رقابة على الصيام والحجاب.. كيف تصنع فرنسا سردية الخوف من المسلمين؟

عد التقرير ارتداء الحجاب وصيام رمضان لمن هم دون السادسة عشرة "شكلاً من أشكال العنف النفسي التربوي"
في خضم مشهد سياسي متوتر تتسارع فيه الحسابات الانتخابية، تجد فرنسا نفسها مرة أخرى غارقة في سجال صاخب حول علاقة الدولة بمواطنيها المسلمين.
وقد أعادت التوصيات البرلمانية الصادرة في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إشعال هذا الجدل، بعدما اقترحت حظر ارتداء الحجاب وصيام رمضان لمن هم دون سن السادسة عشرة، وهي توصيات عدها مراقبون ذروة لمسار متواصل يهدف إلى تقويض الحريات الدينية والتدخل في الحياة الخاصة تحت شعار العلمانية وحماية الطفل.
ولم يأتِ هذا الجدل من فراغ، بل يُعد امتدادًا لمسار مشحون عاشته البلاد على مدى ثلاثة عقود، تصاعدت خلالها موجات الإسلاموفوبيا، وتوسّعت التشريعات والإجراءات التي تستهدف المسلمين.
ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه النقاشات من موضوعات إعلامية مثيرة للضجيج إلى أدوات سياسية مركزية في المنافسات الانتخابية، لتدفع بالمجتمع الفرنسي إلى حالة من الاستقطاب الحاد والانقسام المتزايد.
توصيات مثيرة للجدل
أثار مجلس الشيوخ الفرنسي موجة جديدة من الجدل بعد نشر تقرير من مئة صفحة بعنوان "الإسلاموية: عائق أمام تماسكنا الوطني"، تضمّن توصيات مثيرة للجدل حول ممارسة الشعائر الدينية لدى القاصرين المسلمين.
فقد عد التقرير ارتداء الحجاب وصيام رمضان لمن هم دون السادسة عشرة "شكلاً من أشكال العنف النفسي التربوي"، وهي صياغة يرى منتقدون أنها تكشف مدى الانزياح المفاهيمي الذي بلغته النقاشات التشريعية في فرنسا.
ففي الوقت الذي تُعدّ هذه الممارسات شائعة بين ملايين المسلمين حول العالم بوصفها جزءا طبيعيا من هويتهم الدينية، يعاد توصيفها في الساحة السياسية الفرنسية كأعمال مؤذية للأطفال، ما يعكس – وفق مراقبين – تحوّلاً عميقاً في مقاربة الدولة لمسألة الحريات الدينية.
التقرير الذي أشرفت عليه السيناتور جاكلين أوستاش برينيو بدعم من كتلة الجمهوريين، تضمّن 17 توصية تهدف – بحسب واضعيه – إلى الحدّ مما سموه "التغلغل الإسلاموي" داخل المؤسسات العامة. وتشمل هذه التوصيات حظر الحجاب على مرافقات المدارس، وتشديد الرقابة على الأسر والمساجد والأنشطة الدينية.
ويرى منتقدون أن هذه المقترحات ترسّخ منظومة استثنائية تتعامل مع المسلمين الفرنسيين كفئة منفصلة عن باقي المجتمع، وتضعهم تحت رقابة قانونية وثقافية مشددة، الأمر الذي يفاقم الشعور بالاستهداف ويعمّق الشرخ داخل المجتمع الفرنسي.
مراقبة خلال رمضان
ومن هنا، يبرز أخطر ما ورد في التقرير البرلماني المقترح، والمتمثل في الدعوة إلى مراقبة سلوك الأطفال خلال شهر رمضان للتحقق مما إذا كانوا يصومون أم لا.
مقترحٌ كهذا، أثار صدمة واسعة لدى الفاعلين الحقوقيين، وعد – وفق عميد مسجد باريس الكبير شمس الدين حفيظ – تدخلاً غير مسبوق في الحياة الخاصة واعتداء مباشرا على حرية الضمير.
حفيظ الذي وجّه انتقادات لاذعة للتقرير، اتهم معدّيه بممارسة خلط ممنهج بين الإسلام كدين، وبين الإسلاموية كأيديولوجيا سياسية، محذرا من أن فرض قيود على صيام القُصّر يعكس جهلا واضحا بالتقاليد الإسلامية وتدخلاً غير مبرر في الفضاء الروحي للمسلمين.
كما نبه إلى أن مثل هذه التوجهات قد تفتح الباب أمام مراقبة الأسر والتدخل في خياراتها التربوية، في خرق صريح للدستور الفرنسي الذي يكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية.
