"هسبريس".. هكذا نجحت أبوظبي في تجنيد الموقع الأول بالمغرب

12

طباعة

مشاركة

في 8 يونيو/ حزيران 2020، أعلنت وزارة الخارجية الليبية عبر بيان نشرته على صفحتها على فيسبوك، أن وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أجرى اتصالا هاتفيا بوزير الخارجية الليبي، محمد الطاهر سيالة.

كل الصحف والمواقع المغربية تداولت الخبر، الذي يعبر عن الموقف الرسمي للدولة من الأحداث في ليبيا، عدا موقع "هسبريس"، الذي تجاهل الخبر، وعده مراقبون تجاهلا متعمدا لإبراز موقف الدولة الرسمي، بل إنه قد يحمل دلالات أبعد من ذلك في تبني موقف دولة أخرى وهي الإمارات العربية المتحدة.

الموقف المغربي أتى غداة إعلان رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، بحضور اللواء المتقاعد خليفة حفتر في القاهرة، مبادرة تقترح وقف إطلاق النار، بداية من الاثنين 8 يونيو/ حزيران 2020، والالتزام بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، والعمل على التوصل إلى تسوية سياسية.

ملف ليبيا

أشهر قبل الحدث، وتحديدا في يناير/ كانون الثاني 2020، أفرد الموقع مساحات لنشر تفاصيل مؤتمر صحفي لناصر بوريطة، عبّر فيه عن رفض المغرب "التدخل الأجنبي العسكري والسياسي في ليبيا".

استهل الموقع تقريره بالقول: "تزامنا مع إعلان تركيا انتشار جنودها في ليبيا ووجود رئيس حكومة الوفاق ووزير الخارجية التركي في الجزائر لبحث التطورات الأخيرة في الأزمة الليبية، أكدت المملكة المغربية، رفضها لأي تدخل أجنبي في الشؤون الليبية، سواء كان تدخلا سياسيا أو عسكريا".

التقرير أبرز تصريح وزير الخارجية بأن موقف المغرب ثابت ولم يتغير من الأزمة الليبية، وأن "الحل يجب أن يكون بين الليبيين لأن التدخل الأجنبي زاد من تعقيد الأمور، سواء سياسيا أو عسكريا".

لكن الخارجية المغربية، أصدرت بيانا جديدا مطلع فبراير/ شباط 2020، أكدت فيه اعتراف الرباط بحكومة الوفاق وحدها سلطة شرعية في ليبيا، وفق اتفاق الصخيرات وقرارات مجلس الأمن، وأنها ترفض بشكل كامل التدخل الخارجي الذي وصفه بـ "الوقح".

موقع "هسبريس" تجاهل الحديث عن البيان الثاني الذي جاء في أعقاب إعلان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أن ممثلين عن حفتر سيشاركون في محادثات اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5 في جنيف.

ناطق رسمي

في 14 يونيو/ حزيران 2020، أعلنت وكالة المغرب العربي للأنباء (الرسمية للمملكة) أن الملك محمد السادس خضع لعملية جراحية على مستوى القلب في مصحة القصر الملكي بالرباط كللت بالنجاح.

في اليوم التالي نشر موقع "هسبريس" خبرا بعنوان "قادة الإمارات يهنئون الملك بنجاح العملية الجراحية‎" وجاء في نصه "بعث الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس، بمناسبة العملية الجراحية التي أجراها وتكللت بالنجاح، داعيا له بأن ينعم عليه الله بسرعة الشفاء وموفور الصحة والعافية".

وتابع الموقع في عرض تفاصيل البرقيات قائلا: "كما بعث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، برقيتي تهنئة مماثلتين إلى الملك محمد السادس".

في الوقت الذي تجاهل فيه الموقع نشر خبر عن فحوى الاتصال الهاتفي الذي جرى بين العاهل المغربي وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، واكتفى في 16 يونيو/ حزيران 2020، بنشر خبر مقتضب بعنوان "نص بلاغ الديوان الملكي حول محادثات هاتفية".

بعدها بـ 3 أيام، نشر الموقع خبرا بعنوان "الديوان الملكي: الشيخ محمد بن زايد يهاتف الملك"، فيما غردت حسابات إماراتية على "تويتر" متمنية الشفاء للملك، ما اعتبره مصدر خاص لـ"الاستقلال" أنه توجه جديد لأبوظبي ترمي من خلاله إلى إصلاح ما أفسدته حملة التشويه التي قادها ذبابها الإلكتروني قبل أسابيع.

وأفاد المصدر بأن التوجه الجديد يسري على المواقع الإخبارية الإماراتية أيضا، والتي ستعمل بإيعاز من أصحاب القرار على الاهتمام بكل ما هو إيجابي في المملكة.

ومن بين التغريدات جاءت تغريدة لابن زايد نفسه يفيد من خلالها أنه اتصل بالملك محمد السادس ليهنئه على نجاح العملية، في ظل توتر قائم في العلاقات بين الطرفين.

