النور السلفي بمصر.. من قراءة "أخبار الحمقى والمغفلين" إلى تطبيقه

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"أخبار الحمقى والمغفلين" أحد الكتب الدارجة والمتداولة في الأوساط السلفية المصرية، خاصة بين أعضاء وأنصار حزب النور، الذراع السياسي للدعوة السلفية بمحافظة الإسكندرية شمالي البلاد.

الكتاب للفقيه الحنبلي عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي أبو الفرج، المعروف بـ"ابن الجوزي"، المتوفى سنة 597 من الهجرة، ويحوي في فصوله طبائع وأنواع الحمقى من الناس مع ذكر لبعض نوادرهم، كما يتضمن الكتاب قصص الأمثال التي ضربت في السفهاء أيضا، بالإضافة إلى الشعر والنثر.

الحزب الذي تناقل أتباعه كتاب النوادر والطرائف، من باب "الترويح عن النفس والهزل في أشياء مفيدة" حسب قولهم، تحوّل الحزب ذات نفسه بمواقفه في عالم السياسة إلى مادة دسمة للسخرية والتهكم، ومسار للطرائف ونوادر الكوميديا.

قادة حزب النور وشيوخه، أصبحوا في مرمى استهزاء الخصوم من مختلف التيارات والتوجهات، بما فيها الإسلامية، بل ومن نظام السيسي أيضا الذي لم يعد يعر لهذا الحزب اهتماما بعد أن تحول إلى مسخ.

بعض من كانوا ضمن صفوف الحزب ومن مؤيديه، تراجعوا بسبب مواقفه المتناقضة، وانقلابه المستمر على ثوابته التي كان يعلنها على الملأ، بداية من تأسيسه إبان ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وحتى دعمه المطلق لنظام  قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي في تعديلاته الدستورية الأخيرة.

لا ونعم "ابن حميدو"

في 16 أبريل/ نيسان 2019، أعلن حزب النور رفضه للتعديلات الدستورية، خلال الجلسة البرلمانية العامة، اعتراضا على استخدام كلمة "مدنية" في الدستور.

وأكد النائب أحمد خليل رئيس الهيئة البرلمانية للحزب، خلال مناقشة مجلس النواب للتعديلات الدستورية أن سبب رفض "النور" لمشروع التعديلات، ورود كلمة "مدنية" كمرادف للعلمانية، وطالب بأن يتم استبدال عبارة "مدنية الدولة" بكلمة "دولة ديمقراطية حديثة".

وفي نفس الجلسة، عاد حزب النور وأعلن تأييده لمشروع التعديلات الدستورية، وذلك بعد طمأنة رئيس البرلمان الدكتور علي عبد العال لهم بأن المدنية لا تعنى العلمانية، بعدها أعلن الحزب السلفي، على لسان رئيس هيئته البرلمانية، موافقته على التعديلات الدستورية.

حالة الرفض الحاسمة التي أظهرها الحزب، ثم تراجعه السريع، لم تكن الأولى في تاريخه، بل هي دأب متكرر، جعلت بعض الشباب الرافضين لسياسة الحزب يشبهون موقفه، بفيلم مصري قديم "ابن حميدو" ذائع الصيت.

الفيلم بطولة الفنان الكوميدي إسماعيل يس وعبد الفتاح القصري بلازمته الأشهر داخل سياق الفيلم، حيث لعب القصري دور صياد يسمى "الريس حنفي" تتحكم فيه زوجته، وكلما كان يصر على قرار (كلمتي لا يمكن تنزل الأرض أبدا)، تتدخل زوجته، ليتراجع عنها بشكل ساخر "كلمتي تنزل المرة دي (هذه المرة)"، وغدا ذلك الفيلم وموقف "الريس حنفي" مثلا يضرب في المجتمع المصري، لمن يظهر الجرأة ويقرر موقف، ثم يتراجع بسهولة.

ثمن الدم

من كوميديا تنازلات التعديلات الدستورية الأخيرة، إلى تراجيديا الواقع القديم، فكما تراجع حزب النور عن موقفه من رفض الدستور، كان تراجع حاضنته الدعوة السلفية عن العديد من المبادئ من قبل محل رصد ومتابعة.

في 5 يناير/ كانون الثاني 2011 ، اختطف رجال أمن الدولة في ذلك الوقت، المواطن سيد بلال "المنتمي للدعوة السلفية بالإسكندرية" من وسط عائلته، وأخذوه إلى مصرعه بعد حفلة تعذيب قاسية.

