دعوى "الإسلام الفرنسي".. كيف استدعى ماكرون تجربة نابليون مع اليهود؟

زياد المزغني | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

في عام 1808 أنشأ الرئيس الفرنسي السابق نابليون بونابرت منظمة تعرف باسم "the Consistoire Central Israélite "، وبالعربية "مجمع الطائفة الإسرائيلية"، بهدف تنظيم ممارسة الديانة اليهودية في فرنسا.

أوليفر روي، وهو خبير في الإسلام الفرنسي وأستاذ في الجامعة الأوروبية، قال لصحيفة واشنطن بوست: "أحد مصادر الإلهام الواضحة في خطط ماكرون هو تلك المنظمة التي أنشأها نابليون لليهود، لكن نابليون كان قادرا على تحقيق ذلك، لأنه كان رئيس دولة استبدادية".

وأضاف: "ليس لدى الدولة المدنية حق قانوني في التدخل في الدين. سيكون ذلك غير دستوري"، فهل استلهم ماكرون أفكاره الداعية لتنظيم شؤون المسلمين في فرنسا من ملهمه بونابرت؟.

تجربة بونابرت

منحت الثورة الفرنسية أعضاء الجماعات اليهودية كل حقوق المواطنين، وحاولت دمجهم في المجتمع عن طريق فتح المدارس لأبنائهم، وتشجيعهم على التخلي عن تميزهم الوظيفي. 

أحد قرارات الثورة نص على أن الحقوق هي حقوق تمنح للأفراد من أتباع العقيدة اليهودية، وليست للأقلية اليهودية باعتبارها جماعة متماسكة، وهو ما عبَّر عنه شعـار "لليهود أفرادا كل شيء، ولليهود جماعة لا شيء".

كان لدى نابليون بونابرت رؤية مختلفة، فبعد أن قام بتنظيم علاقة الدولة بالكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية، دعا عام 1806 إلى عقد مجلس ضم 100 عضو من وجهاء اليهود في الأراضي الخاضعة لحكم فرنسا.

وترأس مجلس الوجهاء يهودي سفاردي من بوردو، وطرح عليهم اثني عشر سؤالا عن موقف اليهود من بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية والدينية المهمة المتعلقة بعلاقتهم بوطنهم.

تمثلت الأسئلة في: هل يعتبر اليهود أنفسهم أجانب أم فرنسيين؟ وهل هم على استعداد للدفاع عن الوطن؟ وهل تشجع اليهودية على الربا الفاحش أم لا؟ وهل هناك تناقض بين الإجراءات اليهودية والقانون الفرنسي بشأن الزواج والطلاق؟ وهل يُسمح لليهود بالزواج من المسيحيين؟.

 وقرر المجلس أن اليهودي يتعيَّن عليه أن يعتبر الأرض التي وُلد عليها وطنه، وعليه أن يدافع عنها، كما يتعيَّن على كل يهودي أن يعتبر بقية المواطنين إخوته. 

كما أكد المجلس أن الشريعة اليهودية وقوانينها لا تتناقض البتة مع القانون الفرنسي المدني، فاليهودية تحظر تعدد الزوجات، وقرر أن الطلاق (بحسب الشريعة اليهودية) لا يصبح شرعيا إلا بعد الطلاق المدني، وأن الزواج (بحسب الشريعة اليهودية) لا يصبح شرعيا إلا إذا سبقه زواج مدني.

ثم دعا نابليون في فبراير/شباط 1807 إلى مؤتمر أطلق عليه "السنهدرين الأكبر" يضم الحاخامات وبعض اليهود من غير رجال الدين ليؤكد القرارات التي توصل إليها هؤلاء الوجهاء.

وأعلن السنهدرين ولاءه الكامل للإمبراطور، وبطلان أية جوانب في التراث اليهودي تتناقض مع ما يتطلبه واجب المواطنة، وصادق السنهدرين على قرارات مجلس الوجهاء، كما أصدر قوانين تمنع تعدد الزوجات والربا وأخرى تحتم إجراء الطلاق المدني.

وأصدر نابليون بعد ذلك قراراته الخاصة بتنظيم علاقة اليهودية بالدولة الفرنسية، وفي عام 1808، أصدر مرسومين تم بمقتضى الأول إقامة نظام من المجالس الكنسية، وهي لجان من الحاخامات والرجال العاديين للإشراف على الشؤون اليهودية تحت إشراف مجلس كنسي مركزي.

وكان من مهام هذه المجالس أن ترعى معابد اليهود وغيرها من المؤسسات الدينية، وتنفذ قوانين التجنيد وتشجيع اليهود على تغيير المهن التي يشتغلون بها.

أما المرسوم الثاني فاعترف باليهودية دينا كما أصبح الحاخامات مندوبين للدولة مهمتهم تعليم أعضاء الجماعات اليهودية تعاليم دينهم وتلقينهم الولاء للدولة وأن الخدمة العسكرية واجب مقدس، إلا أن الأدبيات اليهودية والصهيونية تطلق على هذه القرارات اسم "القرار المشين".

