تبون يرفع الراية البيضاء أمام الجيش ويقر بدوره في إدارة البلاد.. ما القصة؟

منذ ٣ ساعات

12

طباعة

مشاركة

بعبارات ذات دلالات عميقة تتجاوز دوره في حماية الحدود إلى أدوار سياسية ومجتمعية من صميم اختصاص المؤسسات المدنية، أثنى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على جيش بلاده.

جاء ذلك في خطاب لتبون بمقر وزارة الدفاع الوطني بثه التلفزيون الرسمي في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، قال فيه: إن الأمن والاستقرار اللذين تنعم بهما الجزائر، واللذين هما على عاتق الجيش الوطني الشعبي وقوات الأمن، أسهما في تعزيز الجاذبية الاقتصادية، وجلب المستثمرين الوطنيين والأجانب.

وأشار تبون إلى أن الجيش “بات مهاب الجانب وصعب الاقتراب منه، وتأقلم مع الحروب الهجينة والحروب السيبرانية ومع الذكاء الاصطناعي، كما أصبح مدرسة عليا للوطنية، والدفاع الشرس عن حريتنا، وحرمة التراب الوطني، وعن الوفاء لرسالة أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954 (ثورة التحرير)”.

صراع نفوذ

وجددت هذه الأوصاف الحديث عن الدور المحوري للجيش الجزائري وتأثيره على الحياة السياسية في البلاد، وتحكمه في تفاصيلها القرارات التي تتخذها الرئاسة والحكومة والبرلمان.

كما تعيد النقاش حول أن "تبون رفع الراية البيضاء أمام سلطة الجيش"؛ حيث تحدث موقع "ساحل انتليجنس"، أن الرئيس الجزائري خطَّط منذ أواخر 2024 لإقالة رئيس أركان الجيش، الفريق السعيد شنقريحة، وتعويضه بالجنرال محمد قايدي، المقرب من دوائر مدنية وغربية.

وذكر الموقع من خلال تقرير في 25 أغسطس/آب 2025، أن "هذه الخطط اصطدمت برفض قوي من المؤسسة العسكرية التي عززت قبضتها على الرئاسة".

وأكد أن “الأركان والاستخبارات العسكرية باتت تتحكم في قرارات تبون الإستراتيجية، لتتحول صلاحياته إلى مجرد واجهة، بينما يدير الجيش أجندته وصورته الإعلامية، ما يعكس استمرار هيمنة المؤسسة العسكرية كالحاكم الفعلي للبلاد”.

وأوضح الموقع أن “الصدام بين تبون وشنقريحة لا يقتصر على الخلافات الشخصية، بل يكشف عن معركة أعمق حول طبيعة الحكم، وهل سيبقى الجيش المتحكم الأول في القرار السياسي، أم ستنجح الرئاسة في فرض توازن جديد يمنحها هامش استقلال أكبر؟”

وشدَّد على أن “الجزائر أمام خيارين أحلاهما مر، إما استمرار الوضع الراهن مع رئيس محدود الصلاحيات تحت وصاية الجيش، أو الدخول في تصعيد قد يعيد تشكيل السلطة بشكل جذري، وسط انسداد سياسي واقتصادي متواصل”.

تحالف سلطوي

وفي قراءته لما ورد في خطاب تبون، قال مدير مركز "الصحراء وإفريقيا للدراسات الإستراتيجية"، عبد الفتاح الفاتيحي: إن الرئيس الجزائري "بصم في خطابه وبشكل رسمي على التحالف المستدام بين النظام السياسي والجيش".

ورأى الفاتيحي لـ"الاستقلال" أن "هذا التحالف كرَّس الاستبداد السياسي في البلاد"، وفق تعبيره، مشددا على أن "الجزائر تعاني من هذا الوضع مند عهد الرئيس الراحل هواري بومدين المتوفى في 27 ديسمبر 1978".

ويرى أن "استمرار تضارب المصالح بين أقطاب السلطة، بما يشبه زواجا كاثوليكيا بين الفساد والاستبداد، يجرى بمباركة نظام حكومي يغضّ الطرف عن الانتهاكات".

وشدد الفاتيحي على أن "هذا الوضع يعزز الفساد في تدبير الشأن العام ويؤدي إلى انعدام الشفافية، ومن ذلك ما تعلق بنفقات الجيش والتي تستحوذ على أعلى نسبة من الموازنة العامة سنويا".

ولفت إلى أن "الجزائر احتلت المرتبة 107 عالميا في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، وهو مؤشر يعكس عمق الأزمات الهيكلية التي تعاني منها البلاد في مجال الشفافية والمساءلة بسبب تدخل الجيش في السياسة وضعف الوضوح في إدارة الشأن العام".

