عبدالكريم قاسم.. معلم فقير قاد انقلاب 14 تموز واختلف عليه العراقيون

يوسف العلي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مع مرور الذكرى الـ62 على بدء العهد الجمهوري في العراق، لا يزال الجدل قائما على شخصية عبد الكريم قاسم، الذي قائد انقلابا عسكريا على النظام الملكي مع مجموعة من الضباط في 14 يوليو/ تموز 1958، وقتل العائلة المالكة داخل قصر الرحاب في بغداد.  

الجدل الكبير حول الشخصية العسكرية التي حكمت البلاد 5 سنوات، يتجدد كلما حلت على العراق ما يطلق عليه "ثورة 14 تموز" التي تحتفل الدولة رسميا بذكراها، بينما كثير من العراقيين يعتبرونه "يوما أسود" تسبب بجميع النكبات التي تمر بها البلاد.

معلم فقير

ولد عبد الكريم قاسم محمد بكر عثمان الفضلي الزبيدي في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1914، لعائلة فقيرة تسكن محلة المهدية، أحد أحياء بغداد الشَعبية، لأب مسلم سُنّي يَعمل نجارا، ولأم من عائلة شيعية تنتسب إلى بني تميم ولديه شقيقان هما حامد، شقيقه الأكبر ولطيف شقيقه الأصغر، وله أُختان.

السياسي الكردي عبد الواحد الفيلي، كشف خلال تصريحات صحفية في 14 يوليو/ تموز 2020، أن أصول عبد الكريم قاسم تعود إلى الكرد الفيليين (الإيرانيين) مستندا بذلك إلى كتاب "أسرار معاهدة الجزائر 1975 - من الملفات السرية للغاية للسافاك" الذي ألفه عيسى بجمان مسؤول ملف الكرد في العراق بمؤسسة الاستخبارات الإيرانية "سافاك"، وكذلك إفادات جعفر رائد، الأمين العام للسفارة الإيرانية ببغداد.

الفيلي أكد أن كتاب عيسى بجمان حسم الأمر بالقول: "ليست والدة عبد الكريم قاسم فقط، بل كان والده كرديا فيليا أيضا وكذلك جدته من جهة والدته"، مبينا أن "عيسى بجمان ومن خلال زياراته لعبد الكريم قاسم حينما كان في بغداد، تأكد من قاسم كردي وقد ذكر ذلك في كتابه، وأن جدة قاسم هي (كيفي حسن يعقوب) "تنحدر من عشيرة سوكاني تميمي وهي كردية فيلية".

وإلى جانب القومية، لا يُعلم مذهب عبد الكريم قاسم حيث كان حريصا على عدم إعلان ذلك ويقول المقربون منه إنه كان يغلق الباب على نفسه حينما كان يُصلي حتى لا تظهر طريقة أدائه الصلاة سواء على الطريقة السنية أم الشيعية.

ونقل عبد الواحد الفيلي عن القاضي زكي إسماعيل حقي وهو شاهد على اجتماع عقد بين القادة الأكراد الملا مصطفى البارزاني وإبراهيم أحمد وجلال طالباني مع عبد الكريم قاسم، قوله: "حينما وصلت هذه الشخصيات الكردية إلى بغداد، أغلق عبد الكريم قاسم باب مكتبه، وأبلغهم سكرتيره أنه فعل ذلك لأداء الصلاة، وبعد برهة قصيرة فتح الباب ورحب بهم في مكتبه".

انتقلت عائلة قاسم وهو في السادسة من عُمره إلى قضاء الصويرة في محافظة واسط العراقية، بسبب عدم تمكن والده من الإيفاء بحاجات ومتطلبات عائلته الحياتية، وعمل فلاحا لتحسين حالته المعيشية.

دخل عبد الكريم قاسم مدرسة الصويرة الابتدائية، وأمضى فيها 4 سنوات ثم عاد إلى بغداد وأكمل تعليمه الابتدائي والثانوي هُناك، وبعد تخرجه عمل معلما في قضاء الشامية بمحافظة واسط.

 

علاقته ببريطانيا

دخل عبد الكريم قاسم السلك العسكري بعدما أعلن الجيش العراقي في عام 1932 حاجته لضباط جدد، وتخرج منها بتفوق في عام 1934 برتبة مُلازم ثان، وتَدرج في رتبته إلى أن وصل إلى رتبة زعيم ركن (عميد ركن) وكان آخر مركز شغَله في المؤسسة العسكرية هو آمر (قائد) اللواء التاسع عشر.

شارك قاسم في العديد من الحروب والحركات مثل حرب فلسطين وحركات الفرات الأولى، و"حركة مايس" التَحررية عام 1941 والعديد من الدورات العَسكرية، وحصل على العديد من الأوسمة، وفي التقارير التي وردت عنه أنه "ضابط ركن جيد خلوق جدا وسيكون من ضباط الجيش القديرين".