عقدة الإسلاميين

في أبريل/ نيسان 2020، شنت حسابات وهمية على "تويتر" هجوما على رئيس الحكومة المغربي سعد الدين العثماني، متهمة إياه بالتقصير في تنفيذ تعليمات الملك محمد السادس لإدارة أزمة جائحة كورونا.

ظهر فيما بعد أن الأمر يتعلق بـ"ذباب إلكتروني" (حسابات وهمية) مصدرها الإمارات، أطلق حملة ضد المغرب وتحديدا رئيس حكومته المنتمي لحزب العدالة والتنمية (الإسلامي).

واتهمت الحسابات الوهمية العثماني بالتسبب في "إهمال الشعب المغربي وعدم توفير المؤن والغذاء له وتركه عرضة لوباء كورونا على حساب المنتمين لحزبه".

وفي الأسبوع الأخير من مارس/ آذار 2020، نشر "هسبريس" تقريرا بعنوان "انتقادات تلاحق العثماني بمواقع التواصل الاجتماعي"، واعتبروا أن الردود التي ترد على صفحة رئيس الحكومة على "تويتر": بعضها ينطوي على استفزاز.

الرد على الهجوم الذي طال العثماني من الداخل والخارج جاء الرد عليه عبر وسم "شكرا العثماني" الذي احتل الترند على موقع "تويتر" في المغرب، بعد أن أطلقه مغاربة ردا على حملة الذباب الإلكتروني الإماراتي. 

وفي تقريرها المنشور في فبراير/ شباط 2020، قالت مجلة "لوبوان" الفرنسية: "التحفظ الدبلوماسي لم يعد مطلوبا في بلد ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، الذي يحاول إعادة استقرار قائم على السلطوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".

واعتبرت أن "الإمارات لم تعد تهتم بالخطب البلاغية بل تتصرف مباشرة، وهي ترسم مسارها من الخليج إلى المغرب الأقصى. هذا المسار الذي يقف الإسلاميون في المنطقة حجر عثرة في طريقه".

سياسة الاستدراج

تأسس موقع "هسبريس" سنة 2007، وكان أول صحيفة إلكترونية في المغرب، احتل لسنوات المركز الأول من حيث القراءات حتى بعد ظهور مواقع أخرى، التي سعت في البداية إلى تقليد النموذج الناجح ثم منافسته. 

حظي الموقع الذي ظل لسنوات مستقلا باحترام كبير من طرف القراء وصانعي القرار أيضا، هذه الاستقلالية خلقتها العقلية الاستثمارية البعيدة عن السياسة، التي أتى بها مالكاه، الأخوان أمين وحسان الكنوني.

ضم الموقع في بداياته صحفيين شبابا من مختلف التيارات والانتماءات السياسية، برزت أسماؤهم فيما بعد وكبرت في عالم الصحافة مع الانتشار الواسع الذي حققه "هسبريس".

اختارت مجلة فوربس في الشرق الأوسط، "هسبريس" كأول موقع إخباري إلكتروني في بلاد المغرب العربي، وفي المرتبة الثالثة على قائمة أقوى المواقع الإخبارية العربية لعام 2012.

شاركت الصحيفة الإلكترونية أكثر من مرة في جائزة الصحافة العربية والتي ينظمها "نادي دبي للصحافة" سنويا، وتوجت بجائزة "الصحافة الذكية" في 2016 التي تسلمها حسان الكنوني. ثم في 2017 مرة أخرى في فئة "الصحافة الإنسانية".

من هنا بدأت الإمارات في استقطاب الصحيفة الإلكترونية رقم واحد في المغرب، لتصنع منها إحدى أبواقها الإعلامية وتجعل سياستها التحريرية تخدم أجندتها في المنطقة، بعد أن استقر مديرها في الإمارات ليصبح الطاقم في المغرب مجرد منفذ للتعليمات التي تأتي من إحدى أبراج الإمارات.

بدأ الدور الإماراتي المتصاعد في المنطقة، يمد أصابعه إلى داخل المغرب مستغلا أدواته الناعمة وعلى رأسها الإعلام الذي بدأت تخترق به المشهد الإعلامي المغربي وتطمح أبوظبي إلى التوسع فيها.

ما قامت به الإمارات في المغرب كان امتدادا لما فعلته في مصر بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث سعت بقوة إلى تعظيم حجم استثماراتها في الإعلام المصري.

أبرمت أبوظبي صفقات بهدف السيطرة الكاملة على الفضائيات والصحف والمراكز البحثية والإعلامية، وأغدقت أموالها على صحفيين وإعلاميين قدموا الولاء لابن زايد، لوأد التجربة الديمقراطية. ونجحت مؤامرة أبوظبي في مصر باستقطاب مراكز القوى، وإنشاء بؤر تحكم، وتغيير كامل لمفردات السياسة الإعلامية والهوية القومية.