أصبح سيد بلال أيقونة ثورية مع خالد سعيد، وكلاهما من أبناء الإسكندرية، وكلاهما قتل بنفس الطريقة الوحشية على يد الأمن المصري، الذي استخدم سيد بلال كبش فداء لتفجير كنيسة القديسين.

ولم يكن يعلم سيد بلال الفتى المقتول غدرا، أنه وهو يتلقى دروس العلم عند شيوخه، سوف يكون مقدار دمه عندهم دية مالية مدفوعة تقدم إلى أهله لتجاوز إشكالية قتله ومحاسبة قاتليه، حيث قال نائب الدعوة السلفية ياسر برهامي في حوار له مع جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 18 أبريل/ نيسان 2016، "ما لا يعرفه الكثيرون أن أسرة سيد بلال أخذت الدية من القاتل، حيث تسلمت 250 ألف جنيه، وشقة تقدر بـ 300 ألف جنيه من القاتل، وهذا حصل على يدي، ولذلك طالبتهم بالتنازل عن القضية، ولكنهم لم يستجيبوا لكلامي".

ثورة كاشفة

جاءت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، كاشفة لحقيقة التوجهات والمواقف، ففي 21 يناير/ كانون الثاني 2011، قبل انطلاق الثورة بأيام قليلة، نشر موقع "أنا السلفي" التابع للدعوة السلفية فتوى للشيخ ياسر برهامي، يؤكد فيها موقفه "الرافض للمظاهرات، تغليبا للمصلحة، وتجنبا للفتنة"، وذهب إلى إجماع العلماء على هذا الرأي.

وفي يوم جمعة الغضب الموافق 28 يناير/ كانون الثاني 2011، نشر برهامي مقترح  خطبة جمعة تنص على أن "الإصلاح المطلوب هو إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين"، وذلك من منطلق وعظي عام لا يمس الشأن السياسي، وحذر بوضوح من "التدمير والفوضى"، مصطفا مع رواية النظام وتحذيرات الأجهزة الأمنية في ذلك الوقت.

وكالمعتاد بدأ موقف الدعوة السلفية يتغير تدريجيا، ففي 30 يناير/كانون الثاني 2011، أصدرت الحركة بيانها تدعو "لحماية الطرقات والتعاون مع الجيش"، وفي 1 فبراير/شباط 2011 لأول مرة أصدرت الدعوة بيانا أكثر قوة، تحدثت فيه عن "إصلاحات مطلوبة لتجاوز الموقف الحرج، وفترة انتقالية تعقبها انتخابات لاختيار الأكفأ، والتأكيد على الهوية الإسلامية والإشادة بالتعاون مع الأقباط لحماية الكنائس، والدعوة للعفو والصفح عن المخطئين في الأحداث".

كان قفز الدعوة السلفية بالإسكندرية من مركب الحياد والتوازنات، والنزول إلى بحر الثورة المتلاطم، دلالة على أن نظام مبارك قد فقد سيطرته حرفيا على البلاد وغدا إلى زوال، وأن هناك مرحلة جديدة سوف تبدأ في تاريخ الحياة السياسية المصرية.

وفي 8 فبراير/شباط 2011، وقبل خلع مبارك بأيام معدودة، دشنت الدعوة السلفية مؤتمرا حاشدا حضره عشرات الآلاف بهدف توضيح موقفها من الأحداث، وأكد على مطالب تتعلق بهوية الدولة والتحذير من المساس بالمادة الثانية من الدستور التي تنص على أن مصر دولة إسلامية، وإنهاء حالة الطوارئ وإصلاح المؤسسة الأمنية.

خلال كلمته، امتدح الشيخ محمد المقدم أحد قيادات الدعوة السلفية بالإسكندرية، شباب الثورة، لكن ياسر برهامي منظر الدعوة، أصدر بينا لتدارك الكلمة، ووضح أن موقف الشيخ المقدم يقف عند امتداح الشباب دون الدعوة للاشتراك في التظاهرات، قائلا "لا يمكن أن نوقع لشباب الإنترنت في التظاهرات على بياض، فليس من حقهم تقرير مصير الأمة بل هم جزء منها".

ولادة فجائية

في مارس/ آذار 2011، قررت الدعوة السلفية أن تنخرط تماما في العملية السياسية، ومن رحمها ولد حزب النور، على حين غفلة، بعد انقطاع دائم ومستمر عن المشاركات السياسية، حتى في الاستحقاقات الانتخابية والنقابية.

