انقلب عليهم العسكر ونكلوا بهم.. زعماء أنصفتهم الشعوب بعد رحيلهم

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"عندما كان يريد أن يفصح للمحكمة عن أمر ما كان يرفع يده مستأذنا للحديث، والمدعي العام عمر إيجيسيل يصرخ في وجهه بكل فظاظة ويأمره بالجلوس وعدم التحدث".

مشهد رواه الضابط التركي "مظفر إركان" عن محاكمة رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، الذي انقلب عليه العسكر وأعدموه مطلع ستينيات القرن الماضي، يشبه ما حدث مع الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، الذي انقلب عليه الجنرالات في مصر وأساءوا محاكمته حتى رحيله في 17 يونيو/ حزيران 2019. 

قائمة الزعماء والقادة المنقلب عليهم تطول، خاصة في منطقة الشرق الأوسط المضطربة، ومن أبرزهم الزعيم الإيراني محمد مصدق الذي سقط على يد عساكر الشاه، وحددت إقامته حتى الوفاة، بعدما أراد لإيران نهضة اقتصادية.

محمد مصدق

لا يوجد في تاريخ الملكية الإيرانية الحديثة أشهر من رئيس الوزراء الراحل محمد مصدق، الزعيم المتمرد من داخل النظام وأحد أبرز ضحايا التدخلات الأمريكية البريطانية في السياسة الإيرانية. 

مصدق الرافض في شبابه لتنصيب رضا خان، قائد القوزاق (شبه عسكرية) ووزير الدفاع، كشاه لإيران، وهو الرجل الذي أجبره على اعتزال الحياة السياسية عام 1941، والمهدد كذلك لعرش محمد رضا بهلوي شاه إيران الأخير في أوائل الخمسينات بعد تأميم النفط.

وبعد تشكيل الجبهة الوطنية الإيرانية ارتفعت الأصوات المؤيدة لمصدق داخل الأوساط الشعبية والرسمية مما حدا بالشاه عام 1951 أن يأمر بتعيين مصدق رئيسا للوزراء بعد أن رشحه البرلمان لهذا المنصب، بأغلبية 79 صوتا مقابل 12 فقط. 

في 30 أبريل/ نيسان 1951، بعد يومين فقط من استلامه السلطة قام مصدق بتأميم النفط الإيراني، وأقام تحالفا مع كتل اليسار السياسي مثل حزب توده الشيوعي، ليوازن ضغوطات الشاه من الداخل وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من الخارج. 

كانت إصلاحات مصدق الديمقراطية تضرب في الأساس الشمولي لحكم الشاه، كما أن خطوة  تأميم النفط الإيراني مثلت ضربة كبيرة لمصالح لندن وواشنطن.

 ورغم الشعبية الطاغية التي كانت لمصدق بين الإيرانيين من الطبقات والشرائح الدنيا والمتوسطة تحديدا، فقد ناصبته طبقة الملاك المتحالفة مع المؤسسة الدينية، العداء بسبب إعلانه عن وضع خطة للإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية. 

وبدأت التحالفات الداخلية المتمثلة في الشاه، والمؤسسات الدينية، والإقطاعيين، العمل على إسقاط مصدق، بالإضافة إلى الأعداء الدوليين، وتحديدا الولايات المتحدة، وبريطانيا، بسبب تأثر مصالحهم نتيجة سياسة مصدق الوطنية. 

انقلاب أمريكي

بدأت محاولة الانقلاب الأولى في 16 أغسطس/ آب 1953، لكنها أُحبطت بسرعة، بسبب الاعتقالات والمداهمات التي أمر بها مصدق، بعد أن اكتشف المؤامرة حيث هرب الشاه إلى إيطاليا عبر العراق قبل أن يوقع قرار عزل مصدق وتعيين الجنرال فضل الله زاهدي محله.

 ومع تأكيد المخابرات الأمريكية فشل الانقلاب، أرسلت الأخيرة رسالة إلى كيرمت روزفلت، مسؤول الشرق الأوسط في المخابرات الأمريكية في 18 أغسطس/ آب 1953 جاء فيها: "لقد حاولنا، فشلت المهمة وتم إلغاؤها، علينا ألا نشارك في أي عملية ضد مصدق كي لا يجري ربطها بالولايات المتحدة، يجب وقف كل العمليات الموجهة ضد مصدق فورا".

يؤكد مالكولم بايرن، مدير مشروع العلاقات الأمريكية الإيرانية في أرشيف الأمن القومي بجامعة جورج واشنطن، أن روزفلت تجاهل تلك الرسالة بشكل كلي، ونقلت مجلة "فورين بوليسي" قول بايرن أن شاهدا واحدا كان مع روزفلت في الغرفة نفسها يومها حين قال الأخير: "كلا، نحن لم ننتهِ هنا بعد".