بوق أبوظبي

أصبحت الصحيفة تفرد مساحات إعلانية لـ"مؤسسة مصر الخير" المقربة لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي الصديق المقرب من ابن زايد، كما أصبحت تتابع أخبار السيسي رغم أن علاقة المغرب معه لا تتجاوز حدود الدبلوماسية الباردة.

كانت بداية التحول في 2016 لكن أصبحت أكثر وضوحا في 2018، لتتأكد في 2019 عندما كشف واحد من مؤسسي الصحيفة، خالد البرحلي، عبر تدوينة على موقع "فيسبوك"، أن "هسبريس تحول إلى وكالة إعلانات لها ارتباطات مع قوى خارجية ومراكز نفوذ داخل البلاد"، أن المؤسسة قد "أفلست مهنيا وأخلاقيا".

وأفاد الصحفي الذي انسحب من الصحيفة أنها أصبحت "بوقا للسياسات الإماراتية في المنطقة بحيث أصبح تبييض وجه أبوظبي من المقدسات في مقابل تسويد وجه الدوحة".

فيما ذهب الصحفي نور الدين لشهب، المنشق عن الصحيفة إلى حد القول: إن السياسة التحريرية التي تغيرت منذ سنة 2016، " تحاول تجميل إسرائيل وتسويق صورة إيجابية عنها بشكل مستفز لمشاعر المغاربة.

الخط التحريري

محاولا فك شيفرة هذا التحول في السياسة التحريرية، قال الإعلامي والمحلل السياسي، بلال التليدي، لصحيفة "الاستقلال": لا أعلم إن كان موقع "هسبريس" له علاقة عضوية بدولة الإمارات وليست لدي معطيات دقيقة حول إمكانية أن يكون ممولا من دولة الإمارات، لكني لمست كما غيري من المراقبين والمحللين تغير الخط التحريري لهذا الموقع على الأقل مرتين.

وأوضح المحلل أن "هذا الموقع عندما واكب حراك "20 فبراير" (الحركة التي نزلت للشارع المغربي في 2011) كان النفس العام الذي يؤطره هو استيعاب كل الفعاليات والحساسيات من مختلف الاتجاهات".

ويبدو أن الخط التحريري الذي كان يتبعه، بحسب المتحدث، هو محاولة امتصاص الاحتقان الاجتماعي بتوفير قدر من حرية التعبير للجميع، فكانت تحضر فيه حتى الحساسيات الراديكالية التي كانت لا تجد أحيانا منابر للتعبير عن وجهة نظرها.

لكن في اللحظة التي صار فيها إلياس العماري الأمين العام لحزب "الأصالة والمعاصرة" (الحزب الذي أسس لمجابهة الإسلاميين) انتشرت أخبار عن شراكة بينه وبين الإمارات من أجل تمويل عدد من المشاريع الإعلامية وتم الحديث عن أموال طائلة.

والملاحظ، يفيد التليدي، أن هذا الموقع صار يعبّر بشكل أو بآخر عن وجهة نظر الحزب ويدعمه وينفذ أجندته، خاصة ما يرتبط منها بمواجهة الإسلاميين.

فقد شعبيته

واصل المحلل السياسي تتبع منحنى تحول السياسة التحريرية للموقع قائلا: "بعد انهيار قيادة هذا الحزب (الأصالة والمعاصرة)، وتراجعه بعد ترهل في بنيته التنظيمية، عرف الموقع تغيرا ثانيا، على مستوى الخط التحريري المرتبط بتقويم السياسات الخارجية".

أصبح هذا الموقع، بحسب المتحدث: "أكثر حرصا على الدفاع عن وجهات نظر الإمارات في عدد من القضايا التي يبدو أن للمغرب وجهة نظر مختلفة فيها".

وزاد موضحا: "بل وأحيانا يلجأ الموقع إلى سياسة التعتيم في بعض القضايا التي تكون فيها الإمارات مسؤولة أو مستهدفة أو متهمة أو مدانة، في حين يحرص الموقع على أن يبرز مواقفها ووجهات نظرها".

بالنسبة إلي، يقول التليدي: "هذه التغيرات في الخط التحريري دالة، لكنني لست جهاز مخابرات لكي أحكم هل هذا الموقع يتلقى دعما من الإمارات أو أنه يخدم مصالحها بشكل عضوي".

قبل أن يتابع: "الثابت في خط الموقع التحريري أنه عرف تحولين وأنه أصبح يعبر عن وجهة نظر الأذرع الإقليمية للإمارات في المنطقة، بطريقة أحيانا ذكية وأخرى فجة".

وسجل المحلل ملاحظة أن الموقع "لا يُظهر من خلال تعبيراته أنه ناطق رسمي باسم الإمارات لأن هذا الأمر يبقى صعبا خلال وجوده داخل المغرب".

لكن وفي جميع الأحوال، يختم المتحدث: "فقدَ الموقع كثيرا من شعبيته بعد أن كان يحتضن أكثر من مليون ونصف متابع، اليوم تراجع العدد بشكل كبير جدا وهو يتجه إلى أن يصبح موقعا عاديا من المواقع التي تتنافس فيما بينها في المغرب".