أسوأ انكماش.. ما الحل لمواجهة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في لبنان؟

طارق الشال | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

شهد الاقتصاد اللبناني خلال عام 2020. حالة من التراجع الشديد الناتج عن عدة عوامل، أبرزها: "جائحة كورونا" التي عصفت باقتصاديات العالم، ومن ثم انفجار "مرفأ بيروت"، وإعلان الحكومة اللبنانية عدم سداد ما عليها من مستحقات فيما يسمى بـ"سندات اليوروبوند" وانهيار العملة المحلية وارتفاع معدلات البطالة والتضخم.

دفعت كل تلك المؤشرات البنك الدولي للتوقع بأن يأتي معدل النمو اللبناني بنحو سالب 19.2 بالمئة خلال العام 2020.

ولم يكن البنك الدولي الوحيد صاحب تلك المؤشرات السلبية الدالة على الاقتصاد المتدني، حيث توقع صندوق النقد الدولي أن يشهد انكماشا بنحو 26 بالمئة، بينما يتوقع مصرف (Barclays Capital) أن ينكمش بنحو 28.5 بالمئة.

وأكد تقرير البنك الدولي في المرصد الاقتصادي للبنان، في الأول من ديسمبر/كانون الأول 2020، أن الفقر سيواصل التفاقم على الأرجح، ليصبح أكثر من نصف سكان البلاد فقراء بحلول 2021، فيما من المتوقع أن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 194 بالمئة ارتفاعا من 171 بالمئة في نهاية 2019.

وأشار التقرير إلى أن ذلك سيؤثر على السكان "من خلال قنوات مختلفة مثل فقدان العمالة المنتجة، وانخفاض القوة الشرائية الحقيقية، وتوقف التحويلات الدولية".

كما سيدفع ذلك أيضا العمالة عالية المهارة للبحث عن فرص محتملة في الخارج، ما يشكل خسارة اجتماعية واقتصادية دائمة للبلاد.

أسوأ انكماش

تأتي تلك المؤشرات لتثير الريبة حول مستقبل الاقتصاد اللبناني في ظل تفاقم الأزمات دون وجود أي بارقة أمل، وعدم وجود حكومة منذ أربعة أشهر لإيجاد حلول عاجلة لوقف هذا النزيف ووقف تعداد الفقراء المتزايد على أقل تقدير.

وبحسب كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك "بيبلوس"، نسيب غبريل، فإن المنحى الاقتصادي السلبي واضح في لبنان في ضوء عدم معالجة الأزمات.

وهذه الأزمات تبدأ من عدم إقرار قانون ضبط التحويلات إلى الخارج فيما يعرف بقانون (capital control)، إلى عدم القدرة على مواجهة تداعيات أزمة "كورونا" نقديا وماليا من خلال التنسيق بين السياسه النقديه والماليه، بالإضافة إلى إعلان الحكومة في مارس/آذار. التعثر عن تسديد سندات "اليوروبوند".

وأشار غبريل، لـ"الاستقلال"، إلى أن هذا -انكماش الاقتصاد اللبناني- يعد الأسوأ في العالم خلال عام 2020، وبخاصة في ظل توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتأخر في بدء العمل على الإصلاحات والإجراءات التي من شأنها إعادة الثقة للاقتصاد المحلي.

وفي 3 يوليو/تموز 2020، قال وزير المال اللبناني، "غازي وزني": "إن المفاوضات الرسمية بين الدولة اللبنانية وصندوق النقد الدولي معلقة حتى بدء لبنان تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منه دوليا".

ويرى "غبريل"، أن دخل الفرد سيتراجع نتيجة الاستغناء عن العمالة والموظفين في الشركات نتيجة تراكم الأزمات، بالإضافة إلى الحديث عن تخفيض الدعم عن المواد الأساسية، وبالتالي تراجع القدرة الشرائية والوضع الاجتماعي والمعيشي للفرد.

وأشار، إلى أن نسب المواطنين المهاجرين سترتفع بحثا عن فرص عمل أفضل سواء في الإمارات أو السعودية أو الخليج العربي أو أوروبا وأميركا وإفريقيا.