وأوضح الباحث الإستراتيجي أن "الفساد لا يقتصر على القطاع العام فقط، بل يستفحل أيضا في القطاع الخاص، لا سيما في المجالات الخاضعة لنفوذ المؤسسة العسكرية، مثل المواد الأساسية كالغذاء، والأدوية، ومواد البناء، والتبغ والأسلحة، وقطاعات إستراتيجية كالبنية التحتية".

ورأى أن "هذا التمدد يعود إلى تحكم الجيش في مفاصل الاقتصاد، ما يقوّض كل محاولات الإصلاح أو الشفافية".

وشدد الفاتيحي على أن ما وصفه بـ"الاحتكار السلطوي من طرف نخبة ضيقة في إدارة البلاد تحت سلطة الجيش، يفضح نسق الاستبداد السائد في الجزائر، ويؤكد أن بيئة الفساد السياسي والإداري مازالت قائمة، بل ومحمية من رأس الهرم".

ونبَّه إلى أن "قوة النظام العسكري الجزائري تقوم على قمع أي محاولة لفصل سلطاته عن الموارد الاقتصادية ومقدرات البلاد".

وخلص الفاتيحي إلى أن “ما يتم كشفه في الفترة الأخيرة من فضائح فساد تورط فيها كبار رجال الدولة، يخفي غابة كاملة من الفساد، في ظل التحالف القائم بين المصالح الاقتصادية للنخبة الحاكمة وممارسات النظام العسكري”.

ميثاق غليظ

بعيد خطاب تبون بيومين، أكدت افتتاحية "مجلة الجيش" لسان حال المؤسسة العسكرية في الجزائر، أن "الجيش يواصل بروح عالية من الواجب الوطني ووعي بالرهانات الكبرى، أداء مهامه في الدفاع عن الوطن وتعزيز السيادة والاستقلال، مبرهنًا على جاهزيته واحترافيته في كل الظروف".

وقالت المجلة في عددها الأخير لشهر أكتوبر 2025: إن "أفراد الجيش مستعدون دوما لمواجهة جميع التهديدات والتحديات، بهدف حفظ الأمن ونشر الطمأنينة في كامل أنحاء البلاد".

وأضافت أن “تبون أكد خلال زيارته لمقر وزارة الدفاع الوطني أن الجيش الجزائري أصبح مهاب الجانب بفضل تأقلمه مع العقيدة الدفاعية الحديثة والحروب الهجينة والسيبرانية والذكاء الاصطناعي”. عادّا إياه "مدرسة عليا للوطنية والدفاع عن الحرية والسيادة".

وذكرت الافتتاحية أن الرئيس شدَّد على أن الحدود الوطنية آمنة بفضل قوة الجيش ويقظته، مؤكدا أن الجزائر في منأى عن الأطماع الخارجية بفضل هذا التفوق العسكري والدفاعي.

المجلة أكَّدت أن أفراد الجيش مستعدون دوما لمواجهة جميع التهديدات والتحديات، بهدف حفظ الأمن ونشر الطمأنينة في كامل أنحاء البلاد.

وأشارت إلى أنَّ "ما يحققه الجيش الوطني الشعبي من إنجازات يجسد التزامه وجاهزيته للوقوف سدا منيعا أمام كل من يحاول العبث بأمن واستقرار وطننا وسكينة شعبنا، عملا بالميثاق الغليظ الذي قطعه على نفسه لصون أمانة أسلافنا الميامين وحفظ وديعتهم التي لا تقدر بثمن".

الانفاق العسكري

ويعد الإنفاق العسكري أحد أبرز معالم سيطرة الجيش على قرار الحكومة والبرلمان؛ إذ يستحوذ على أعلى المخصصات، رغم حاجة قطاعات أخرى لتركيز الاهتمام، خاصة الصحة والتعليم والتشغيل والتنمية المحلية.

واعتمد مجلس الوزراء في 5 أكتوبر 2025 مشروع قانون المالية الجزائري لعام 2026؛ حيث بلغت ميزانية الجيش حوالي 25 مليار دولار، أي ما يعادل 20.6 بالمئة من الميزانية العامة للدولة.

وتبلغ الميزانية العامة للجزائر لعام 2026، 135 مليار دولار، وهو رقم قياسي، فيما بلغت عام 2025 نحو 128 مليار دولار، مقارنة بـ113 مليار دولار في 2024.

وشهد تمويل الجيش زيادات كبيرة ومستمرة على مدى السنوات الأربع الماضية، وبالنظر إلى الناتج الداخلي الخام للبلاد أو إلى ميزانية الدولة، فإنّ الجيش يحمل الرقم القياسي العالمي.