وفي حياة عبد الكريم قاسم العسكرية، يكشف المؤرخ العراقي عماد عبد السلام رؤوف في كتابه "الملفة الشخصية للواء الركن عبد الكريم قاسم" عن لغز اختفاء قاسم لمدة 4 أشهر، بالقول: "تواري قاسم عن الأنظار خلال سفره إلى بريطانيا عام 1947".

وأوضح الكاتب أن "قاسم لم يبلغ السفارة العراقية في لندن، أو الملحقية العسكرية فيها، بوصوله، حتى أن السفارة اضطرت لإبلاغ بغداد بأنها لا تعلم عن مصيره شيئا بعد 4 أشهر من انتهاء إجازته في 5 أبريل/ نيسان 1947".

وحسب رؤوف، فإن وثيقة مؤرخة في 9 يوليو/تموز 1947 تكشف عن تقديم قاسم في ذلك التاريخ عريضة يخبر من خلالها أنه يرقد في إحدى مستشفيات لندن للعلاج على نفقته الخاصة، دون أن يحدد تاريخ دخوله المستشفى وما إذا كان العلاج يتطلب ذلك الوقت كله (أي 4 أشهر).

واللافت أن علاقة قاسم ببريطانيا كانت وثيقة جدا وربما هي من دعمته للانقلاب على الحكم الملكي، إذ يكشف المفكر الكويتي في مقابلة مصورة مع صحيفة "القبس" ضمن سلسلة حلقات "الصندوق الأسود" في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عن أسرار أدلى بها همفري ترفليان سفير لندن عام 1958 في بغداد بخصوص قاسم.

النفيسي قال: إن السفير همفري الذي ينتمي إلى عائلة ترفليان الإنجليزية اليهودية الشهيرة، كان سفير المملكة المتحدة في القاهرة عند قيام الانقلاب عام 1952، وبعدها سفيرا في بغداد عام 1958 وقت انقلاب عبد الكريم قاسم، أطلعه عندما كان يجري مقابلة تلفزيونية معه في بيته على صور تكشف علاقة الأخير ببريطانيا.

وأوضح أن الصور التي أظهرها ترفليان، كانت لعبد الكريم قاسم مع الأخير في حوض سباحة بمقر السفارة البريطانية ببغداد، إضافة إلى أنه كان يلعب التنس مع السفير بمقر السفارة أيضا، وفي صورة أخرى يظهر الاثنان يتناولان أكلة "السمك المسكوف" العراقية على نهر دجلة.

وأضاف النفيسي: عندما سألت السفير البريطاني السابق، أن علاقتك أكثر من شخصية بعبد الكريم قاسم؟ أجابني قائلا: "إنه رجلنا في بغداد".

وفي هذه اللحظة، يضيف النفيسي سألت السفير، لماذا إذن هددنا عبد الكريم قاسم عام 1961 بضم الكويت إلى العراق؟ أجاب: "هذه كانت قرصة أذن من بريطانيا لكم في الكويت لأن صوتكم كان عاليا في تأييد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأحببنا أن نعطيكم درسا بعدم الاستغناء عنا، لذلك طلبتمونا ساعتها".

الزعيم الأعزب

بقي عبد الكريم قاسم أعزبا طوال حياته ولم يَتزوج قط، فقد أحب امرأة واحدة في مدينة الشامية عندما كان مُعلما. ونقل عن السكرتير الخاص به المقدم جاسم كاظم العزاوي، قوله: "لا توجد في حياة عبد الكريم قاسم جوانب أخلاقية سيئة كما يدعي البعض، وأنه قبل الثورة كانت له صديقة واحدة، ولم يلتق بها قط بعد الثورة".

ونقل أيضا، عن العميد الركن خليل سعيد عبد الرحمن قائد الفرقة الثالثة آنذاك، قوله: إن "عبد الكريم قاسم خطب قبل دخوله كلية الأركان العسكرية (عام 1939) فتاة من أهل بغداد، لكن عائلتها رفضت لأسباب ربما كانت عشائرية محضة، لكن بعد قبوله في كلية الأركان وما أعقبها من تسلمه مسؤوليات عسكرية صرفته عن التفكير بالزواج".

وتروي الصحفية اللبنانية فردوس المأمون قصة خطبتها من عبد الكريم قاسم، بالقول: إنها حضرت إلى بغداد عام 1960 لتغطية أعمال مؤتمر وزراء الخارجية العرب المنعقد في بغداد، والتقت بقاسم وأجرت معه حوارا نشر في جريدة "الجريدة" اللبنانية.

وأضافت: وبعد فترة قصيرة، التقيت صديقتي القاضية صبيحة الشيخ داود، وكانت رئيسة لمركز الأحداث في بغداد، وقالت لي: "الزعيم عبد الكريم قاسم يطلبك للزواج، في البداية اعتقدتها تمزح معي، وبعد حديث طويل صدقت أن هذا الطلب حقيقي، فاعتذرت بلباقة، لأني لم أفكر بالزواج، ولم يخطر على بالي قط".