الإعلان عن هذه التوصيات أعاد فتح ملف أوسع يتعلق بدور استطلاعات الرأي والدراسات البحثية في تشكيل الانطباعات العامة حول المسلمين في فرنسا، وسط اتهامات متزايدة لتلك الدراسات بالتحيّز والانخراط في أجندات أيديولوجية.
فقد كشفت صحيفة لوموند أن دراسة موسعة حول ما سمي "التوجه الإسلامي لدى المسلمين الفرنسيين"، أعدّها معهد إيفوب، جاءت بتمويل من مواقع ومجلات تقدّم نفسها كمنصات لمكافحة التطرف، بينما ترتبط عمليا بشبكات سياسية وإعلامية متهمة بتأجيج الإسلاموفوبيا وإعادة إنتاج الصور النمطية.
ورغم الانتقادات المنهجية الحادة التي وجّهها الباحث الفرنسي المتخصص في قضايا الإسلام فرانسوا بورغا لتلك الدراسة، فإنه دعا إلى عدم رفض نتائجها بالكامل، بل إلى رفض طريقة صياغتها ومقاصدها التي رآها جزءا من "مناخ من الترهيب الرمزي" الذي يعيشه المسلمون في فرنسا.
ويرى بورغا أن عودة التدين لدى الشباب المسلم ليست ظاهرة استثنائية أو تهديدا اجتماعيا، بل هي تفاعل طبيعي مع موجات الإقصاء والوصم التي يتعرضون لها، ومع شعور متنامٍ بالبحث عن هوية وسط سياق سياسي وثقافي محتدم.

إسلاموفوبيا مقنعة
أما الناشطة والأستاذة الجامعية إسماهان شودر، وهي من أبرز الأصوات المدافعة عن حقوق المسلمين في فرنسا، فترى أن ما يجري اليوم ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التشريعات والقرارات التي تستهدف المسلمين بشكل مباشر، حتى وإن تم تمريرها تحت شعارات مثل حماية الطفل أو الدفاع عن العلمانية.
تؤكد شودر أن الهجمات لم تبدأ اليوم، وإنما تمتد لثلاثة عقود، غير أنها في السنوات الأخيرة اتخذت شكلا أكثر جرأة وحدّة، تغذيه حالة التوتر السياسي والسباق المحموم نحو استقطاب أصوات اليمين واحتواء خطاب اليمين المتطرف. ومع كل استحقاق انتخابي، تعود هذه الملفات إلى الواجهة بوصفها أدوات تعبئة سياسية فعالة، تُستخدم لصرف الانتباه عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد.
وبرأيها، لم يعد هذا التصعيد مجرد خطاب إعلامي أو حالة استثنائية، بل تحوّل إلى مشاريع قوانين مكتملة الأركان تؤثر على تفاصيل الحياة اليومية للمسلمين، وتعمّق شعورهم بالعزلة والإقصاء والوصم الجماعي.
ومن أبرز النقاط التي أثارت الجدل في دراسة معهد إيفوب هو الارتفاع الواضح في مستوى التدين لدى الشباب المسلم في فرنسا، سواء على مستوى الممارسة الدينية أو التمسك بالمظاهر المرتبطة بالهوية الإسلامية.
ويفسر بعض الباحثين هذا الارتفاع بصفته رد فعل طبيعي على الشعور المتزايد بالإقصاء والضغط الاجتماعي والسياسي، وليس تحديا للقيم الجمهورية أو تهديدا لأسس الدولة.
ويصف الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا هذا التحول قائلاً: إن الدولة الفرنسية، قبل عام 2020، كانت تستهدف سلوكيات أو ممارسات تقوم بها أقلية صغيرة من المسلمين، أما بعد ذلك التاريخ فقد أصبح الاستهداف موجهاً نحو الممارسات الأكثر شيوعاً بين غالبية المسلمين.
ويرى بورغا أن هذا التغيير يعمّق الانقسامات داخل المجتمع الفرنسي، ويجعل المسلمين يعيشون تحت شعور دائم بأنهم فئة مراقَبة باستمرار، مما يفاقم الشعور بالوصم ويضعف الثقة بين المواطنين والدولة.

مزايدات سياسية
وقد أثار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية موجة جديدة من التساؤلات حين كشف أن مجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف) كلّف جهة خاصة بإجراء تحقيق يتضمن جمع بيانات عن المسلمين الفرنسيين، نُفذ جزء منه – وفق المجلس – عبر شخص ذي ارتباط بأجهزة إسرائيلية.