وتقدر المؤسسة "الدولية للمعلومات" أن عدد اللبنانيين الذين غادروا البلاد من دون عودة في عام 2019. إلى 66 ألف مقارنة بـ33 في 33 ألف أي زيادة بنسبة 100 بالمئة، فيما تأتي توقعات "الدولية للمعلومات" لعام 2020. بنحو 25 ألف مهاجر.

وأرجعت هذا الانخفاض إلى إغلاق البلاد الأوروبية والركود الاقتصادي العالمي وعدم توفر الوظائف في الخارج، لكن تتنبأ بعد انتهاء "كورونا"، والعودة التامة إلى العمل أن تشهد أرقام معدلات الهجرة في لبنان ارتفاعا كبيرا.

فيما أكد رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، "باتريك مارديني"، أن الناتج المحلي الإجمالي كان يبلغ نحو 53 مليار دولار خلال عام 2019. ومن المتوقع أن ينخفض إلى نحو 18 مليار دولار، أي أكثر من النصف، وذلك نتيجة الانكماش الاقتصادي وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من 1500 ليرة إلى 8400 ليرة بالسوق السوداء.

وأضاف مارديني، لـ"الاستقلال"، أن السبب الرئيس لافتقار الشعب اللبناني بهذه السرعة التي يشهدها اليوم، هو انخفاض  قيمة العملة المحلية مع غلاء أسعار السلع، مما يؤدي إلى التضخم المفرط الذي لا يمكن التخلص من الأزمة المالية والمصرفية والاقتصادية دون حله في المرتبة الأولى.

وانحسر الاستهلاك الخاص بنسبة 7.3 بالمئة سنة 2019، ومن المرتقب أن ينخفض بنسبة كبيرة تبلغ 23.4 بالمئة بنهاية عام 2020، تأثرا بانهيار سعر الصرف الفعلي لليرة اللبنانية والارتفاع الكبير في الأسعار.

كما أنه من المنتظر، أن ينكمش الاستهلاك العام بنهاية عام 2020. بنسبة 64.7 بالمئة، نظرا للتدهور المالي الكبير في القدرة التمويلية للخزينة العامة.

ويتوقع "مارديني"، أن ينكمش الاقتصاد اللبناني خلال عام 2021. بنحو يتراوح ما بين 6 إلى 7 بالمئة، وبالتالي السير نحو فترة ركود اقتصادي كبير لا يوجد في مقابله أي إصلاح مثل السعي نحو تثبيت سعر الصرف، وترشيد النفقات العامة، وتخفيض حجم الحكومة، وخصخصة بعض القطاعات بشكل تنافسي وتحديدا قطاعي الكهرباء والاتصالات.

استحالة الاستدانة

وفي ظل معاناة المالية العامة من خلل كبير بين الإيرادات والنفقات، فمن المتوقع أن يبلغ العجز المالي -12.1 بالمئة لسنة 2020. كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما انخفض احتياطي العملات الأجنبية بمصرف لبنان إلى 17.3 مليار دولار، وذلك مع معدلات الدين المرتفعة مما يصعب أو يجعل من المحال الاقتراض من المؤسسات الدولية.

وفي هذا السياق، يرى "غبريل"، أن الاقتراض غير ممكن منذ 7 مارس/آذار 2020. حين أعلنت الحكومة عن اتخاذها "خطأ تاريخيا" حين أعلنت التعثر عن تسديد سندات "اليورو بوند"، مما أثار مخاوف المقرضين، وبالتالي لا يمكن أن تستدين لبنان اليوم من الخارج دولارا واحدا، متوقعا بلوغ الدين العام خلال عام 2020. نحو 95 مليار دولار.

وأشار، إلى أن هناك طريقا وحيدا أمام السلطات اللبنانية وهو العودة إلى طاولة المحادثات مع صندوق النقد الدولي، والوصول إلى اتفاق تمويلي إصلاحي مع الصندوق، وبدء تطبيق هذا المشروع وتوقيع الصندوق على اتفاق من هذا النوع مع السلطات اللبنانية، لإعطاء مصداقية للمشروع الإصلاحي مع الانضباط في تطبيقه.

وتابع: "سيؤدي ذلك أولا إلى بدء ضخ السيولة إلى الاقتصاد اللبناني من قبل صندوق النقد ومؤسسات متعددة الأطراف الأخرى".

