الطفل السوري المشنوق في تركيا.. والده يروي قصة وفاته (خاص)

أحمد علي حسن | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"وعليكم السلام.. هوش جالدنز"، بلغة تركية بسيطة رحّب والد الطفل السوري اللاجئ "وائل السعود"، بجيرانه الأتراك الذين جاؤوا معزين مواسين بفاجعة ألمت به وهزت الرأي العام العربي والتركي على حد سواء.

لغة رغم بساطتها، لكنها بددت أقسى معاني العنصرية التي مورست على المجتمع السوري اللاجئ إلى تركيا هربا من حرب أنهكت بلادهم، وما زالت مستمرة منذ 2011.

ما حدث مع "وائل" أثار عاطفة شريحة واسعة من الأتراك الذين ينتهجون مبدأ "إنما المؤمنون إخوة" في تعاملهم مع أشقائهم السوريين، مع عدم إنكار العنصرية التي انتقلت ربما من نهج الكبار إلى الصغار.

مساء الخميس 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عثر مواطنون أتراك على جثة الطفل السعود (10 سنوات)، مشنوقا على باب مقبرة في قضاء كارتبه التابع لولاية كوجالي (إزميت).

طلبنا من مصطفى السعود، والد وائل، أن يتحدث إلينا حول ما حدث مع نجله، فأجاب بثلاث كلمات بينها أسطر مخبأة، إذ قال: إن "لكل شيء أوان"، لكنه عاود الاتصال بنا بعد ساعات لتوضيح ما حدث.

حقيقة مبهمة

في حديثه لـ"الاستقلال"، يقول مصطفى السعود: "عند وقوع الحادثة كنت في عملي. تلقيت الخبر بصدمة كبيرة جدا، فذهبت مباشرة إلى مكان الحدث وكانت صدمتي أكبر".

صدمة الوالد كان مصدرها علامات استفهام كثيرة، خاصة أن ولده "لم يكن يعاني من شيء، ولم يتذمر من أية مشكلة خلال الأيام التي سبقت الفاجعة".

لم يستطع أحد معرفة ما جرى مع وائل حتى والده، الذي أكد أن ابنه لم يتحدث بشيء يضايقه قبل وقوع الحادثة، وهو الأمر الذي زاد من تعقيد المشهد في ظل استمرار التحقيقات التركية.

"ماذا أثر على نفسيته؟ أنا نفسي لا أعرف"، يتساءل مصطفى ويجيب على نفسه قبل أن ينتقل إلى وصف الأجواء المنزلية التي كان يعيشها الطفل: "بيئة بيتنا مريحة جدا. نحن عائلة مسالمة لأبعد الحدود".

والد الطفل، وبقلب تعتصره الحيرة أجاب: "هذا ما أزعجني، هذا ما يعتصر قلبي. لم يتكلم قبل الحادث ولم أحس عليه شيئا غريبا. وائل ليس كتوما ويصارحني دائما.. في شيء زعلان منه أنا متأكد"، لكن مصطفى لم يستطع تأويله.

حياة وائل

وائل كان محبا للحياة "حبا جما"، كما يصفه والده، حتى أنه أشار إلى أن طفله كان "يكبر عمره بكثير، وهو شخص فائق الذكاء والحساسية؛ لأنه تربى في أسرة لديها نفس الصفات".

يزيد الوالد من سرد صفات ولده قائلا: "يتعامل مع أساتذته بكل حب. شيخ الجامع يحبه جدا. مع الأطفال يتعامل بطفولة، ويعطي كل شخص عمره في التعامل، لكن ماذا جرى في المدرسة؟ الله وحده يعلم".

رغم الأمرين الذين ذاقهما وائل في الحرب السورية ورحلة اللجوء إلى تركيا، لكنه –بحسب والده- مقبل على الحياة، ويهتم دائما بهندامه ومظهره.

وعن قربه من الأتراك وتعامله معهم، يقول مصطفى: إن طفله الذي يجيد تحدث اللغة التركية، لديه درجة فائقة من الكرم، ويحب الحياة الاجتماعية والناس وإكرامهم، وفي أحد الأيام تفاجأت عندما قال لي: أريد أن أصبح ضابطا لكي أساعد الناس".

سلوك وائل الاجتماعي وعلاقاته التي شُهد لها بالشفافية والسلم، وضعت علامات استفهام كثيرة حول الحادثة التي تحولت إلى قضية رأي عام على مدار الأيام القليلة الماضية.

وعن تعامل الحكومة التركية مع الحادثة، اكتفى والد الفقيد بالقول: "في هذه الأيام، رأيت دين سيدنا محمد، وسياسية سيدنا أبي أبكر، وعدل سيدنا عمر، وقوة سيدنا خالد بن الوليد هؤلاء رجال حق، رجال دولة".

