دمشق ترفض وتل أبيب تصعّد.. هل يتكرر نموذج جنوب لبنان في الجنوب السوري؟

مصعب المجبل | منذ ساعة واحدة

12

طباعة

مشاركة

في تطور خطير يعيد رسم ملامح الصراع السوري-الإسرائيلي، تبدو إسرائيل وكأنها تسعى لتحويل جنوبي سوريا إلى ورقة ضغط سياسية وعسكرية على دمشق.

وصلت المحادثات المتعلقة بتوقيع اتفاق أمني بين الجانبين إلى طريق مسدود، بعد رفض تل أبيب مطلب الرئيس السوري أحمد الشرع بالانسحاب من جميع النقاط التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي عقب سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.

توغل واشتباكات

في الوقت الذي تبرّر فيه تل أبيب توغلاتها العسكرية داخل الأراضي السورية بذريعة "ملاحقة مطلوبين"، ترى دمشق أن ما يجري يشكل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي ومحاولة لفرض واقع احتلالي جديد في الجولان ومحيطه.

وتبدو إسرائيل، المدعومة أميركياً، مصممة على فرض شروطها بالقوة، عادة الجنوب السوري ساحة إستراتيجية لحماية مستوطناتها وتوسيع نفوذها الإقليمي. ويشير مراقبون إلى أن الهجوم الأخير على بلدة بيت جن بريف دمشق يؤكد هذا التوجه، بعد أن أسفر عن سقوط عشرات الشهداء والجرحى.

ففي 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، استُشهد 13 مدنيًا وأصيب 24 آخرون جراء قصف مدفعي إسرائيلي استهدف بلدة بيت جن، عقب عملية توغل لقوات الاحتلال لاعتقال عدد من الشبان. وأدى ذلك إلى اشتباكات مباشرة بين أبناء البلدة والقوات الإسرائيلية، التي أعلنت لاحقا عن إصابة 6 جنود، بينهم 3 ضباط في حالة حرجة، وفق الإعلام العبري.

وعقب الهجوم، قالت وزارة الخارجية السورية في بيان: إن دمشق تدين “الاعتداء الإجرامي والسافر” الذي أدى إلى اندلاع اشتباكات نتيجة “تصدي أهالي البلدة للدورية المعتدية وإجبارها على الانسحاب”. وأكدت الوزارة أن لجوء قوات الاحتلال، بعد فشل التوغل إلى “قصف وحشي متعمد” يشكل “جريمة حرب مكتملة الأركان”، وترى أن ما حدث هو “مجزرة مروعة” بحق المدنيين.

وحملت الخارجية السورية إسرائيل المسؤولية الكاملة عن "العدوان الخطير وما خلفه من ضحايا ودمار"، مشيرة إلى أن استمرار هذه “الاعتداءات الإجرامية” يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي، ويأتي في سياق “سياسة ممنهجة لفرض واقع عدواني بالقوة”.

في المقابل، قالت هيئة البث الإسرائيلية "كان": إن العملية بدأت قرابة الثالثة فجرا، حين نفذ لواء الاحتياط 55 عملية اعتقال استهدفت مطلوبين في بلدة بيت جن، وصفتهم بأنهم “ناشطون في حركة الجماعة الإسلامية اللبنانية”. وأعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي اعتقال 3 أشخاص مرتبطين بالتنظيم، ضمن ما قال إنها “عمليات إحباط” جنوبي سوريا.

كما نقلت "القناة 13" العبرية: إن القيادة العسكرية الإسرائيلية تدرس اعتماد إستراتيجية الاغتيالات الجوية داخل سوريا، في أعقاب إصابة جنودها خلال اشتباكات بيت جن.

ويرى خبراء أمنيون أن ما جرى في البلدة يمثل "مقاومة شعبية" عكست شراسة الأهالي في مواجهة الاحتلال، على خلفية ما وصفوه باعتقالات تعسفية يتعرض لها المدنيون منذ أشهر، مع وجود عدد من المعتقلين السوريين في السجون الإسرائيلية منذ 6 إلى 7 أشهر.

ويؤكد محللون أن أحداث بيت جن تشكل نقطة تحول في الموقف السوري تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وإعلان إسرائيل إلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة عام 1974 مع نظام حافظ الأسد.

وبحسب خبراء في الأمن والدفاع، فإن التوصيف القانوني لما حدث في بيت جن — التي تبعد 50 كيلومترًا فقط عن قلب العاصمة دمشق — يندرج ضمن توغل بري إسرائيلي يرقى إلى مستوى جريمة عابرة للحدود، نفذت عبر اعتداء مسلح استهدف مواطنين ينتمون لدولة ذات سيادة كاملة على أراضيها.

واقع جديد

يشير محللون إلى أن التصعيد الإسرائيلي الأخير يأتي في إطار محاولة للضغط على دمشق عقب فشل جولة المفاوضات الأخيرة، إذ سعت تل أبيب إلى فرض شروط جديدة وغير مسبوقة على الجانب السوري. ومن أبرز نقاط الخلاف طلب إسرائيل إعادة فتح “ممر إنساني” إلى محافظة السويداء جنوب البلاد، وهو طلب رفضته دمشق بشكل قاطع وعدّته انتهاكًا صريحًا لسيادتها.

وفي هذا السياق، قال وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، خلال جلسة سرية للجنة الخارجية والأمن في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2025: إن إسرائيل “ليست في اتجاه سلام مع سوريا”، مدعيًا أن قوات سورية قرب الحدود “تفكر في التوغّل البري نحو مستوطنات الجولان المحتل”.

