من قوة ناعمة إلى صلبة.. لماذا غيرت تركيا إستراتيجية المواجهة؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

إرث ثقيل تحمِله تركيا، وسط متغيرات على الصعيدين الداخلي والخارجي، أبرزها المتعلقة برؤية تركيا لدورها الإقليمي على ضوء ما تشهده المنطقة المحيطة مباشرة بها من اصطفافات جديدة وتوتُّرات وصراعات ومواجهات في أكثر من بُؤرة، ترى أنقرة أنها تُمثِّل مصدر خطر عليها وتُمثِّل تهديدا ًلمصالحها الآنية وعلى المدى البعيد.

تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، مُنذ الصعود إلى الحكم عام 2002، انتهجوا سياسة "العمق الإستراتيجي" التي اعتمدت في جوهرها على القوة الناعمة، ورغم نجاح هذه السياسة عبر شبكة علاقات دافئة مع الجوار الإقليمي، فإنَّ القوة الصلبة جاءت كواحدة من الأدوات التي باتت تحقق الإرادة السياسية للدولة في عالم مضطرب، وفي جوار ساخن يبدو مناخه دافئاً لصُنَّاع الحروب والنزاعات. 

وهو الأمر الذي واجهته تركيا في مدار حدودها الملتهبة في سوريا والعراق، وصراعات الغاز التي لا تهدأ في شرقي المتوسط، وتمدُّدها في قطر لحماية مصالحها أمام مُكايدة أبوظبي والرياض والقاهرة، مروراً بالعمق الإفريقي في الصومال والسودان.

عيد النصر

في 30 أغسطس/ آب الماضي، الموافق الذكرى الـ97 لـِ"عيد النصر" الذي تحتفل به الدولة التركية، بعث الرئيس رجب طيب أردوغان بمجموعة من الرسائل، حيث قال: إنَّ "بلاده مصممة على دحْر المكائد التي تُحاك ضدها شمال سوريا والعراق وشرقي حوض المتوسط. تركيا لن تسمح أبداً بالاستيلاء على حقوق شعبها والقبارصة الأتراك".

وأضاف: "حكومته ستواصل كفاحها مستلهِمة عزيمتها من النصر العظيم من أجل المُضِيِّ قُدُماً بتركيا إلى مستقبل أكثر إشراقاً ورفاهية. الشعب التركي على استعداد لإظهار نفس التضحيات والشجاعة من أجل وطنه الذي يعتزُّ به من أجل استقلاله ومستقبله".

وأكَّد أنَّ "نضال القوات المسلحة للدفاع عن وحدة تركيا داخل وخارج حدودها، هو أوضح دليل على ذلك". مشيراً إلى أنَّ نصر 30 أغسطس/آب 1922، حلْقة من حلقات السلسلة الذهبية لتاريخ الشعب التركي.

وتابع: "مع هذا النصر الملحمي الذي تحقق في 30 أغسطس، مزَّقت أمتنا قميص العبودية الذي حِيك لها، وأعلن بلدنا للعالم أنَّه لن يتنازل عن استقلاله بأيِّ ثمن كان. النصر العظيم، جاء ببشارة قيامة جمهورية تركيا آخر دولة للشعب التركي، وأنَّ النصر يُجسِّد قيامة الشعب التركي مُجدداً".

توسع جيوسياسي

حتى قبل سنوات قليلة، لم تكن تركيا تملك قواعد عسكرية خارج أراضيها ما عدا الوجود العسكري شمالي قبرص الذي يعود لعام 1974 عندما أرسلت تركيا آلاف الجنود إلى الجزيرة لحماية الأقلية التركية هناك.

القلاقل المستمرة من قبل السعودية والإمارات على الصعيد الإقليمي والمحاولة الانقلابية الفاشلة ضد أردوغان عام 2016 مثلت دافعاً قوياً لدى أنقرة لإقامة قواعد في قطر والصومال وغيرهما. 

بالإضافة أنَّ قواعد تركيا في سوريا والعراق لها دور وظيفي محدد وهو مرتبط فقط بمنع أكراد سوريا من تحقيق أي نوع من الاستقلال أو الحكم الذاتي وهذا موقف الدولة التركية مُنذ ولادة الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك قبل نحو قرن.

وهذه القواعد تقوم بوظيفة ردْع القوى والأحزاب الكردية في سوريا والعراق عن التفكير في الانفصال عن سوريا أو العراق وهو ما تجلَّى خلال الاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق عام 2017، إذ سارعت أنقرة إلى التعاون مع بغداد وفرضت حصاراً برياً وجوياً على الإقليم.

وفي أغسطس/ آب الماضي، أعلنت تركيا أنها بصدد افتتاح قاعدة جديدة لها في قطر وسيتمُّ تدشينُها قريباً إضافة إلى قاعدة "طارق بن زياد" الحالية. وأنفقت تركيا 39 مليون دولار على القاعدة التي تمَّ افتتاحها عام 2016 وهي قادرة على استقبال 3 آلاف جندي إضافة إلى قوات بحرية وجوية وقوات كوماندوز.