يشار إلى أنه خلال خريف عام 2022، وبينما تأثرت الخزينة الجزائرية بشدة بجائحة كورونا، التي قَلصت بشكل كبير عائدات النفط، المصدر الرئيس لمداخيل الميزانية، قررت الجزائر مضاعفة ميزانيتها العسكرية بشكل مفاجئ.

وارتفعت هذه الأخيرة دفعة واحدة من نطاق يتراوح بين 8 و11 مليار دولار بين عامي 2020 و2022 إلى أكثر من 18 مليار دولار خلال عام 2023.

ومنذ تلك الفترة، استمرَّت هذه الميزانية الضخمة في الارتفاع سنويا، لتصل إلى 22 مليار دولار عام 2024، ثم إلى أكثر من 24 مليار دولار عام 2025، قبل أن تبلغ حوالي 25 مليار دولار عام 2026.

أزمة مستفحلة

وفي هذا الصدد، رأى الكاتب والصحفي الموريتاني محمد ولد بواه، أن هذا الإنفاق الهائل للجيش "يؤكّد تحكمه في القرار السياسي في البلاد".

وذكر ولد بواه لـ"الاستقلال" أن وزارة المالية هي التي تنافس الجيش على حجم الميزانية، غير أن نصيبها الأكبر يذهب إلى ما يوصف بـ"النفقات غير المخصصة"، والتي تقترب من 17 مليار دولار.

وأفاد بأن “هذه النفقات لا أحد يعلم إلى أين ستذهب بشكل واضح، غير أن الجيش هو المتحكم فيها أيضا، مما يعزز الإنفاق الهائل أصلا للجيش”.

ورأى ولد بواه أنه “لا يمكن تفسير ميزانية الجيش الجزائري الكبيرة والتي هي ضعف ميزانية التعليم (10.7 بالمئة)، بالتحديات الأمنية الناجمة عن التوترات الإقليمية، كما يحاول بعض المراقبين تبريره”.

وأردف “الواقع أن التوترات الأحادية الجانب مع المغرب أو على الحدود مع دول الساحل قائمة منذ عقود عديدة، بل إنها تراجعت حدتها منذ أن فرض المغرب الهدوء عسكريا ودبلوماسيا في أقاليمه الجنوبية”.

ويرى الكاتب أن “هذا الإنفاق الكبير للجيش يفسر سبب استمرار تحكمه في الحياة السياسية والقرارات الحكومية، موهما المواطنين بأن البلاد محاطة بالأعداء لتبرير هذه النفقات الكبيرة”.

وذكر أن “الجيش بقيادة الجنرال شنقريحة، رئيس أركان الجيش، يتولى منصبه كوزير منتدب للدفاع الوطني، مما يسمح له بالعمل بحرية، ليس فقط في وزارة الدفاع التي يحتكرها بالفعل منذ يناير/كانون الثاني 2020، بل أيضا في جميع مجالات السياسة والاقتصاد في البلاد”.

وخلص ولد بواه إلى أنه “بين عامي 2023 و2026، سيكون الجيش الجزائري قد ابتلع حوالي 90 مليار دولار، وهو هدر هائل في بلد يعاني من نقص كبير متكرر، أحيانا في المواد الغذائية الأساسية، وأحيانا في قطع غيار المركبات، وأحيانا أخرى في المنتجات الصيدلية”.

وفي تشخيصه لمعالم أزمة النظام والحكم في بلاده، أكَّد رئيس "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" المعارض، عثمان معزوز، أن "الحياة في المجتمع تنطفئ، وتفرغ المواطنة من معناها دون تعددية حقيقية".

وأشار معزوز خلال لقاء حزبي في 10 أكتوبر 2025 إلى أن الجزائر "تمرّ بإحدى أحلك الفترات في تاريخها المعاصر، فالسلطة تتحدث عن الاستقرار، لكن كل شيء ينهار...".

وأضاف أن "المؤسسات بلا شرعية، القانون مُسيس، والخطاب الرسمي لم يعد له هدف سوى إخفاء فراغ النظام... الحريات مصادرة، الأحزاب صامتة والصحافة مروّضة، والنشطاء مُطاردون".

ولفت معزوز إلى أن "البلاد لم تعرف منذ نهاية الحزب الواحد (عام 1989) مثل هذا التراجع السياسي: اقتصاديا الإفلاس واضح: فالأسعار ترتفع والشباب يهربون (موجات الهجرة غير النظامية)، والكفاءات تهاجر والشركات تُغلق...".

واسترسل: "كما أن هذه السلطة التي تُسمي نفسها جديدة لم تصلِح ولم تنجز ولم تستوعب شيئا، فهي لا تحكم، بل تدير بقاء نظام يحتضر، وفي حين تنهار مؤسسات الدولة، يتفكك المجتمع ويستفحل البؤس، ويعم الاستسلام".