وسبق ذلك هجوم سياسي حاد شنّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال اجتماع المجلس الوزاري المصغر في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، حيث انتقد الرئيس السوري أحمد الشرع، ويرى أنه “بدأ يفعل ما لا يمكن أن تقبل به تل أبيب”، عقب زيارته “التاريخية” إلى البيت الأبيض في 11 نوفمبر ولقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وبالرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين سوريا وإسرائيل، واستمرار حالة الحرب رسميًا بينهما منذ عقود، عقد الطرفان خلال الفترة الماضية عدة لقاءات بوساطة أمريكية. فقد اجتمع مسؤولون سوريون وإسرائيليون ست مرات لبحث اتفاق أمني يهدف إلى تحقيق استقرار في المناطق الحدودية، غير أن المفاوضات توقفت منذ سبتمبر/أيلول 2025.

وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، قام نتنياهو بجولة ميدانية داخل الشريط العازل خارج المنطقة المحتلة من الجولان، مؤكدًا أهمية بقاء القوات الإسرائيلية فيه، وهي خطوة عدتها دمشق “غير شرعية” وتمثل خرقًا واضحًا لسيادتها.

وعلى الرغم من أن الحكومة السورية الجديدة لم تُظهر — وفق مراقبين — أي تهديد مباشر لإسرائيل، يواصل الجيش الإسرائيلي تنفيذ توغلات متكررة في عمق الجنوب السوري، إلى جانب شن غارات جوية تسببت في مقتل مدنيين وتدمير مواقع وآليات تابعة للجيش السوري منذ سقوط نظام الأسد.

ويشكو سكان القرى والبلدات الحدودية من عمليات توغل إسرائيلية تنال أراضيهم الزراعية — مصدر رزقهم الأساسي — فضلًا عن تدمير مئات الدونمات من الغابات، واعتقال المدنيين، ونصب الحواجز العسكرية وتفتيش المارّة.

وتأتي هذه التطورات في ظل تعزيز إسرائيل وجودها العسكري جنوبًا، متجاوزة حدود المنطقة العازلة المعروفة منذ اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، بما في ذلك السيطرة على نقطة المراقبة الإستراتيجية في جبل الشيخ.

ومنذ إلغاء الاتفاقية، توسعت السيطرة الإسرائيلية لتشمل جبل الشيخ وعددًا من القرى والأراضي بعمق يتجاوز 25 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، لتُلحق هذه المناطق بهضبة الجولان المحتلة منذ عام 1967.

ويُعد جبل الشيخ (جبل حرمون) موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، نظرًا لإشرافه على الجولان المحتل ووقوعه عند تقاطع الحدود السورية اللبنانية، كما يمكن رؤيته من الأراضي الأردنية، ما يجعله نقطة مراقبة وتحكم مركزية في المعادلات الأمنية الإقليمية.

مكاسب محددة

تشير المعطيات الميدانية إلى أن واشنطن وتل أبيب تتحركان في اتجاهين متباينين حيال الملف السوري، في وقت تُظهر فيه الصحافة العبرية بوضوح حجم القلق الإسرائيلي من التقارب المتنامي بين دمشق وواشنطن.

وفي هذا السياق، يرى العميد المتقاعد عبدالله الأسعد، رئيس مركز "رصد" السوري للدراسات الإستراتيجية، أن عملية بيت جن تكشف أن إسرائيل "لا تريد أي اتفاق أمني ولا تسوية حقيقية مع الحكومة السورية".

وقال الأسعد لـ"الاستقلال": "إسرائيل تسعى إلى تحقيق مكاسب محددة، تتمثل في السيطرة على أراضٍ في الجنوب السوري ذات أهمية إستراتيجية، وغنية بالثروة المائية وخصوبة التربة، وتمتد أطماعها وصولًا إلى الريف الغربي لدمشق".

وأوضح أن هذه العوامل تجعل إسرائيل لا تنظر إلى الحكومة السورية بوصفها ندًا مكافئًا لها، إذ ترى — مدفوعة بتفوقها العسكري والدعم الأميركي — أنها صاحبة أحقية في السيطرة على المناطق التي تمنحها نطاق حماية أوسع ومجالًا للتوسع يخدم المستوطنات في الجولان المحتل.

وأضاف الأسعد أن التلال والنقاط الإستراتيجية في تلك المناطق تُعد "بالغة الحيوية"، الأمر الذي يجعل إسرائيل غير مستعدة للتخلي عنها، كونها تراها ضرورية للحفاظ على تفوقها وموقعها الإقليمي.

وبحسب تقديره، فإن التوغل الإسرائيلي يشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار سوريا، ولم يعد مجرد خلاف سياسي، إذ تسعى تل أبيب — بحسب قوله — إلى إخضاع القيادة السورية لشروطها، والإبقاء على قواتها داخل الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، مفضّلة بقاء هذا الوجود العسكري على التوصل إلى أي اتفاق أمني مع دمشق.

وأشار الأسعد إلى أن إسرائيل تحاول فرض نموذج شبيه بما قامت به في جنوب لبنان في السنوات الماضية، وكذلك في قطاع غزة، عبر إنشاء "حزام أمني جديد" داخل العمق السوري يضمن لها تفوقًا إستراتيجيًا في مواجهة أي تغيّر سياسي أو عسكري محتمل داخل سوريا.

وتؤكد دمشق من جانبها أن جبل الشيخ أرض سيادية لا يمكن التنازل عنها، وتبدي استعدادها للعودة إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 "بشروط مُحسّنة" تضمن إشرافًا أميركيًا أوسع على تنفيذ بنود وقف إطلاق النار.