قلوب الأخطبوط.. أين ينبض قلب "تنظيم الدولة" الأخير؟

عبدالرحمن سليم | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

ما زالت الشاحنات تروح وتغدو مثقلة بآخر من تبقى من تنظيم الدولة، من نساء وأطفال و"قاعدين عن القتال" من شيوخ وعاجزين، خرجوا من "الباغوز" السورية بعدما ضُيق الخناق عليهم، حتى حصر في تلك البقعة التي كانت تمثل يوما قطعة صغيرة جدا من مناطق سيطرة التنظيم في سوريا والعراق.

قعقعات الحرب وأهوالها يشيب لها الولدان ويرتجف لها قلب القوي المغوار، ولكن الذي رآه العالم من مشاهد نزوح المدنيين -من الباغوز فوقاني إلى مخيم الهول في الحسكة شمال شرق سوريا- يثير تساؤلات عدة حول ماهية الأيديولوجية التي تستقر في قلوب هؤلاء العاجزين حتى عن دفع ذبابة عن وجوههم نتيجة الإرهاق والجوع والخوف.

صعوبة الرحلة لم تفارق ملامح الأطفال ولم ترقق أيدي أمهاتهم

بعض هؤلاء استسلم تماما لواقعه، كما حدث مع العديد منهم مثل البريطانية شميمة بيغوم والتي سحبت منها جنسيتها، وتوفي رضيعها بعد ذلك، أو الألمانية لينورا ليمكه التي اصطدمت بصخرة واقع أفاقت فيه على وجودها وطفليها في بؤس وكرب دفعها إلى إرسال رسالة مرئية إلى أبويها متمنية العودة إلى حيث ترعرعت، في تناقض واضح مع معتقدات تنظيم الدولة تجاه الإقامة "بين ظهراني المشركين".

بعض النساء هاجمن المصورين والصحفيين الذين غطوا نزوحهن، وكِلْن لهم السباب والشتائم، مهددات بعودة التنظيم من جديد لينتقم من أعدائه وينتصر، مبديات ردود أفعال غير مستغربة في مثل تلك الأحوال.

لكن المثير للدهشة هي تلك الكلمات التي خرجت من فم يابس من شدة العطش، بصوت متهدج مرهق، تعبر عن تماسك وإصرار غريبين رغم المصائب التي تمر بها صاحبة تلك الكلمات، والتي لخصت مستقبلها ومن معها في قولها: "خرجنا من الباغوز بأمر أمير المؤمنين، حتى نربي جيلا آخر يقود المجاهدين.. إذا مات رجالنا فنساؤنا لم يمتن.. سيربين الأطفال ليصبحوا مجاهدين".

"أشبال الخلافة".. سلاح ودعاية

من الأسس التي اعتمدت عليها أيديولوجية تنظيم الدولة، تنشئة الأطفال ليكونوا خلفاء لآبائهم؛ إذ ركز التنظيم -خلال العديد من إصداراته المرئية- على تصوير الأطفال كمقاتلين مستقبليين، ومفجرين انتحاريين وغير ذلك من الأدوات الدعائية التي تكرس فكرة "النصرة بالرعب" وغيرها، إضافة إلى تلقينهم أدبيات التنظيم، وإحضارهم لميادين تنفيذ الإعدامات، بل واختيار نماذج محددة للقيام بذبح أشخاص بالغين.

اعتمد التنظيم استراتيجية "البديل" في التعامل مع الأطفال؛ إذ إن أفراده معرضون دائما لخطر الانقراض نتيجة سجال الحروب التي خاضوها منذ نشأة التنظيم، فكانت تربية الأطفال مرتكزة على أن يكبر هؤلاء ليعوضوا نقص المقاتلين، وأيضا لئلا تندثر الأيديولوجية، ويبقى لها من يحمل لواءها إذا تقلبت الأيام، وهذا يوفر جهوداً كبيرة بذلها التنظيم في الاستقطاب خلال سنوات نشأته الأولى، وقد نتجت تلك الاستراتيجية عن انضمام المئات ممن شب عن الطوق إلى صفوف المقاتلين.

تلك المشاهد وغيرها هي ما قصدنه هؤلاء النسوة بتربية أطفالهن ليعودوا من جديد، إذن ليست القصة متعلقة بدعاية وشعارات، بل هو استثمار حقيقي في طاقات يافعة يمكنها –في مستقبل قريب- إحياء التنظيم ببقاء أفكاره حية في قلوب وعقول النازحين والنازحات.

العودة.. وهم أم أيديولوجية؟

تعرض الإنسان لصدمات كبيرة كتلك التي تترتب على الحروب الحديثة، قد تكسره معنويا ونفسيا، وقد تدفعه للتعبير بمخرجات لا تتفق وواقعه المؤلم، بيد أن الأيديولوجيا لها دور كبير في تحديد حالة الإنسان ونظرته إلى مستقبله في مثل تلك الظروف، وتنظيم الدولة كما كان يركز في أدبياته على فضل أفراده على بقية الأمم، كان يزرع فيهم أيضا أفضلية المستقبل وأن "النصر" عاجلا أم آجلا سيكون من نصيبه مهما حدث.

وعلى الرغم من كل ما تعرض له التنظيم من ضربات عنيفة، إلا أن أفراده –في الأساس- يعتقدون أن دولتهم "باقية"، أي أنها لم تنته أصلا، وأن ما يحدث إنما هو كبوة جواد عما قريب سيسمع ضباحه عاديا إلى "أرض الخلافة"، فمسألة انقراض التنظيم غير مطروحة في أذهانهم أصلا.