هذا الكشف أعاد الجدل إلى نقطة حساسة تتعلق بحدود الرقابة وشرعية جمع بيانات دينية في دولة يفترض أن تحمي الخصوصية وتفصل الدين عن السياسة.
وبالنسبة للناشطة إسماهان شودر، فإن هذه الممارسات ليست مجرد حادثة معزولة، بل تمثل تلاعبا صارخا يهدف إلى صناعة خطاب يوصم المسلمين بصورة منهجية، مستندا إلى مناخ الخوف العالمي من الإرهاب، وإلى الحرب الإسرائيلية على غزة التي تحولت – كما تقول – إلى ذريعة لاتهام أي صوت مسلم معارض بأنه معادٍ للسامية.
وترى شودر أن هذا الربط المتعمد بين معاداة السامية والإسلام يخلق معادلة خطيرة تصوّر المسلمين كعدو داخلي محتمل، وتفتح المجال أمام تشريعات تضرب الحقوق المدنية والدينية، وتدفع الكثير منهم نحو الانكفاء داخل دوائرهم الاجتماعية الضيقة، بحثا عن شعور بالأمان والاحترام.
ورغم أن ظاهر النقاش يبدو دينيا، فإن جوهره – بحسب الباحث فرانسوا بورغا – سياسي بامتياز، يرتبط بما يسميه "المزايدة بين اليمين المتطرف والحكومة على ورقة الهوية والخوف من الأجانب".
ويرى بورغا أن ما نشهده اليوم ليس ظاهرة طارئة، بل استمرار لمسار بدأ منذ سنوات يقوم على تحويل الإسلام إلى مادة للتصعيد السياسي الدائم، تُستدعى كلما احتاجت السلطة أو المعارضة إلى كسب التأييد الشعبي أو إظهار الحزم.
بالنسبة لكثير من المسلمين في فرنسا، تنتج هذه السياسات شعورا عميقا بأنهم مستهدفون بوصفهم جماعة، وأنهم يُحمّلون مسؤولية جماعية عن أحداث وتوترات لا علاقة لهم بها.
ويعبر كثيرون عن قلق متزايد من أن تتحول هذه التشريعات "الاستثنائية" إلى بنية قانونية راسخة تحدّ من وجودهم وحقوقهم، وتضع قيودا طويلة الأمد على ممارسة شعائرهم الدينية وحريتهم في المجال العام.

انعطافة خطيرة
وقال الناشط الحقوقي مصطفى عز الدين فؤاد لـ"الاستقلال": إن المقترحات التشريعية المطروحة في فرنسا بشأن حظر الحجاب ومنع صيام الأطفال تمثل "انعطافة خطيرة" في علاقة الدولة الفرنسية بمواطنيها المسلمين، وقد تؤسس لمرحلة جديدة يتم فيها التعامل مع الممارسات الدينية بوصفها سلوكا يستوجب المراقبة والتقنين العقابي.
وأوضح فؤاد أن التوجه نحو إخضاع مظاهر التدين – مثل الحجاب والصيام – لآليات رقابية أو تشريعات تقييدية، قد يؤدي، إذا ما تم اعتماده، إلى تحويل شريحة واسعة من المسلمين إلى فئة خاضعة لرقابة خاصة، بما يفتح الباب أمام إجراءات استثنائية تستهدف الأسر والمساجد والمؤسسات الدينية تحت شعار حماية النظام العام.
وأكد أن خطورة هذه المقترحات لا تكمُن في مضمونها فحسب، بل في المناخ السياسي الذي يسمح بطرحها وتكرار ترويجها، وفي الدور الذي تؤديه بعض السرديات الإعلامية في إعادة إنتاج صورة المسلمين بصفتهم تهديدا للهوية الوطنية أو الأمن القومي.
ويرى فؤاد أن هذا الخطاب يسهم في تغذية الاستقطاب ويعمق الشعور بالقطيعة لدى الجيل الجديد من المسلمين في فرنسا، الذين باتوا يشعرون بأن هويتهم الدينية أصبحت تحت الاختبار الدائم.
وأضاف أن اقتراب الاستحقاقات الانتخابية يشكل عاملاً محفزاً يدفع بعض القوى السياسية إلى استثمار هذا الجدل لتعزيز حضورها ومخاطبة قواعدها الانتخابية، مما يجعل النقاش حول الإسلام والمسلمين مرشحا للتصاعد ومستمرا في المشهد الفرنسي خلال الفترة المقبلة.
وهو ما قد يحمل معه مزيداً من التوترات والتحديات التي تمس الحقوق الأساسية لملايين المواطنين المسلمين، وتضعهم أمام واقع اجتماعي وسياسي أكثر تعقيداً.














