تعاون قضائي بين بيروت ودمشق.. خطوة نحو العدالة أم مناورة سياسية؟

مصعب المجبل | منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

عادت سوريا ولبنان عقب سقوط نظام بشار الأسد إلى محاولة فتح صفحة جديدة في العلاقات تقوم على مبدأ الاحترام والسيادة وعدم التدخل في شؤون البلدين.

إذ ما تزال دمشق وبيروت تنظران إلى الملفات العالقة بين البلدين كإحدى العقبات الرئيسة في دفع العلاقات السياسية نحو الأمام ورفع مستوى التعاون بين هاتين الدولتين.

تعاون قضائي

وفي خطوة جديد، فقد اقتربت سوريا ولبنان من إبرام اتفاقية تعاون قضائي بين البلدين، بعد تكيف اللقاءات بين المسؤولين على المستوى الرسمي.

وأعلن وزير العدل السوري مظهر الويس، في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2025 إحراز تقدم في النقاشات حول التوصل إلى اتفاقية تعاون قضائي مع لبنان، مؤكدا أن وجهات النظر بين البلدين متقاربة، وأن الأمور تسير في إطارها القانوني الصحيح.

جاء ذلك خلال مؤتمر صحفي في بيروت مع نظيره اللبناني عادل نصار ونائب رئيس الحكومة اللبناني طارق متري. وفق وكالة الأنباء السورية "سانا".

وقال الويس: "أحرزنا تقدما في النقاشات حول التوصل إلى اتفاقية تعاون قضائي مع لبنان، والتي ستكون مبنية على أساس مبادئ العدالة واحترام السيادة".

وأوضح أن "وجهات النظر بين البلدين متقاربة، وأن الأمور تسير في إطارها القانوني الصحيح".

وبين الويس أن "النقاشات تناولت مسائل التعاون القضائي المتعلقة بالمعتقلين السوريين في لبنان والمطلوبين السوريين الفارّين من وجه العدالة إلى لبنان واللبنانيين الفارين إلى سوريا".

ولفت وزير العدل السوري إلى مناقشة "الملفات القديمة المتعلقة بالتعاون في القضايا الأمنية التي حدثت في لبنان".

وأشار الويس إلى أن "فرقا خاصة تشكلت لمتابعة إظهار الحقيقة وتحقيق العدالة".

وجاءت هذه الزيارة بعد زيارة أجراها وزير الخارجية والمغتربين السوري أسعد حسن الشيباني ووزير العدل مظهر الويس، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة حسين السلامة إلى بيروت في 10 أكتوبر 2025.

وزيارة الشيباني هي الأولى لمسؤول رسمي سوري إلى لبنان منذ سقوط الأسد، حيث أكد فيها أن السلطات الحالية في سوريا "تحترم سيادة لبنان"، ومبدأ "عدم التدخل في شؤونه الداخلية". وأضاف "نريد أن نتجاوز مع لبنان عقبات الماضي".

بدوره، قال وزير العدل اللبناني عادل نصار خلال اللقاء مع الويس إن "مناقشة صياغة الاتفاقية القضائية قطعت خطوات كبيرة نحو إنهاء نصها القانوني".

وأشار نصار إلى أن "الاتفاقية لا تشمل المتورطين بجرائم القتل، سواء للمدنيين أو العسكريين اللبنانيين وجرائم الاغتصاب".

وأكد نصار على أن "الاجتماع كان بَنّاء وإيجابيا، وتطرق إلى قضية الفارين من العدالة من لبنان إلى سوريا، والحصول على المعلومات الأمنية، والاغتيالات التي حصلت في لبنان على أيدي النظام البائد، إضافة إلى قضية المغيبين قسرا".

وشدد نصار على "التزام الجانبين السوري واللبناني باحترام الأطر القانونية للاتفاقية، بما يضمن احترام سيادة البلدين". مشيرا إلى "وجود رغبة قوية للتعاون المشترك".

وبحسب وزارة العدل اللبنانية، فإنه تم الاتفاق على توفير الدعم الكامل لعمل لجنة متابعة ملف المخفيين قسرا، بالإضافة إلى تسليم المعلومات المتوفرة كافة لدى الجانب السوري عن الأعمال الأمنية التي حصلت في لبنان إبان عهد نظام الأسد الأب والابن، لا سيما الاغتيالات السياسية، وكذلك البحث عن الفارين من السلطات اللبنانية إلى سوريا وتسليمهم.

ويعدّها اللبنانيون من أكثر الحقب "دمويةً وقتامةً"؛ إذ ذاقوا خلالها أبشع أنواع التنكيل والقتل والاغتيال، في فترة وصاية نظام الأسد على لبنان، التي امتدت من عام 1976 حتى 2005.

وتحت غطاء الجامعة العربية، دخل الجيش السوري إلى لبنان في ديسمبر/كانون الأول 1976، بينما كانت نيران الحرب الأهلية مشتعلة منذ عام، وكان الهدف السوري المعلن آنذاك وضع حد للحرب، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاعها.