وتابعت الصحفية اللبنانية: "وفي مطار بغداد، وأنا أروم العودة إلى بيروت، فوجئت بأحد الضباط يقدم لي صندوقا صغيرا هدية من قاسم وقد كتب على غلاف الصندوق الآنسة العزيزة فردوس المأمون.. مع أطيب آمالي وأمنياتي، وكان الصندوق يحتوي على عدد من المجوهرات والأحجار الكريمة، ووسام أعلى لقيادة الجيش".

انقلاب ومجازر

كان لَدى قاسم تنظيم سري يُعرف بتنظيم "المنصورية"، وعندما دعته اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار إلى الانضمام للتنظيم ودمج التنَظيمين وافق على ذلك عن طريق وسيط، وأصبح عضوا في اللجنة، وأدى القَسم أمام اللجنة.

قاد قاسم الذي كان عضوا في تنظيم الضباط الأحرار انقلاب "ثورة" 14 تموز مع عبد السلام عارف، واستطاع الإطاحة بالنِظام المَلكي وإعلان الجُمهورية العِراقية عن طريق الإذاعة، وأدى ذلك إلى اعتقال ومقتل العديد من أفراد الأسرة المالكة والمقربين منها، كَذلك أدى إلى بَدء عهد جديد، أثار قَلقا محليا ودوليا وعربيّا.

عقب الانقلاب أصبح قاسم أول رئيس وزراء للحكومة في العهد الجمهوري، وقائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع بالوكالة، لكن من الناحية السياسية كانت فترته تشهد اضطرابا سياسيا وتناحر الأحزاب فيما بينها على سدة الحُكم.

في عهده أطلقت يد الشيوعيين لارتكاب مجازر مروعة بحق القوميين والإسلاميين في مدينتي كركوك والموصل، وتحديدا في مارس/ آذار عام 1959 عندما وصل عدد كبير من الشيوعيين من "أنصار السلام" المنتمين لمليشيا (المقاومة الشعبية) إلى الموصل شمال البلاد، ومعهم مجموعات كردية مسلحة وبدؤوا بإقامة محاكم في شوارع المدينة التي تعتقل وتحكم بالإعدام وتنفذ فورا.

كما قامت هذه المجاميع بالاعتداء على المساجد ورجال الدين، ثم بدأت عمليات السحل والتمثيل بالجثث والتعليق على أعمدة الكهرباء وقطع الأوصال والحرق تطال القريب والبعيد، وكذلك حدث نفس الشيء في كركوك بعد أن توجه لها الشيوعيون وبصحبتهم المجموعات الكردية المسلحة، لينفذوا أبشع الجرائم والانتهاكات في يوليو/تموز 1959.

حاول قاسم التنصل من المسؤولية وتبرئة ساحته وإلصاق التهمة بالشيوعيين، حيث قال بالحرف الواحد في خطابه بكنيسة مار يوسف في 29 يوليو/تموز 1959: "ما حدث أخيرا في كركوك، إني أشجبه تماما، وباستطاعتنا أيها الأخوة، أن نسحق كل من يتصدى لأبناء الشعب بأعمال فوضوية، نتيجة للحزازات، والأحقاد، والتعصب الأعمى. إنني سأحاسب حسابا عسيرا أولئك الذين اعتدوا على حرية الشعب في كركوك".

وأضاف: "أولئك الذين يدّعون بالحرية، ويدّعون بالديمقراطية، اعتدوا على أبناء الشعب، اعتداء وحشيا. أحداث كركوك، لطخة سوداء في تاريخنا، ولطخة سوداء في تاريخ ثورتنا. هل فعل ذلك جنكيز خان، أو هولاكو من قبل؟ هل هذه هي مدنية القرن العشرين؟ لقد ذهب ضحية هذه الحوادث 79 قتيلا، يضاف إليهم 46 شخصا دُفنوا أحياء، وقد تم إنقاذ البعض منهم".

حكم الإعدام

تعرض عبد الكريم قاسم إلى محاولة اغتيال من حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث كان صدام حسين يقود الخلية المسلحة التي هاجمت سيارة قاسم مساء 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1959 في شارع الرشيد وسط بغداد، لكن قاسم لم يمت وأصيب بيده وبقي يعالج من الإصابة.

استمر حكم قاسم 5 سنوات، وانتهت بعملية انقلاب عسكري في 8 فبراير/شباط عام 1963 قادها حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد محاصرته في مقر وزارة الدفاع وسط بغداد.

وما كان من قاسم إلا أن سلم نفسه في اليوم الثاني من الانقلاب، واقتيد مع عدد من معاونيه إلى مقر قيادة الانقلاب في دار الإذاعة والتلفزيون، وبعد محاكمة صورية لم تستمر سوى دقائق أعدم قاسم والآخرون في الساعة الواحدة بعد الظهر رميا بالرصاص في 9 فبراير/ شباط 1963.

عرف عن قاسم أيضا، أنه كان بعيدا عن الاغتناء من السلطة، بل على العكس كان يوصف بأنه فقير، إذ ظهر بعد مقتله أنه كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولا أملاكا عقارية، رغم أن أعداءه في تلك المرحلة كانوا يصفونه بالديكتاتور.