أثناء الحديث، دخل 5 شبان أتراك إلى حيث يجلس والد وائل وقطعوا حديثه معزّين، وعبروا عن حزنهم لما حدث. مشهد قال عنه مصطفى إنه: "كاف لمواساتي"، ويأتي مقابل أحداث ومضايقات تكررت مؤخرا ضد سوريين، ووقف وراءها فئة من الأتراك.

في ختام القول، تمنى الأب أمنية لخصت حالة السلام التي تعيش بها العائلة، إذ قال: "أتمنى أن يكون دم ابني ماء لإطفاء نار الفتنة والحقد والكره".

عائلة مُسالمة

أحد أقرباء الطفل، وهو متخصص في الصحة النفسية، يقول إن: "طفلا في التاسعة من عمره وارد أن يفكر في الانتحار، لكن بشروط خاصة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه في مرحلة المراهقة وتضارب للأفكار والمشاعر".

ويضيف المتحدث الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ "الاستقلال": "في حال كان الطفل يتابع الأخبار ويرى ما يحدث، فمن المؤكد أن لديه حسا عاليا بالمسوؤلية (..)، ومن ناحية أخرى، لنفترض أنه متأثر بشيء أو يكبت مشاعر بداخله، فهذه الأسباب تجعل فكرة الموت سهلة جدا".

 وبحكم قربه من الأجواء دخل منزل وائل، فإنه يؤكد أن أسرته: "يألفها الهدوء، وخالية من المشاكل الأسرية والأجواء المشحونة. الأب هادئ وصاحب طابع سلس، أما الطفل فهو متفوق جدا وذكي وودود والجميع يحبه".

وعلى فرضية أنه تعرض لتنمر، يقول: "العنصرية سلوك مستشر داخل البشر إن كان بقصد أو بغير ذلك".

ويتابع المتحدث: "الأمر معقد للأسف. أستطيع أن أسرد لك معطيات ودلائل وتحليلات نفسية تجعلك تجزم أنها حادثة انتحار، وفي نفس الوقت ممكن أن أتحدث عن دلائل وتحليلات تفهم أنها حادثة قتل. لا شيء واضح".

وحول سلوك الطفل، يوضح: "المرحلة التي يمر بها حاليا من الناحية النفسية والفكرية تجعله لا يتحدث، لكنه يحفظ ويجمع ويخزن المعلومات ويفكر بها فقط".

ويستدرك: "لكن العائلة مسالمة جدا، وهذا ما يخلق العديد من علامات الاستفهام حول الحادثة. حقيقة لو ذهبت ورأيت الأسرة وطريقة تعامل الأب اللطيفة مع أبنائه ستدرك السلام الذي كان يعيش فيه الطفل".

ويضيف أيضا: أن العديد من الأطفال السوريين يتعرضون إلى التنمر والتعنيف النفسي والممارسات العنصرية، "لكن المثير للجدل أن هناك أسوأ من حالة وائل، ولم يؤد ذلك إلى حل لهذه المشكلة".

روايات متضاربة

وسائل إعلام تركية وصفحات على مواقع التواصل اﻻجتماعي، تداولت خبر إقدام الطفل السوري على الانتحار شنقا، بداعي الإقصاء والرفض الاجتماعي الذي واجهه في المدرسة لكونه لاجئا.

صفحة تحمل اسم "رابطة المعلمين السوريين" على "فيس بوك"، نشرت تدوينة أفادت خلالها بتواصلها مع الأمن التركي حول قضية الطفل التي ما زالت فيها التحقيقات مستمرة.

الصفحة ألمحت لوجود ثلاث احتمالات؛ الأول يتحدث عن إمكانية أن يكون الطفل ضحية لأحد الألعاب المنتشرة على الإنترنت، وثانيها خلاف بينه وبين أصدقائه، ما دفعه إلى الانتحار بسبب حساسيته العالية، خاصة أنه طفل مميز، بحسب وصف والده.

أما الاحتمال الثالث، في فيُعتقد بأن "الطفل مات منتحرا بحزامه ومعلقا من مكان عال، وهذا يفتح الباب أمام احتمالية أن هناك من ساعد الطفل على الانتحار أو قتله تحت هذا المسمى"، وفق ما ذكرت الصفحة.

لكن مساعدة رئيس حزب العدالة والتنمية (الحاكم) ليلى شاهين، قالت في تغريدة على تويتر، إن: "الادعاءات التي تنقل أنه تم معاملة الطفل بعنصرية لأنه سوري غير صحيحة"، مؤكدة أنه: "كان محبوبا من معلمه وزملائه".