لكن الضربة القاضية لوجود النظام السوري في لبنان جاءت في 5 مارس/آذار 2005، حينما ألقى بشار الأسد خطابا أمام مجلس الشعب أعلن فيه قرار سحب قواته من لبنان، وهو ما اكتمل في 26 أبريل/نيسان من العام نفسه.

وأتى قرار الانسحاب في ظل احتجاجات شعبية في لبنان أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، في تفجير بالعاصمة بيروت، مع اتهامات لنظام الأسد بأنه وراء اغتياله، بالإضافة إلى اغتيالات متتالية استهدفت شخصيات سياسية وإعلامية وقتها.

بالمقابل، ما يزال لبنان يتصلب في معالجة أوضاع المعتقلين السوريين في سجونه، وكان يتوقع أن يتحرك هذا الملف بشكل أسرع بعد سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، لكنه ما زال يراوح مكانه، وسط انعقاد لجان وزيارات لوفود لبحث القضية.

ويقبع السجناء السوريون في لبنان بسجن رومية شرق العاصمة بيروت ويقدر عددهم بنحو 2200، وتختلف أنواع التهم الموجهة إليهم من المشاركة في الثورة السورية أو حتى لأسباب تتعلق باللجوء إلى لبنان.

وسمحت سطوة نظام الأسد البائد على لبنان آنذاك في الزج بهؤلاء بسجن رومية بعد أن جرى اعتقالهم على خلفية مشاركتهم بالثورة السورية.

وقد وثقت منظمات حقوقية مقتل نحو 29 مسجونا سوريا في سجن رومية خلال السنوات السابقة، بسبب الإهمال الطبي، بينهم سوري بقي يعاني من أمراض القلب لثلاثة أشهر قبل أن يموت داخل السجن.

"منفعة متبادلة"

وأمام ذلك، فإن الحراك القضائي بين بيروت ودمشق فتح مسارا جديدا بين الجانبين، ما زالت أصداؤه تتفاعل في الأوساط القانونية والسياسية، خاصة أنه يلامس ملفات شائكة تعود إلى فترات الاغتيالات والانقسام السياسي في لبنان.

ولا سيما أن هذه خطوة تعد وفق الخبراء "إيجابية" كونها تختلف عن طبيعة العلاقة السابقة التي شابتها الوصاية وعدم الندية بين البلدين.

ولهذا فإن حل ملف السجناء السوريين وغيرهم من الموقوفين في لبنان دون محاكمة بسبب شلل القضاء في السنوات الأخيرة، يعد ضرورة ملحة عقب سقوط الأسد، خاصة أنه ملف إنساني حساس يؤثر على مئات العائلات.

كذلك فإن هذا التعاون القضائي يؤسس وفق الخبراء، إلى تبادل المطلوبين بين البلدين شرط وجود مذكرات رسمية أو نشرات من الإنتربول "الشرطة الدولية" بحيث يمكن تسليم المطلوبين وفق الأصول القانونية وليس بطرق عشوائية أو سياسية.

ولهذا فإن جود تعاون قضائي حقيقي بين سوريا ولبنان ليس مجرد خطوة سياسية، بل هو شرط أساسي لتحقيق العدالة، واستقرار البلدين، وإنصاف الضحايا، وبناء علاقة سليمة قائمة على الاحترام المتبادل وسيادة القانون.

 وضمن هذا السياق، أكد المحامي والقانوني اللبناني محمد صبلوح لـ"الاستقلال" "أن اللقاءات التي تجري حاليا بين المسؤولين في لبنان وسوريا، لا سيما في وزارتي العدل والخارجية، والوفود التي زارت البلدين، قد كسرت الجليد وأعطت انطباعا إيجابيا حول مستقبل العلاقات بين الدولتين، وهو أمر في غاية الأهمية".

وأضاف صبلوح "يجري حاليا تنسيق اتفاق قضائي لمعالجة قضايا السجناء السوريين في لبنان، إضافة إلى اتفاق قضائي آخر يتعلق بمتابعة قضايا الاغتيالات السياسية التي حدثت في لبنان، وهو أيضا ملف بالغ الحساسية والأهمية".

وأردف "فيما يخص ملف السجناء السوريين، من الضروري أن يكون الاتفاق شاملا لمعالجة جميع القضايا والمشكلات المرتبطة بهم، وألا يكون مجزأ، لأن العدالة لا تتجزأ.

مضيفا: "وعلى لبنان، في مرحلة ما، أن يعترف بالأخطاء التي ارتكبت خلال فترة حكم بشار الأسد، خاصة أن بعض الانتهاكات الأمنية والقضائية التي حصلت في لبنان كانت تنفذ تطبيقا لأجندات الغرف السوداء الاستخباراتية، ومن ضمنها غرف الأسد".

ورأى صبلوح أنه "لا يمكن للبنان أن يفرج عن جزء من السجناء ويبقي على آخرين تحت أي حجج؛ لأن معظم الملفات كانت مفبركة من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية، بحسب التوثيقات التي أجريت مع منظمات دولية".