"حماية العلمانية"

لا تزال فرنسا بمؤسساتها الرسمية منذ فترة تعيش تحت ما بات يعرف "الإسلاموفوبيا"، والذي يتجسد على مدار عقود في أشكال وممارسات مختلفة من منع الحجاب وصولا إلى الوقوف وراء حملة الإساءة لمقدسات المسلمين وربط الإرهاب بالدين الإسلامي. 

تحت شعار الحفاظ على العلمانية، وهي التي يتذرع بها قادة فرنسا لتحويل ممارسات التمييز ضد المسلمين إلى سياسية ممنهجة قانونيا، تعمل الجمهورية الفرنسية تحت قيادة إيمانويل ماكرون الذي يعتبر أن المسلمين البالغ عددهم أكثر من 6 ملايين مواطن فرنسي بـ"المجتمع الموازي" وبأن الإسلام يُواجه "أزمة"، على فرض إجراءات جديدة وخلق مؤسسات لإدارة الشأن الديني".

في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، التقى الرئيس ماكرون وفدا من مجلس الديانة الإسلامية وبحث معه الخطوط العريضة لتشكيل مجلس للأئمة يكون مسؤولا عن إصدار الاعتمادات لرجال الدين المسلمين في فرنسا وسحبها منهم عند الاقتضاء.

وأمهلت الرئاسة الفرنسية الوفد لإعداد ميثاق للقيم الجمهورية خلال 15 يوما، ويتعين على المجلس والاتحادات التسعة التي يتألف منها الالتزام به، وإلزام كافة المنتمين لهم بتطبيقه على أكمل وجه.

وأوضح قصر الإليزيه أن الميثاق يجب أن يتضمن تأكيدا على الاعتراف بقيم الجمهورية، وأن يحدد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية، وأن ينص على إنهاء التدخل الخارجي أو الانتماء لدول أجنبية.

ويقدر عدد الأئمة المبتعثين لفرنسا من دول إسلامية ما بين 250 إلى 300 إمام، وهم 70 من الجزائر و50 من المغرب و120 إلى 130 من تركيا، و600 من جنسيات مختلفة، توظفهم المساجد مباشرة في فرنسا.

وأكد وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير يوم 19 فبراير/شباط 2020 أن نهاية برنامج "الأئمة المبتعثين" الذي تحدث عنه ماكرون، مقرر أن ينتهي في العام 2024.

"تأهيل الأئمة"

وتسرع السلطات في فرنسا العمل على مشروع لتدريب "أئمة على الطريقة الفرنسية"، وذلك لوقف استقدام أئمة من الخارج وإضفاء استقلالية مالية وفكرية على تدريب المسؤولين الروحيين للجالية المسلمة حسب تعبيرها . 

وبحسب باريس، يجب على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، المحاور الرئيسي للسلطات، أن يؤسس خلال 6 أشهر مسار "تأهيل وتدريب الأئمة" وتنظيم "شهادات" اعتماد لهم ووضع "ميثاق يؤدي عدم احترامه إلى العزل".

وبدأ المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الجانب العملي من المشروع، وينظم يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أول جلسة عامة للجنة المكلفة بدراسة موضوع تدريب الأئمة.

والهدف هو تأسيس "مرتكز وبرنامج مشترك يضع في الحسبان السياق الفرنسي" (المؤسسات، التاريخ، إلخ). وبناء على هذا "الإطار المرجعي" يمكن لكل منطقة تأسيس معهدها الخاص.

ولإثارة اهتمام الشباب، دعا رئيس المجلس محمد موسوي الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والمغربية طلبته إلى الانخراط في اختصاص مزدوج في الجامعة، تكون علوم الإسلام ضمنه.

في هذا السياق، لفت تقرير صدر عن معهد بروكينغز الأميركي عام 2019 إلى أن المغرب والجزائر وتركيا تواصل تعزيز وضع قبضتها على التعبير الديني الإسلامي في فرنسا، وقال التقرير: إن المغرب والجزائر المتنازعين على خلفية قضية البوليساريو، "يتنافسان في الداخل الفرنسي".

ولفت تقرير بروكينغز إلى أن تأثير تلك البلدان أدى الى إخفاق تجارب فرنسية سابقة، خصوصا في ظل خوض الجزائر والمغرب حربا بالوكالة من أجل كسب ولاء المسلمين الفرنسيين. 

وجاء اجتماع ماكرون مع ممثلي المسلمين الفرنسيين، بعد يوم واحد فقط من إحالة الحكومة مشروع قانون "ترسيخ مبادئ الجمهورية"، إلى رئيسي غرفتي البرلمان.