تحول حزب النور إلى نافذة الدعوة وذراعها، ولم يكن الأمر عابرا على الباحثين المختصين بالحركات الإسلامية والتيار السلفي بشكل خاص، فتأسيس الحزب والدخول إلى عالم السياسة والانتخابات والاستفتاءات بكافة صورها، مثل مراجعة صادمة لأصوليات التيار السلفي المتموضع تاريخيا في جانب سلبي من فكرة إنشاء الأحزاب، والدخول في معارك سياسية والاعتراف بالديمقراطية.

وبعد أن كان يقاطعها ولا يعترف بها وبعضهم كان يحرمها، خاض التيار السلفي الانتخابات، محملا بقيم دينية مثالية بالغة التأثير في وجدان المصريين، واستطاع تحقيق انتصارات مفاجئة، خاصة في الانتخابات البرلمانية التي حل فيها حزب النور ثانيا بـ 123 مقعدا بنسبة 24% من إجمالي المقاعد، متفوقا على أحزاب عريقة مثل الوفد والتجمع، ومنافسا لحزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، الذي تصدر الانتخابات.

على مسرح الانقلاب

كان حضور جلال المرة مبعوث حزب النور السلفي في مشهد الانقلاب العسكري في 3 تموز/يوليو 2013، صادما لكثيرين، فدعم ثاني أكبر الأحزاب الإسلامية وجودا على الساحة، لانقلاب عسكري على رئيس منتخب يمثل اتجاها إسلاميا محافظا (الإخوان المسلمين)، لم يكن بالأمر السهل الذي تقبله الجموع، حتى من بعض السلفيين أنفسهم.

وتحت شعار "حقن الدماء" جاء تبرير قادة الحزب ووجهائه لموقفهم، حسبما صرح المتحدث الرسمي في ذلك الوقت نادر بكار، "للحفاظ على الدولة من خطر الانقسام"، لكن لم تحقن الدماء بل تفجرت أنهارا في سائر الميادين، وقتل الآلاف من أبناء الشعب، وبعدها لم يبد الحزب أي موقف جاد لوقف نزيف الدماء في حواث المنصة والحرس الجمهوري ورابعة والنهضة وغيرها، وهو ما قد يفسر السقوط المزري للحزب سياسيا وشعبيا، فلا حاضنته الإسلامية تقبلته، ولا من اصطف معهم قبلوه بخلفيته المخالفة لأجندتهم.

في خدمة النظام

مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مايو/ آيار 2014، قاد حزب النور بقيادة رئيسه يونس مخيون، والرجل المتحكم في سياسته ياسر برهامي، حملة لدعم الجنرال الصاعد، معتبرين إياه معتدلا ومحافظا على الصلاة كما أعلنوا، وأيدوه في جميع الانتخابات المعقودة بما في ذلك انتخابات الرئاسة للفترة الثانية التي عقدت في مايو/ آيار 2018، ونظموا المؤتمرات والحشود لتأييده.

واعتبرت التحليلات الراصدة لسلوك الحزب، أنه يمثل نموذجا نادرا لمواقف شديدة البراغماتية والتناقض في آن واحد، بشكل مثير للسخرية، وأن الشيوخ الذين بسطوا نفوذهم على الحزب خطوا خطوات حثيثة لإفشال العملية السياسية بعد ثورة يناير، فمن مجابهة الثورة في مهدها إلى مهادنة الانقلاب في عنفوانه كان الخط واضحا من استخدام تلك الحركة لإحداث حالة سلبية في بنية التيار الإسلامي المصري.

الشيخ محمد عوف عضو جبهة علماء الأزهر، قال لـ "الاستقلال": "حزب النور شريك أساسي مع النظام القائم منذ انقلابه في  3 يوليو/تموز 2013، وداعم لوجستي له تحت قيادة عبد الفتاح السيسي، ويمثل الذراع الديني غير الرسمي للنظام في مصر، ولا عجب أن يشارك فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية وتأييد السيسي وخاصة بعدما تحول من شريك إلى تابع وخادم للنظام في الوقت الراهن".

عوف أضاف: "الحقيقة أن حزب النور لم يسقط في نظر المعارضين أو عموم المجتمع فحسب بل سقط أيضا من نظر النظام الذي يعمل في خدمته، وذلك نظرا للانبطاح الشديد الذي يمارسه الحزب في خدمة النظام دون قيد أو شرط أو ثوابت أو حدود، لقد ظهر الحزب الذي كان وما زال يمارس التشديد على الناس في بعض المظاهر الدينية والشعائر التعبدية والقشور الفكرية في المختلف فيه من فروع الدين بلا مرجعية حقيقية ومنهج واضح مع انبطاح ومداهنة رخيصة للنظام العسكري الانقلابي".