ولهذا وفق صبلوح "فإن معالجة هذا الملف يجب أن تكون شاملة وغير انتقائية؛ لأن أي اتفاقية تبرم بين وزيري العدل في البلدين يجب أن تمر عبر المجلس النيابي اللبناني، ومن الأفضل إعداد مشروع قانون متكامل يعالج قضية السجناء السوريين في لبنان بصورة كاملة".

"عدالة مؤجلة"

وشهد لبنان بين عامي 1976 و2005 حضورا أمنيا سوريا واسع النفوذ، شمل تأثيرا مباشرا على القرارين السياسي والأمني في البلاد. وقد عارضت شخصيات لبنانية بارزة هذا النفوذ، ودعت إلى ترسيخ سيادة الدولة، قبل أن تغتال في ظروف غامضة.

كما كشفت التحقيقات عن شبكات اغتيال يشتبه بتنسيقها مع جهات أمنية مرتبطة بنظام الأسد المخلوع، في وقت سبق عدد من العمليات خطاب سياسي سوري أو صادر عن حلفائه في لبنان تضمن رسائل تهديد مبطنة، لا سيما اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005.

ورغم غياب حكم قضائي مباشر ضد نظام الأسد، إلا أن المؤشرات السياسية والأمنية، وشهادات كثير من المسؤولين، جعلت نظام الأسد يتهم بأنه المستفيد الأكبر أو المتورط بصورة مباشرة أو غير مباشرة من تلك الاغتيالات التي طالت رؤساء وقادة سياسيين وحزبيين وصحفيين ورجال دين، وبقيت بمعظمها إما مجهولة الفاعل أو مطموسة التحقيقات.

وهنا يشير صبلوح إلى أن "هذا الاتفاق القضائي مهم جدا في إطار ملف الاغتيالات السياسية في لبنان إبان حقبة الأسدين (حافظ وبشار)، لأنه سيتيح معرفة كل من ارتكب جريمة اغتيال، ومنع سقوط هذه الجرائم بالتقادم، كما أنه يحمل رسالة واضحة للمستقبل: كل من يفكر في ارتكاب جريمة سياسية سيلاحق عاجلا أم آجلا".

وذهب صبلوح للقول: "إن التعاون القضائي والأمني بين البلدين سيكون له أثر كبير في كشف خلفيات الاغتيالات السياسية، وإظهار حقائق غابت عن الرأي العام لأكثر من 50 عاما".

ومضى يقول "يبقى الأمل بأن تترجم هذه الخطوات الإيجابية المعلنة إلى واقع عملي، من خلال معالجة أوضاع السجون، وكشف الفاعلين الحقيقيين، وإظهار الأهداف الخفية وراء الجرائم والاغتيالات التي شهدها لبنان".

ولفت صبلوح إلى أن "تبادل المعلومات الأمنية والقضائية يسهم في منع الجرائم المنظمة، وتهريب السلاح، والإرهاب، وشبكات المخدرات، كما يحد من تسلل المجرمين أو المطلوبين بين البلدين".

وأمام ذلك، فإن التعاون اللبناني المحتمل مع الدولة السورية الجديدة قد يحمل مفاجآت خطيرة؛ إذ يمكن أن يكشف عن تواطؤ جهات لبنانية مع نظام الأسد في سلسلة الاغتيالات.

كما أن لبنان عقب سقوط الأسد طلب معلومات عن الفارين من العدالة الموجودين في سوريا مثل حبيب الشرتوني المتهم باغتيال الرئيس الأسبق بشير الجميل في العام 1982.

وكذلك المتورطين في تفجيري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس يوم 23 أغسطس/آب 2013 وقت صلاة الجمعة، إذ دوى انفجاران مروعان أسفرا عن مقتل 47 شخصا وإصابة المئات، وحينها قالت وسائل إعلام محلية: إن 6 من المتورطين لجأوا بدورهم إلى سوريا.

وقد بقيت العدالة مؤجلة في تلك الحادثة، لا سيما أن السلطات اللبنانية أصدرت لاحقا أحكاما بالإعدام لـ 8 متهمين في التفجير، بينما أصدرت مذكرات إلقاء القبض في حق المتهمين الفارين وهم "خضر العيروني، ومحمد علي، وناصر جوبان، وحيان رمضان، وأحمد مرعي، وسلمان أسعد".

وكان  جهاز الأمن الداخلي السوري تمكن من القبض في مارس/آذار 2025 على إبراهيم حويجة وهو رئيس المخابرات الجوية السابق في سوريا بين 1987 و2002، في مدينة جبلة والمتهم بتنفيذ اغتيالات في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد.

ونقلت وكالة الأنباء السورية "سانا" أن  حويجة متهم "بمئات الاغتيالات" في عهد عائلة الأسد، بينها "الإشراف على اغتيال" الزعيم الدرزي اللبناني كمال جنبلاط في 16 مارس 1977.

وعلى منصة إكس، أعاد النائب السابق وليد جنبلاط الذي ورث الزعامة عن والده بعد اغتياله، نشر الخبر مرفقا بتعليق "الله أكبر".


ولطالما اتهم جنبلاط نظام الأسد باغتيال والده الذي قُتل بإطلاق رصاص من مجهولين اعترضوا سيارته في خضمّ التدخّل السوري في الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990).