهند وروسيا
- Putin’s visit highlights Indian imports of discounted Russian oil in the face of US sanctions
- Почему Путин предложил в Нью-Дели «вскрыть» рынки Переговоры лидеров России и Индии были сфокусированы на развитии неэнергетической торговли
- Мир, труд, чай