ومع تدشين القاعدة الجديدة سيكون بمقدور تركيا نشر مزيد من الجنود والعتاد والأسلحة في قطر، وقال خلوصي أكار وزير الدفاع التركي عام 2018، :إنَّ "القاعدة التركية في قطر ستلعب دوراً في الحفاظ على الاستقرار في منطقة الخليج وغيرها من المناطق".

أنقرة في إفريقيا 

أقامت تركيا في الصومال قاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة مقديشو لتدريب الجنود الصوماليين. وبلغت نفقات إقامة القاعدة حوالي 50 مليون دولار حسب بعض المصادر، ويُمكِنها أن تأوي حوالي 1500 جندي وتقديم التدريب لهم في وقت واحد لمساعدة الحكومة الصومالية في التصدي لـِ"حركة الشباب" المتطرفة.

وتبلغ مساحة القاعدة 4 كلم مربع وهي قادرة على استقبال قطع بحرية وطائرات عسكرية إلى جانب قوات كوماندوز.

وتُقدِّم تركيا السلاح والعتاد للقوات التي تقوم بتدريبها في الصومال. وترافق الوجود العسكري التركي في الصومال مع قيامها ببناء مدارس وطرق ومستشفيات. كما قدَّمت أنقرة مئات الملايين من الدولارات للحكومة الصومالية لتمويل بناء طريقين أساسيين في البلاد.

ما يلفت الأنظار أنَّ النشاط التركي في الصومال تزامن مع ترسيخ الإمارات لنفوذها في الإقليمين الصوماليين اللذين انفصلا عن الصومال وهما أرض بونت لاند، وأرض الصومال. فقد استثمرت الإمارات 440 مليون دولار في ميناء بربرة في أرض الصومال و336 مليون دولار في ميناء بوصاصو (التابعة لإدارة بونت لاند). 

وفي 24 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وفي أول زيارة لرئيس تركي مُنذ عام 1956، زار أردوغان السودان لمدَّة 3 أيام، برفقة وفد ضمَّ حوالي 200 رجل أعمال، وتمَّ خلال الزيارة توقيع 22 اتفاقاً بين البلدين في مجالات مختلفة.

وكانت الاتفاقية الأكثر أهمية هي الإعلان المشترك عن برنامج التعاون الإستراتيجي، والذي تمَّ بموجبه تأسيس "المجلس الأعلى للتعاون الإستراتيجي" بهدف تطوير التعاون الثنائي والإقليمي والدولي بين الدولتين.

وتشمل مجالات التعاون الإستراتيجي "السياسة، الدفاع، الجيش، الأمن، الشؤون الداخلية، الاقتصاد، التجارة، الجمارك، الطاقة والتعدين، النقل، الزراعة، السياحة، الصحة، التعليم، الثقافة، العلوم، المعونات الإنسانية والتنموية، والتعاون الإقليمي في الإطار الإفريقي".

حروب الغاز 

تشابك الحدود البحرية في منطقة البحر المتوسط بين تركيا، ومصر، وإسرائيل، واليونان، وقبرص، ولبنان، أورث صراعاً قوياً بين تلك الدول في منطقة تموج بالثروات الطبيعية الهائلة، وتحتاج إلى الطاقة، كعامل أساسي في تحقيق التقدم الاقتصادي، والنهضة على جميع الأصعدة والمستويات.

وفي 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، قال الرئيس التركي: "إنَّ بلاده لن تقبل بالمحاولات الرامية إلى إقصاء تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية وسلب الموارد الطبيعية المتوفرة شرق المتوسط".

وفي 27 فبراير/ شباط 2019، للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة انطلقت أضخم مناورات عسكرية تحت اسم "الوطن الأزرق 2019"، ممتدة في البحار الثلاثة التي تحيط بتركيا، البحر الأسود، وإيجه والمتوسط.

المناورات التي أُُدرجت على أجندة هيئة الأركان التركية، جاءت أهميتها من حيث التوقيت، في كونها، أعقبت إرسال أنقرة سفينة تنقيب عن النفط في منطقة شرق المتوسط، محميَّة بقطع عسكرية، منعاً من محاولات الهيمنة اليونانية والقبرصية والمصرية على الحوض الغني بالغاز الطبيعي، ومصادر الطاقة.

وتشارك في المناورات 103 سفينة، بالإضافة إلى وحدات من القوات البرية والبحرية التركية، بهدف رفع الجاهزية القتالية للوحدات المشاركة من السفن والطائرات التابعة لقيادة القوات البحرية، وتُشرف القيادة المركزية للحرب البحرية التركية عليها.