 مع العلم أن صندوق النقد لن يوقع على المشروع الإصلاحي في حال لم يضمن إعادة جدولة للدين العام التي ستؤدي مع الإصلاحات إلى تخفيض حجم الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي، وفق تقديره.

واشترط صندوق النقد عدة شروط لدعم لبنان وتقديم التمويل اللازم، تتمثل في استعادة ملاءة الموارد العامة وصلابة النظام المالي، ووضع ضمانات وقائية مؤقتة لتجنب استمرار خروج رؤوس الأموال الذي يمكن أن يزيد من ضعف النظام المالي خلال فترة ترسخ الإصلاحات المطلوبة.

بالإضافة إلى اتخاذ خطوات صريحة لتخفيض الخسائر طويلة الأمد في كثير من المؤسسات العامة، وإرساء شبكة موسعة للأمان الاجتماعي من أجل حماية فئات الشعب اللبناني الأكثر هشاشة، فلا يجب أن يُطلَب من هذه الفئات أن تتحمل تبعات الأثر المدمر لهذه الأزمة.

وأوضح "مارديني"، أن أسباب استدانة لبنان تأتي نتيجة أن نفقات الدولة أعلى من إيراداتها، وبالتالي تقوم بتغطية هذا الفرق من خلال الاستدانة، مشيرا إلى أن الإصلاح الطبيعي يبدأ من خفض النفقات العامة لتحويل العجز الحاصل في الموازنة إلى فائض.

وأكد، أنه بدلا من ذلك تقوم الحكومة اللبنانية اليوم بتمويل نفقاتها من خلال التوجه إلى المصرف اللبناني عن طريق طباعة مزيد من النقود أي زيادة الكتلة النقدية، مما يتسبب في كارثة التضخم التي هي بالأساس سبب ارتفاع سعر الدولار.

خطوات أساسية

ورغم وضوح المشكلات الاقتصادية المرهونة بالنزاعات السياسية الداخلية الضيقة والفساد المتفشي داخل البلاد، فإنه لا يوجد خطوات حقيقية على أرض الواقع لحلها.

لذلك طالب "غبريل"، بضرورة الإسراع في تشكيل حكومة تكون لديها مصداقية وتتمحور أولويتها حول الأوضاع المعيشية والاقتصادية.

 كما يجب عليها تطوير برنامج إصلاحي يدعم بشكل أساسي النمو الاقتصادي والقطاع الخاص كونه عجلة الاقتصاد. كذلك عليها وضع خطة مالية متوسطة الأجل للتصحيح المالي والاختلالات بالمالية العامة.

هذا بالإضافة إلى وضع تصور لتوحيد أسعار صرف الدولار في السوق اللبناني، وتحديد متأخرات الحكومة اللبنانية للمؤسسات العامة والقطاعات الخاصة.

ويرى أيضا، أنه لا بد من وضع آلية لحل الأزمة المصرفية، "هذه الخطوات الأساسية التي يجب أن تأخذها أي حكومة تتشكل، ولكن ليس واضحا متى ستتشكل، ولكن لا يبدو أنه سيكون قريبا"، وفق الخبير الاقتصادي.

وحول تصحيح مسار الليرة اللبنانية لوقف انهيارها وإعادة الثقة لدى المتعاملين بها، يرى "مارديني"، أن الحل الوحيد الآن يتمثل في إعلان مجلس نقد يعمل على خلق حالة من الاتزان بين العملة المحلية للبلاد وغطائها النقدي من خلال منع طباعة أي ليرة دون أن يكون لها ما يوازيها من غطاء نقدي مثل الذهب أو الدولار.

يأتي هذا الاقتراح ليتماشي مع المعطيات الاقتصادية الموجودة، فلا يمكن الاعتماد على الحركة الاقتصادية لدعم العملة المحلية في ظل الانكماش الاقتصادي الحاصل.

وتابع: "الفقر الحاصل في لبنان والذي صعد من 22 إلى 55 بالمئة، سببه انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار نتيجة السياسة النقدية المتبعة من قبل الحكومة والمصرف اللبناني بالأساس، مما يعني أنه لا يوجد قعر للأزمة وأن الحل الوحيد هو أن تخفض الحكومة من نفقاتها حتى تتساوى مع مدخولتها الضريبية"