ورأى الباحث في الشؤون الأمنية أحمد مولانا، في تصريح خاص لـ"الاستقلال" أن تجربة "تنظيم الدولة" تمحورت حول إقامة الدولة، مع طرح دولتهم على أنها دولة الخلافة المنشودة، والموعودة في الأحاديث النبوية، ولذا استحضروا المصطلحات الواردة في أحاديث آخر الزمان لإسقاطها على الواقع الحالي مثل دابق وأعماق.. الخ، ولكن الدولة سقطت فسقط معها محور التجربة الأساسي.

واستطرد قائلا: إن "بقاء نفس العوامل التي أدت إلى ظهور التنظيم -في بادئ الأمر- من استبداد سياسي، وقمع طائفي، وممارسات إجرامية للأنظمة الحاكمة، ستجعل نمط التنظيم يعود مجدداً في أشكال أخرى تتكيف وتتواءم مع الواقع الميداني".

وقد اتضح ذلك جليا في بدايات التنظيم نفسه؛ إذ كانت له أشكال ومسميات متعددة، وتطورت أفكاره طرديا مع ارتفاع وتيرة قمع مؤسسيه ومطاردتهم واعتقالهم في ظروف سيئة بعد ذلك.

سجن بوكا.. المكان الذي ولدت فيه فكرة التنظيم، حيث تعرف البغدادي على كبار قادته

إضافة إلى النماذج الكثيرة التي انضمت إلى فرع التنظيم في سيناء مثلا بعد القمع الذي تعرض له هؤلاء في السجون أو في الشوارع أثناء المظاهرات وغير ذلك، في ردود أفعال عنيفة تجاه ما لاقوه من أهوال. بل إن هناك من انضم فكريا إلى التنظيم داخل السجون حتى قبل أن يلتقي بأفراده في الخارج.

مكافحة الانقراض

اعتمد تنظيم الدولة في بداياته وقبل الإعلان عن تشكله عام 2013 على استراتيجية يمكن تلخيصها بجملة واحدة: (جسم واحد متعدد الوجود في أكثر من مكان وفي نفس الوقت)، ففي الوقت الذي احتفلت فيه القوات العراقية بالذكرى الأولى للقضاء على التنظيم في يناير 2018، تمكن الأخير من تنفيذ 15 عملية عسكرية ضد قوات الشرطة والحشد الشعبي في أماكن متفرقة.

وعلى الرغم من أنه قد شارف على الانقراض في سوريا والعراق، لكن تمدد أفكاره واحتواءها الكثير من  الجنسيات المختلفة، ساعد على بقاء الأيديولوجيا في أكثر من مكان في الكرة الأرضية. فمن نيجيريا إلى الصومال، وصعوداً إلى ليبيا وسيناء مصر، تتعدد أذرع الأخطبوط الذي وإن ضرب في أحد قلوبه، لكن تبقى له قلبان آخران، كان آخرهما نبضاً في الفلبين.

فقد ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها، أن كنيسة استهدفت الأحد 3 مارس/آذار 2019، بهجوم تبناه تنظيم الدولة، أدى إلى مقتل 23 شخصا، في حضور بارز للتنظيم في الفلبين، في وقت تضاءل وجوده في الشرق الأوسط حتى انحسر في بقعة صغيرة في بلدة الباغوز فوقاني شرق سوريا.

اتخذ التنظيم من جزيرة منداناو -جنوب الفلبين- ملاذا له؛ لصعوبة وصول قوات الأمن الفلبينية إلى غابات كثيفة ترجح كفة المقاتلين وتعطيهم ميزة الاختفاء وسرعة التنقل في أماكن يحفظونها عن ظهر قلب.

فرع التنظيم هناك الذي ظهر في عام 2016، يمثل صورة مطابقة لبدايات النشأة في العراق ثم سوريا؛ إذ يتكون من المئات الذين قدموا من بلاد أخرى مثل الشيشان واليمن والصومال وغيرها، إضافة إلى خروجه من رحم تنظيم أقدم، وهو "جماعة أبو سياف"، تماما كما خرج التنظيم الأم من رحم تنظيم القاعدة في العراق.

تخندق النهاية

تسوّق القوات التي تقاتل تنظيم الدولة في آخر معاقله بسوريا، قتالها على أنه آخر صفحات تنظيم طالما ملأ الدنيا وشغل الناس، اعتقادا منهم بأن نهاية المعركة هي القضاء على البغدادي ومن معه، لكن الواقع يقول غير ذلك؛ إذ إن التخندق الذي يمارسه آخر جنود التنظيم في سوريا لم يكن أبدا نهاية المعركة؛ فلم ينته التنظيم من سيناء، وبقيت منه بقايا في العراق، واليمن، وأخيرا ظهر بقوة في الفلبين.

إذن فالأمر لم ينته بعد، وما زالت هناك مفاجآت لم يعلن عنها، وما زالت الأفكار باقية رغم فناء التنظيم المسلح تقريبا، إلا أن النساء اللاتي نزحن إلى مخيم "الهول" قد يمثلن نقطة تحول أخرى برعايتهن لأطفال لن يظلموا أمهاتهم لقوة الشبه بآباءهم.