وفي 31 أغسطس/ آب 2019، نشرت وزارة الدفاع التركية صورتين لسفينة الأبحاث التركية "أوروج ريّس" برفقة فرقاطتين من البحرية التركية في طريقها من إسطنبول إلى شواطئ مرسين (جنوب).

وتُعَدُّ سفينة أوروج ريّس، رابع سفينة تنضمُّ إلى أعمال تركيا في التنقيب والبحث عن النفط والغاز شرقي حوض المتوسط. وإلى جانب الفرقاطتين، يرافق السفينة أورج ريّس، زوارق حربية تابعة لقيادة القوات البحرية التركية.

وتعارض قبرص الرومية واليونان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومصر وإسرائيل، أعمال تركيا في التنقيب عن الغاز الطبيعي في البحر المتوسط. فيما أكَّدت أنقرة، في بيانات عدة لوزارة الخارجية، أنَّ السفن التركية "تُنقِب في الجرف القاري للبلاد، وستواصل ذلك". 

حالة تأهب

في 1 سبتمبر/ أيلول الجاري، قال أردوغان في مؤتمر صحفي بالعاصمة أنقرة: إنَّ "التطورات في منطقة خفض التصعيد بإدلب شمالي سوريا، ليست على النحو الذي نرغب فيه".

وأكَّد أنَّ "بلاده تتَّخِذ كافة التدابير، حيث أنَّ الدبابات، والمدفعية وناقلات جنود مدرعة للجيش التركي تتمركز في المنطقة الحدودية، وأنَّ نقاط المراقبة التركية الـ12 في حالة تأَهُبٍ في الوقت الراهن".

وفي 29 يوليو/ تموز 2019، قال خلوصي أكار وزير الدفاع التركي في بيان: "إنَّ بلاده ستضطر لإنشاء منطقة آمنة في سوريا بمفردها، حال عدم التوصل لتفاهم مشترك مع الولايات المتحدة".

وحسب وكالة الأناضول التركية الرسمية، فإنَّ البيان "جاء في إطار اتصال هاتفي بين أكار، ونظيره الأمريكي مارك إسبر". وشدَّد أنَّ تركيا هي الدولة الأنسب وصاحبة القوة القادرة على ضبط المنطقة الآمنة في سوريا.

كما أكَّد البيان على ضرورة مصادرة جميع الأسلحة التي بحوزة تتنظيم "ي ب ك/ بي كا كا" الإرهابي، وإخراجه من المنطقة الآمنة بشكل كامل.

وذكر أنَّ "عمق المنطقة الآمنة يجب أن يمتدَّ إلى 30 أو 40 كم من الحدود التركية داخل الأراضي السورية، وضرورة سيطرة تركيا عليها بالتنسيق مع الولايات المتحدة".

وأضاف "كما أسلف رئيس بلادنا رجب طيب أردوغان بقوله إن لم نصل لتفاهم مع الولايات المتحدة حِيال المنطقة الآمنة ستضطر تركيا أن تُشكِّل المنطقة في سوريا بمفردها".

وأوضح بيان وزارة الدفاع التركية، أنَّ "أكار أكد لنظيره الأمريكي ضرورة وقف الولايات المتحدة دعمها لتنظيم (ي ب ك/ بي كا كا) الإرهابي بالكامل.

وأضاف أنَّ تركيا لن تسمح بتشكيل حزام إرهابي على حدودها الجنوبية، مبيناَّ أنَّ بلاده لا تهدف إلى حماية أمنها وأمن مواطنيها فحسب، بل إلى حماية الأكراد والعرب والآشوريين والمسيحيين والإيزيديين وبقية الإثنيات والطوائف الأخرى في المنطقة.

وكشف وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عن الوعد الذي قطعه ترامب بأن يكون عمق المنطقة 20 ميلاً (نحو 32 كيلومتراً) فمن المقرر أن يكون طريق حلب الحسكة (رودكو) هو الخط الفاصل لحدود المنطقة الآمنة التي ستشارك تركيا السيطرة والإشراف عليها مع القوات الأمريكية.

وأقامت تركيا 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وحماة وحلب بالاتفاق مع الجانب الروسي بهدف إقامة ما يُعرف بمنطقة خفض التصعيد، لكن ذلك ظلَّ حبراً على ورق فالمعارك لم تتوقف فيها بين قوات المعارضة والقوات السورية المدعومة بالطيران الروسي.

وقامت تركيا بتعزيز هذه النقاط التي تحوَّلت إلى قواعد عسكرية حقيقية في عُمق سوريا مثل تلك الواقعة قرب بلدة مورك وسط سوريا وعلى بعد 88 كيلومتراً عن الحدود التركية خاصة بعد تعرُّضها أكثر من مرة للقصف من جانب القوات التركية.

كما تحتفظ تركيا بعدد من القواعد العسكرية في مناطق الباب وجرابلس واعزاز وعفرين، وهي مناطق واقعة على الحدود التركية السورية، وتسيطر عليها تركيا وتديرها مع قوى المعارضة.