وبعد الحادثة بيومين، فنّدت وزارة التربية التركية، في بيان لها، ادعاءات زعمت أن سبب انتحار التلميذ، "تعرضه للتوبيخ من معلمه، والرفض من قبل زملائه كونه سوريا".

الوزارة قالت: "الادعاءات المذكورة التي تداولتها بعض مواقع الإنترنت ومنصات التواصل لا أساس لها من الصحة، ولا تعكس الحقيقة"، مؤكدة: "تكليف مفتشين للتحقيق في هذه الحادثة الأليمة التي سببت حزنا عميقا لدى أسرتنا التربوية".

وفي ظل كل الروايات غير المؤكدة والتي هي محض تحليلات وتوقعات، ووسط غياب الأدلة من جهة، واستمرار التحقيق التركي من جهة أخرى، تبقى القصة مجهولة الأسباب، وهو الأمر الذي أكده والد الطفل عند حديثة لـ"الاستقلال".

تضامن تركي

منذ اللحظة الأولى لانتشار القصة وتصدرها عناوين الأخبار التركية والعربية، شهد الشارع التركي ومنصات التواصل الاجتماعي، تعاطفا كبيرا مع الطفل السوري.

ناشطون ومغردون أتراك دشنوا وسما على مواقع التواصل، حمل اسم( "#Suriyeli" ) السوري، ناشرين رسائل تضامن وتعاطف مع أسرته، ومنتقدين -في الوقت ذاته- العنصرية التي صدرت عن بعض الشخصيات السياسية المعارضة في البلاد.

شريحة متنوعة من المواطنين الأتراك الذين يرفضون العنصرية تفاعلوا على الوسم، ونشروا تغريدات بينت معظمها حالة من التعاطف والتضامن مع اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا منذ 2011.

 

الأمر لم يقتصر على الأتراك، فمشاهير سوريون ناشطون سجلوا مقاطع فيديو يدعون فيها إلى تآخي الأتراك مع السوريين، ورفض العنصرية التي تنتهجها شريحة من المعارضين لسياسة الرئيس رجب طيب أردوغان.

 

 

واقع السوريين

حادثة وائل تزامنت مع حملة أمنية استهدفت المخالفين السوريين المقيمين في إسطنبول، ورافقها تعليقات "عنصرية" من بعض الأتراك المؤيدين لترحيل السوريين، بحجة صعوبة الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

وكان وزير الداخلية، سليمان صويلو، قال، خلال حديثه مع مجموعة من الإعلاميين السوريين، في 13 يوليو/تموز الماضي: إن سياسات جديدة ستبدأ المؤسسات التركية بتطبيقها تجاه المواطنين السوريين في تركيا في المرحلة المقبلة.

وبدأت بعدها أجهزة الأمن بالتدقيق على إقامات السوريين والأجانب، وتقول إدارة الهجرة إنها سترحل المخالفين منهم إلى الولاية التي استصدروا منها أوراقهم، وإلى خارج تركيا لمن لا يملكون أي أوراق قانونية.

وأعلنت ولاية إسطنبول مهلة للمخالفين الذين يملكون هويات "حماية مؤقتة" مسجلة في محافظات غير إسطنبول ويعيشون فيها، تستمر حتى 20 من آب/أغسطس 2019، حتى يعودوا إلى محافظاتهم أو يسووا أوضاعهم، ثم قرر وزير الداخلية مد المهلة حتى 30 أكتوبر/تشرين أول الجاري.

وفي 25 يوليو/تموز 2019، أعلنت مديرية الهجرة العامة في وزارة الداخلية التركية إحصائية تشير إلى أن عدد السوريين المسجلين في تركيا وصل إلى 3 ملايين و 649 ألفا و 750 شخصا.

تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "BBC"، تحدث عن واقع السوريين في تركيا، إذ أوضح أن نسبة 97.6% من المسجلين رسميا يعيشون في المدن التركية، وليس في معسكرات اللجوء.

هذا يعني أن 3 ملايين 552 ألف شخص منهم يعيشون في المدن، في حين تضم إسطنبول أكبر تجمع للسوريين، إذ يصل عددهم هناك إلى 547 ألفا و 716 سوريا، أي ما نسبته 3.64% من عدد سكان المدينة.

وتأتي بعد إسطنبول ولاية "غازي عنتاب" وفيها يعيش 445 ألفا و154 شخصا، وفي مدينة "هاتاي" هناك 431 ألفا و98 سوريا، أما "شانلي أورفا" ففيها 430 ألفا و237، في حين تضم ولاية "أضنة" 240 ألفا 752، بحسب الإحصاءات الرسمية.