وفي 19 أغسطس/ آب 1953، بعد يوم واحد من فشل الانقلاب الأول، وقع الانقلاب الثاني بعد أن احتدم الصراع بين الشاه ومصدق.

قام زاهدي بقصف منزل مصدق وسط مدينة طهران، في حين قام كرميت روزفلت ضابط الاستخبارات الأمريكي والقائد الفعلي للانقلاب الذي أطلقت المخابرات المركزية الأمريكية عليه اسما سريا هو العملية أجاكس (Operation Ajax)، بإخراج "تظاهرات معادية" لمصدق في وسائل الإعلام الإيرانية والدولية.

وأوعز روزفلت إلى كبير زعران (بلطجية) طهران وقتذاك شعبان جعفري بالسيطرة على الشارع، وإطلاق الهتافات الرخيصة التي تحط من هيبة مصدق، بالتوازي مع اغتيال القيادات التاريخية للجبهة الوطنية التي شكلها مثل الدكتور حسين فاطمي الذي اغتيل بالشارع في وضح النهار.

مشهد من محاكمة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق

بداية الكراهية

قبض على مصدق، وتمت محاكمته بشكل صوري، واستفاض بعدها محاميه "جليل بزرگمهر" في كشف أنها لم تكن تتمتع بالحد الأدنى من شروط الحيادية. إذ حكم نظام الشاه على الدكتور مصدق بالإعدام، ثم خفف الحكم لاحقا إلى سجن انفرادي لثلاث سنوات، ومن ثم إقامة جبرية مدى الحياة في قرية أحمد آباد، الواقعة شمالي إيران حتى وفاته في 5 مارس/ آذار 1967. 

ويعتبر الانقلاب الأمريكي بمثابة الشرارة الأولى التي زرعت في قلوب الإيرانيين عداء مع الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت تعد في نظرهم "الشيطان الأكبر". 

بسبب هذا الانقلاب استقر حكم ديكتاتوري طيلة 20 سنة في إيران، وسرقت مقدرات البلاد، واستشرى الفساد في الأسرة الحاكمة، بينما عم الفقر والبلاء على الشعب. 

بالإضافة إلى ذلك، شكل الانقلاب ضربة للحرية والليبرالية في إيران، ويعتبر محمد مصدق أكثر شخصية سياسية "ديمقراطية" شهدتها طهران إلى اليوم. 

ويشبه كثيرون الانقلاب الإيراني، بما عاشته مصر خلال سنة من حكم الرئيس المصري محمد مرسي من توظيف وسائل الإعلام لشيطنة الحاكم، ودعم المعارضين لصناعة حالة من الاحتقان والتململ تهيئ عامة الناس للقبول بإسقاط السلطة المنتخبة واستبدالها بأخرى عسكرية شمولية تحت سطوة الجنرال السيسي، الذي أحال حياة المصريين إلى جحيم، كما فعل الشاه في إيران من قبل. 

واليوم رُد للرئيس الوزراء محمد مصدق جزء من اعتباره، وأُطلق اسمه على عدد من الشوارع والميادين والمؤسسات في عموم الجمهورية الإيرانية، بالإضافة إلى مرافقة ذكره بالمحبة والاحترام من عموم الشعب، خلافا للذين تآمروا عليه، ذهبوا إلى غياهب التاريخ. 

الشاه إيران رفقة الرئيس الأمريكي جون كيندي

عدنان مندريس

في 17 سبتمبر/ أيلول 1961، عُلق جسد رئيس الوزراء التركي "عدنان مندريس" في جزيرة "يصي أدا" النائية، بعد عملية إعدام نفذها جنرالات الجيش الانقلابيين.

مندريس كان أول ضحايا الصراع الداخلي مع العلمانيين، والجنرالات في البلاد.

حاول مندريس إجراء حزمة من الإصلاحات المتعلقة باقتصاد وهوية الدولة، كان أبرزها إعادة فتح مدارس "الأئمة والخطباء"، وإعادة الآذان باللغة العربية، بعدما كان باللغة التركية.

وكان مندريس عضوا في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، ونائبا عن هذا الحزب في البرلمان، لكنه اتخذ في عام 1945 إلى جانب 3 نواب آخرين، موقفا معارضا لزعيم حزبهم ورئيس الوزراء عصمت إينونو، خليفة أتاتورك وحامي ميراثه العلماني.

انفصل النواب الأربعة ليشكلوا حزبا جديدا هو الحزب الديمقراطي بزعامة مندريس، متحدين إجراءات منع الأحزاب آنذاك.

