تحقيق واحتجاز.. منافذ مصر مغلقة أمام العائدين إلى غزة

أحمد علي حسن | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"أنت وطفلك مدرجان أمنيًا. التهم عليك وعليه. لن تدخل غزة عن طريق مصر بالمرة. روح (اذهب) لأصحابك بتوع إسرائيل"، جملة تلفَّظ بها ضابط جهاز "الأمن الوطني" في مطار القاهرة، كانت كفيلة بالقضاء على آمال شاب فلسطيني كان يحلم بالعودة إلى قطاع غزة ولقاء عائلته.

بعد غربة استمرت 3 سنوات في تركيا، قرر الشاب الفلسطيني "ر.ع" زيارة مسقط رأسه ولقاء أهله وعائلته بعد أن تقطعت به السبل، لكنه كان متخوفًا من ظروف المعبر التي يعاني منها نحو مليوني مواطن يعيشون في القطاع عند سفرهم عبر معبر رفح الحدودي الفاصل بين غزة ومصر.

"ر.ع" (26 عامًا) الذي اشترط عدم كشف هويته قبل حديثه لـِ "الاستقلال"، اعتزم زيارة غزة برفقة زوجته وطفله الوحيد صاحب العشرة أشهر، بعد أن نضج قراره الذي اتخذه بصعوبة بالغة، بشأن السبب الأول للزيارة وهو جمع عائلته بحفيدها الذي لم تره مطلقًا، بسبب ظروف السفر الشاقة.

ويلجأ الفلسطينيون في غزة إلى المرور بمصر من أجل السفر إلى أي مكان في العالم، بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع مُنذ صيف 2006 من جهة، وعدم وجود مطار تنطلق منه الرحلات بشكل مباشر من جهة أخرى، في رحلة سفر تستغرق بمجملها 3 أيام تضيع على حواجز التفتيش.

رحلة العذاب

يقول "ر.ع" إنه بدأ بالتجهيز للزيارة قبل نحو شهر، إذ كان مفعمًا بمشاعر الشوق إلى عائلته، وإلى اللحظات الأولى التي سيلتقي بها والداه مع الحفيد الذي كتب له القدر أن يولد بعيدًا عنهم، مشيرًا إلى أنَّه كان يخطط لمفاجأة أهله في غزة، لكنه تراجع عن الفكرة نتيجة وضع المعبر.

"جهزنا أنفسنا، اشترينا الهدايا، وابتعنا تذاكر الطيران من إسطنبول إلى القاهرة. وصلنا عبر الطيران المصري في رحلة استغرقت ساعتين"، يقول "ر.ع" قبل أن يستطرد: "تفاجأت بضابط مصري يوقفني بعد أن نزلت من الطائرة، وطلب مني جوازات سفرنا، واقتادني إلى غرفة خارج المطار".

الغرفة كما يقول الشاب الفلسطيني، تستخدم لأغراض أمنية لمصلحة أجهزة المخابرات المصرية و"الأمن الوطني"، وهناك انتظر مع زوجته وطفله الرضيع من الساعة الخامسة عصرًا وحتى الثانية عشر عند منتصف الليل، في ظروف أقل ما توصف بالسيئة.

"نحن ننتظر وصولك، أي شخص قادم من تركيا إلى غزة لا بد أن نحقق معه"، هذه العبارة كانت بداية 8 أيام من التحقيق والاعتقال في ظروف صعبة للغاية، كما يصفها الشاب، "أخذوا مني أغراضي الشخصية كالهاتف المحمول والحاسوب الشخصي، وشرعوا بتفتيشها".

حتى هذه اللحظة لم يكن "ر.ع" يعرف سبب وجوده في هذا المكان أمام ضباط الأمن المصريين، لكن ذلك بدأ يتبدد بعد حديث هؤلاء حول ارتباطه بـِ"جماعة الإخوان المسلمين"، وعلاقته ببعض الإعلاميين والناشطين المصريين المقيمين في تركيا، وهو ما نفاه الشاب.

التهمة "إخوان"

ويقول: "في أول يوم من التحقيق، سألوني عن عملي وارتباطاتي السياسية في تركيا، فأجبت أنني أعمل في شركة إنتاج إعلامي ولا علاقة لي بالسياسة من قريب أو من بعيد"، لافتًا إلى أنَّ ضابط التحقيق أصر مجددًا على "تلفيق تهمة الارتباط بالإخوان وعلاقتها بهدم الدولة المصرية".

أثناء التحقيق أيضًا سُئِل الشاب عن الأكاديمي الفلسطيني عزام التميمي، والإعلاميين المصريَين معتز مطر، ومحمد ناصر (يعيشان في إسطنبول) وأسماء أخرى (لم يذكرها)، ثم أصبح بعد ذلك مقيدًا برقم داخل سجن قرب مطار القاهرة تابع للنظام.

وعلى مدار أسبوع من الاعتقال والتحقيقات، وجد "ر.ع" نفسه محاطًا بتهم "على خلفية ارتباط بجماعات إرهابية، واستقبال الرئيس (الراحل) مرسي في غزة مع أنَّه (مرسي) لم يزرها أبدًا، والتعامل مع حركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام، وهي أحاديث لا تتناسب مع سني".

ويُشير المفرج عنه إلى أنَّ المحققين وجهوا إليه تهمًا أخرى تتعلق بفترة حياته في غزة قبل 3 سنوات. "اتهموني بأنني ذراع مالي لبعض فصائل المقاومة، وحلْقة وصل بين شركات إنتاج إعلامية في غزة وتركيا، فضلًا عن سؤالي حول بعض أقارب لي ينشطون في المقاومة".