القانون المقترح يأتي في إطار معركة واسعة النطاق يخوضها ماكرون للدفاع عن العلمانية في مواجهة ما يسميه "الإسلام الانعزالي"، قبيل نحو 14 شهرا من الانتخابات الفرنسية، والتي تسجل صعود الخطاب اليميني المتطرف المعادي للمسلمين.

وأثناء عرضه مشروع قانون حول ما أسماه "الانعزالية الإسلامية" يهدف إلى "هيكلة الإسلام" في فرنسا في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، قال ماكرون: "سنمارس عليهم ضغطا هائلا (في إشارة إلى المؤسسات الإسلامية) الفشل غير مسموح به".

"إسلام فرنسي!"

هذه الدعوة التي أثيرت مجددا بعد أزمة الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، سبق وأن تم طرحها قبيل الانتخابات البلدية الأخيرة التي شهدتها فرنسا في 15 مارس/ آذار 2020، حين أعلن الرئيس ماكرون نيته إقراره جملة تدابير من أجل هيكلة الحقل الديني الإسلامي في بلاده.

وتقوم الإستراتيجية الجديدة ضد "الانفصال الإسلامي"ـ بحسب تعبير ماكرون على 4 محاور أساسية، يتم العمل على تطبيقها  بشكل متواز، قصد إنتاج "إسلام فرنسي" يتوافق مع مبادئ الجمهورية الخامسة.

أولها إحكام السيطرة على المساجد والمدارس وأماكن العبادة، ثم فرض السيادة الفرنسية على المرشدين ورجال الدين المسلمين، من خلال الإشراف المباشر على تكوين هؤلاء في فرنسا، حتى يتعلموا اللغة والقانون الفرنسيين، إضافة إلى إلغاء نظام الإذن للحكومات الأجنبية لتدريس مواطنيها لغات بلدانهم الأصلية  وخصوصا العربية والتركية.

كما ستعمل السلطات الفرنسية على تشديد الرقابة على التمويلات الأجنبية للمساجد في فرنسا، بإخضاع كل مداخيلها لرقابة الجمعية الإسلامية للإسلام في فرنسا (AMIF) التي أسست قبل أكثر من سنة من أجل تحقيق هذا الهدف.

تهدف الحكومة الفرنسية، حسب ماكرون، من هذه الخطة إلى "حماية حوالي 6 ملايين مسلم، ممن يشكلون 8% من إجمالي سكان فرنسا، وأكبر جالية إسلامية في أوروبا الغربية، من مخاطر الانفصال الإسلامي الذي يمثل مشروعا سياسيا معاديا، يعمد المتشبعون به إلى تغليب تعاليم الدين على قوانين الجمهورية".

انقلاب ماكرون

لكن هذه القضية، تكشف عن أشياء أخرى، جعلت الرئيس "الليبرالي" ينقلب في مواقفه، ويتنكر لقناعات أيامه الأولى في الرئاسة، وحتى لتصريحاته إبان الحملة الانتخابية.

ويعتبر أغلب المتابعين أن ما يقع هو مجرد ركوب على موجة صعود اليمين المتطرف، كما أنها تنكر لقيم اللائكية اليعقوبية الفرنسية التي تفصل بشكل حاد بين الدولة والدين وتمنع أي تدخل من أي طرف في الآخر.

ووفق مراقبين، فإن توجه ماكرون الحالي يهدف إلى استغلال الدين الإسلامي لأغراضه السياسية وتطويعه من أجل خدمة توجهاته ورؤيته للمجتمع الفرنسي.

في عام 2004، صدر في فرنسا القانون الذي يحظر الرموز الدينية في المدارس، ورأى فيه المسلمون استهدافا لهم، رغم أنه شمل سائر الأديان، كما فُرض حظر عام 2010 على الحجاب الكامل في الأماكن العامة.

اعتبر بعض المسلمين أن فكرة "الإسلام الفرنسي"، التي أوجدتها الدولة قد تبدو أداة لخنق حرية التعبير الديني، ومحاولة لقتل جميع مظاهر الاختلاف في المجتمع الفرنسي متعدد الأعراق الديانات والأفكار.

وعام 2018، عيّن ماكرون الخبير المصرفي من أصل تونسي حكيم القروي، وهو زميل في معهد مونتين، مستشارا لشؤون المسلمين بهدف مساعدته في خطته، ويدعم القروي خطة ماكرون ويعارض المظاهر الدينية مثل الحجاب.

أثار هذا الاختيار انتقادات عارمة لأن القروي ليس رجل دين بل مصرفي، حيث قالت صحيفة واشنطن بوست الأميركية: "مصرفي سابق في شركة روتشيلد للاستثمار، ولديه خبرة اجتماعية رفيعة المستوى ويفضل البدلات المصممة جيدا، والقمصان البيضاء، والأفكار الكبيرة النبيلة، والرئيس الفرنسي مفتون بأفكاره".