في عام 1950 فاز مندريس بأغلبية ساحقة، شكل على إثرها حكومة جديدة وضعت حدا لهيمنة حزب الشعب الجمهوري الذي حكم تركيا منذ إعلان الجمهورية عام 1923.

وكان مندريس قد خاض حملته الانتخابية على أساس وعود بإلغاء الإجراءات العلمانية الصارمة التي اتخذها سلفه إينونو، التي من بينها جعل الأذان وقراءة القرآن بالتركية وإغلاق المدارس الدينية.

وحينما فاز مندريس قام بإلغاء هذه الإجراءات، فأعاد الأذان إلى العربية، وأدخل الدروس الدينية إلى المدارس العامة، وفتح أول معهد ديني عال إلى جانب مراكز تعليم القرآن الكريم، كما قام بحملة تنمية شاملة في تركيا شملت تطوير الزراعة وافتتاح المصانع وتشييد الطرق والجسور والمدارس والجامعات.

وساهمت إصلاحاته في تطوير الحياة الاقتصادية في البلاد، حيث تقلصت البطالة وتحررت التجارة وعاش الناس فترة استقرار سياسي. 

انقلاب وإعدام

بداية الانقلاب كانت مع وقوع أحداث شغب ومظاهرات كبيرة في شوارع إسطنبول وأنقرة، وقام طلاب مدرسة القوات البرية بمسيرة صامتة إلى مجلس الشعب في أنقرة احتجاجا على سياسات مندريس.

وفي صباح 27 مايو/أيار 1960، تحرك الجيش التركي ليقوم بأول انقلاب عسكري خلال العهد الجمهوري، إذ تم وقف نشاط الحزب الديمقراطي واعتقال رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار مع عدد من الوزراء، وأرسلوا إلى سجن في جزيرة يصي أدا.

بعد محاكمة صورية تم سجن رئيس الجمهورية مدى الحياة، فيما حكم بالإعدام على مندريس ووزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بلاتقان، وكانت التهمة هي اعتزامهم قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية.

يقول "مظفر إركان" الضابط المسؤول عن عملية الإعدام، في شهادته عن تلك اللحظة بعد ذلك: "كانت آخر كلمات مندريس هي: "كنت رئيسا للوزراء لمدة 10 سنوات، وسيكتب التاريخ إنجازات 8 منها، وسنتين منها قضيتها في المجاملات الرسمية. لقد حلمت دائما أن أعلم ابني يوكسيل في مدارس الدولة، ليصبح قلمه يقطر ذهبا، لأجل ألا يكون أولادنا مثلنا ويعيشوا ما عشناه".

وبعد أيام نفذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنت جثامين الثلاثة في الجزيرة ذاتها.

رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس بعد إعدامه

رد اعتبار 

في 27 مايو/ آيار 2019، ترحمت الرئاسة التركية، على رئيس وزراء البلاد الأسبق، عدنان مندريس، ورفاقه الذين جرى إعدامهم إثر الانقلاب العسكري عام 1960.

وفي تغريدة نشرها فخر الدين ألطون، رئيس دائرة الاتصال بالرئاسة التركية عبر موقع "تويتر"، بالذكرى 59 للانقلاب العسكري قال: "نحن على علم بأن أصحاب الوصاية يستغلون الفرص من أجل ضرب تركيا".

وأشار إلى "تورط جهات سياسية وإعلامية وأكاديمية وقانونية ومن المجتمع المدني، في الانقلابات". وأكد أن الشعب التركي رفض الوصاية الخارجية عندما أفشل محاولة الانقلاب في يوليو/ تموز 2016، التي شكلت نقطة تحول في تاريخ البلاد، مؤكدا أن "تركيا الجديدة مختلفة عن القديمة"، وأن "إرادة الشعب هي مصدر القوة الوحيد".

وشدد على أن تركيا الديمقراطية، لا تعترف إلا بقوة الشعب، وهي سائرة في طريقها بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في زيارة لقبر مندريس في إسطنبول

من جانب آخر، وصف المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، الانقلاب، بـ"الوصمة السوداء" في تاريخ تركيا. وأضاف، في تغريدة عبر "تويتر"، أن "من لا يولون اعتبارا للإرادة الشعبية محكومون دائما بالفشل"، مشيرا إلى أن "مندريس ومن معه باقون في قلوب الشعب التركي إلى الأبد".

احتاجت تركيا 30 عاما ليرد اعتبار مندريس، وتنقل رفاته في مشهد مهيب إلى "إسطنبول"، ويطلق اسمه على واحد من أكبر شوارعها، بالإضافة إلى بعض الميادين، ومحطات المترو، ومشاهد أخرى كلها باسم "مندريس"، وغدا من رموز النضال الوطني التركي والعالمي.