في سجن صغير تحكمه ظروف اعتقال سيئة، عاش الشاب الفلسطيني 8 أيام برفقة زوجته وطفله الرضيع، قائلًا: "المكان عبارة عن غرفة صغيرة بها حمام واحد، وفيها معتقلين فلسطينيين ومصريين وكلهم ذكور ما عدا زوجتي، إذ طلبت إخراجها لكنهم رفضوا".

ويُضيف: "كانوا يستخدمون ابني ورقة للضغط عليّ داخل السجن من أجل أخذ المعلومات أو سحب الاعترافات"، مشيرًا إلى أنَّ طفله مرِض بعد أيام بسبب ظروف السجن حيث لا هواء ولا شمس ولا طعام صحي، فطلبت طبيبًا وعندما جاء قال: لا يوجد لدينا علاج للأطفال".

فم الحوت

وبعد عناء تقرَّر إرجاع "ر.ع" إلى تركيا بعد توقيعه على أوراق وتعهُدات، وهو ما وصفه بـِ"الخروج من فم الحوت"، وذلك كناية عن "معجزة" إطلاق سراحه من السجن، إذ جرت العادة أن يُغيَّب المعتقلون لسنوات عِدَّة دون محاكمتهم أو معرفة مصيرهم، حتى أنَّ بعضهم يسجلون ضمن المختفين قسريًا.

قصة الشاب الفلسطيني الذي جازف بحياته وعمله، تركت في نفسه حُرقة كبيرة كما يقول، فهو اليوم يعاني أذىً نفسيًا -سيرافقه مستقبلًا- متعلقًا بمنعه من العودة إلى غزة وما ترتَّب عليه.

لا توجد إحصائيات رسمية بعدد الفلسطينيين الذين رفضت مصر مرورهم إلى غزة. وحاولت "الاستقلال" التواصل مع وزارة الداخلية في قطاع غزة عبر متحدث باسمها، حول الأعداد وأسباب الرفض وموقفها من الأمر، لكنه رفض التعليق.

جرَّبت "الاستقلال" التواصل مع فلسطينيين من نفس الحالة والذين أكَّدوا بدورهم الأمر، لكنهم رفضوا الحديث خوفًا من عواقب أمنية تُهدد عودتهم إلى بلادهم، في حين يخشى كثيرون يعيشون في تركيا الإقدام على الخطوة خوفًا من الاعتقال أو التوقيف.

ويفرض النظام المصري على فئات محددة من العائدين إلى غزة عبر القاهرة، قيودًا محددة أبرزها الحصول على إذن دخول "تأشيرة" قبل ترحيلهم بشكل مباشر من المطار إلى معبر رفح الحدودي عبر "باصات الترحيل" التي تسير في رحلة تستغرق ساعات طويلة في طريق محفوف بالمخاطر.

انتهاك الحقوق

المحامية والحقوقية الفلسطينية، آية المغربي، تُؤكِّد أنَّ المواثيق الدولية لحقوق الإنسان نصَّت على حماية حق التنقل والسفر، مستشهدة بنصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

وتوضِح المغربي في حديثها لـِ "الاستقلال" أنَّ "المادة 12 (من العهد الدولي) نصَّت على حق كل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما، في حرية التنقل فيه واختيار مكان إقامته، وكذلك حرية مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده".

المادة نفسها، وفق المغربي، أكَّدت على عدم جواز تقييد الحقوق المذكورة أعلاه بأية قيود غير تلك التي ينص عليها القانون، مشيرة إلى أنها حظرت أيضًا حرمان أحد من حق الدخول إلى بلده بشكل تعسفي.

وترى أنَّ رفض عودة الفلسطينيين لأرضهم (من قبل السلطات المصرية) يُمثِّل انتهاكًا واضحًا للحق في حرية التنقل والحركة، المكفول في جميع  دساتير الدول الداخلية والاتفاقيات والمواثيق الدولية.

وحول معالجة الأمر قانونيًا، تُضيف المغربي: "عمليًا وبكل تجرُّد ومصداقية، لم نستطع كفلسطينيين محاسبة الاحتلال لانتهاكه القانون الدولي الإنساني حتى نحاسب مصر على ذلك".

وتستدرك: "لكن، بمقدورنا دوليًا كشعب فلسطيني أو أفراد مُتضررين بشكل شخصي، تقديم شكوى لمقرِّر الأمم المتحدة المعني في الحق بالتنقل والسفر، وإذا استوفت جميع بياناتها يتم مراجعة الدولة المنتهكة (مصر)".

وتزيد المغربي في قولها: "إلا أنَّه (المقرِّر الأممي) لا يستطيع اتخاذ أي قوة جبرية عليها، وكل ما في الأمر لا يتعدى  إلا تشكيل نوع من الضغوط الدبلوماسية والمطالبات بتحسين حالة حقوق الإنسان لديها، ومحليًا من الممكن التدخل الدبلوماسي عبر سفير فلسطين لدى مصر، دياب اللوح".

ولكن، هل يحق لمصر منع الفلسطينيين من المرور عبرها؟ إجابة المغربي على السؤال استندت إلى القوانين الدولية، التي تقول إنَّ "لكل دولة حق السيادة الكاملة والمطلقة على أرضها بما لا يتعارض مع حقوق الدول المجاورة ومنها حق المرور، خاصة أنها (مصر) المنفذ الوحيد لغزة، لكنها تُسيء استخدام سلطتها السيادية تبعًا لأسباب واعتبارات سياسية بحتة".

وبنظر المغربي، فإنَّ ذلك ينعكس على صورة مصر بتصنيفها ضمن الدول التي تعاني من حالة حقوق إنسان متردية من خلال انتهاك حقوق أساسية للأفراد، خاصة في تقارير الظل التي تقدم من المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية.