أزال مقابر تراثية ليبني كباري بأسماء قياداته.. معادلة تلخص منطق السيسي

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يقتصر فساد نظام عبدالفتاح السيسي في مصر منذ انقلابه عام 2013 على تسليم حاضر ومستقبل البلاد لأخطبوط عسكري لا حدود لجشعه، بل يسلط سهامه في الوقت ذاته على تاريخ البلاد ورموزها.

ويواصل نظام السيسي إسناد مشاريع حساسة للجيش (الهيئة الهندسية) لا المتخصصين، وبدون دراسات جدوى، مثل بناء كباري وطرق ومدن، ويواكب ذلك تجريف هائل لمناطق تاريخية وأشجار معمرة، ما يلحق أضرارا باهظة برونق مصر الثقافي والبيئي.

آخر هذه الجرائم هي واقعة تجريف دفعة جديدة من المقابر التاريخية التي تضم رموزا مصرية بالقاهرة القديمة، أشهرها مقبرة الأديب طه حسين، صاحب الشهرة والجدل الواسعين في سائر بلدان العالم العربي.

قرارات عسكرية

وفي ظل الأنباء عن عزم قوات الجيش إزالة مقبرة طه حسين لبناء جسر محلها بالقاهرة التاريخية، قالت مصادر في وزارة الثقافة المصرية لـ"الاستقلال"، إن سبب الأزمة هو اتخاذ الهيئة الهندسية بالجيش قرارات عسكرية ببناء وإزالة مناطق دون أدنى تنسيق مع الجهات الحكومية المدنية.

وأوضحت أن عشرات التساؤلات وصلت لمكتب الوزيرة نيفين الكيلاني ومسؤولي جهاز التنسيق الحضاري، التابع للوزارة، عما نشر منذ مايو/ أيار 2022 حول مخطط هدم المقبرة لإنشاء جسر يحمل اسم الصحفي الراحل القريب من السيسي، ياسر رزق.

لكنهم لم يتمكنوا من الرد لأنه ليس لديهما علم بمشاريع الجيش ولا يجري إبلاغهم بها، رغم تنفيذها بمناطق تابعة لهم مثل المقابر التاريخية بالقاهرة وحديقة انطونيادس بالإسكندرية رغم أن حملة الرفض "أنقذوا جبانات مصر" بدأت قبل 8 أشهر.

وتوفي طه حسين، الذي يلقب في مصر بـ"عميد الأدب العربي" لدوره النقدي والبحثي، في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1973، وتولى عدة مناصب كان أبرزها وزير المعارف (التعليم).

واشتهر حسين بمواقفه السياسية التي ساهمت في إقرار مجانية التعليم وحق المرأة في الدراسة الجامعية، لكن كتاباته أثارت جدلا فكريا، خاصة كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي نشر عام 1926.

وحول نفي مسؤولين بمحافظة القاهرة علمهم بوجود قرار بإزالة المقبرة المقامة منذ 1973 برغم أن هناك علامات "إكس" باللون الأحمر وعبارة "إزالة" مكتوبة عليها، قالت المصادر إن "السبب هو قيام جهة (عسكرية) أخرى بذلك".

وفي 31 مايو/أيار 2022 نفى المتحدث باسم محافظة القاهرة إبراهيم عوض، لموقع "المونيتور" الأميركي تلقي المحافظة "أي إخطارات" حول موقع الجسر الجديد والمقابر التي سيتم إزالتها.

وقال عوض إن "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، التي تشرف على مشاريع البناء في جميع أنحاء مصر، هي الهيئة المسؤولة عن الطريق الجديد"، ما يؤكد تنفيذ الجيش عمليات الهدم والبناء في القاهرة دون علم السلطات المدنية.

أيضا أبلغت إدارة الإعلام بمحافظة القاهرة موقع "سكاي نيوز عربية" مطلع سبتمبر/ أيلول 2022، أنه ليس لديها معلومات حول هدم مقبرة طه حسين من عدمه.

وأكدت أن "المحافظة ليست لها علاقة بالأمر ولم يصلها أي شيء رسمي عن مسار الجسر المزمع تنفيذه في المنطقة ولا تفاصيله".

مخالفة قانونية

وأكدت عضو جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة سهير حواس، خبير مركز التراث العالمي  بمنظمة اليونسكو الأممية والمهندس طارق المري، لموقع "مدى مصر" في 31 أغسطس/آب 2022 غياب أي ردود رسمية عليهم حين كانوا يسألون عن هدم المقابر.

وقالا إن وزارة الثقافة لم تصلها أية خريطة للمشروعات التي ستقام بالمنطقة التي تقع بها المقابر المزالة، كما لم يؤخذ رأيها في تلك المشروعات، رغم أن منطقة مقابر الإمام الشافعي والمماليك والسيدة نفيسة بأكملها مسجلة كتراث.

ويجب عند المساس بأي من المباني المميزة بتلك المناطق العودة إلى الجهاز وفقا لنص قانون تنظيم عمل هدم المباني غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري رقم 144 لسنة 2006. 

وذكرا أنه لم يتم الرد على كل المناشدات التي أرسلت لرئاسة الجمهورية ولمجلس الوزراء لوقف هدم مدفن طه حسين والمدافن المجاورة، التي هدم بعضها بالفعل، رغم أنها عمارة تاريخية توثق للقرن التاسع عشر والعشرين، وبمثابة ذاكرة للمدينة.

وحدد قانون تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري، الصادر بالقانون رقم 3 لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 144 لسنة 2006، العقارات والمباني التراثية المحظور هدمها.

بحيث يصدر القرار من المحافظ، لا الجيش، ثم تتولى لجنة حكومية حصر المباني والمنشآت الصادر بها قرار من المحافظ المختص يتضمن تاريخ الشخصية التاريخية والحقبة وهل تعد مزارا سياحيا أم لا.

وتنص المادة (2) على أن يتضمن ذلك: المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، والمرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية، والتي تمثل حقبة تاريخية، والتي تعد مزارا سياحيا.

من جانبها تحسرت الكاتبة والباحثة المصرية في مجال الآثار جليلة القاضي على المشهد، وكتبت في 2 سبتمبر عبر فيسبوك: "أزيلت منطقة من أجمل مناطق الجبانات، بأشجارها السامقة وخضرتها اليانعة، وبقي مدفن عميد الأدب العربي وحيدا، وسط الأنقاض، ينظر صاحبه بقلبه لفاقدي البصيرة والرشد".


تلطيخ الرموز

وكشفت المصادر بوزارة الثقافة لـ "الاستقلال" أن الأمر لم يكن قاصرا على إزالة مقبرة الدكتور طه حسين بمقابر الإمام الشافعي بالبساتين جنوب القاهرة، لكنها شملت مقابر مشاهير، منهم رئيس وزراء مصر في العهد الملكي مصطفى النحاس وصفية حرم الزعيم الوطني سعد زغلول.

ومن المواقع التي رصدها العسكر أيضا مقابر عملاقي الغناء أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ويوسف صديق عضو مجلس قيادة ثورة 1952 (أزيلت مقبرته بشكل كامل بالفعل)، ومسجدان أثريان بالمنطقة هما مسجد الدندراوي ومسجد الكحلاوي.

وأوضحت المصادر أن أعمال الحفر العشوائية قبل بضعة أشهر لإنشاء متحف الحضارة وإنشاءات أخرى أمام بحيرة عين الصيرة أدت كذلك لارتفاع منسوب المياه الجوفية أيضا داخل المقابر، ويتوقع أن رفات المشاهير تعوم فوق المياه الجوفية.

وعقب الجدل الذي أثارته مواقع التواصل وخبراء آثار ومثقفون، نشرت صحف محلية أن فرنسا مستعدة لاستقبال رفات طه حسين، ما أثار حرجا وفضيحة للحكومة المصرية، وانتقادات عدت ما يجري نفيا لجثمان علم مصري.

وعقب تأكيد "مها عون" حفيدة طه حسين لوسائل إعلام محلية مطلع سبتمبر 2022 أنهم يفكرون في نقل رفاته، بسبب احتمالية إزالة مقبرته، جرى نفي الخبر أخيرا، بعد صمت استمر أربعة أشهر من جانب الجهات العسكرية والرسمية.

واضطرت محافظة القاهرة، بعد صمت طويل، لنفي خبر إزالة مقبرة طه حسين، والإعلان عن إزالة كلمة "إزالة" بطلائها بلون أصفر، وإزالة علامة "إكس" المكتوبة باللون الأحمر، رغم استمرارها على مقابر تاريخية أخرى يرجح إزالتها.

وكانت "عون" قالت لموقع "بي بي سي" في 2 سبتمبر/أيلول 2022 إن النقاش "المؤلم" داخل العائلة حول نقل رفات طه حسين إلى الخارج انتهى برفض نقله للخارج.

وأوضحت أنها شخصيا كانت مع فكرة نقل رفاته إلى الخارج، لكن خالها وخالتها رفضا تماما ذلك لسببين: الأول رفض أسر المدفونين بمقابر العائلة الدفن خارج مصر، والثاني أن جدها وهب حياته بالكامل لمصر، ولا يجب نفيه من بلده بعد موته.

وقالت رئيسة وحدة التراث والآثار بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا التابعة للجامعة العربية، مونيكا حنا إن محافظة القاهرة قامت بإزالة علامة "إكس" باللون الأحمر التي كانت تعني الإزالة، لكنها ألمحت أن ذلك قد يكون "فقط لمراعاة الرأي العام".

وأضافت لبي بي سي إلى أنه سبق أن تم قطع المياه عن مقبرة "حسين" لمنع ري أشجارها، والطلب من أصحاب المقابر المجاورة نقل رفات ذويهم استعدادا للهدم، وأن مدافن مجاورة أزيلت بالفعل.

مذبحة المقابر

ليست هذه هي المرة الأولى التي يثور فيها جدل في مصر بشأن هدم مقابر تخص رموزا من أجل بناء جسور.

فعلى مدار عامي 2020 و2021، أزال نظام السيسي آلاف المقابر التاريخية في القاهرة القديمة، لإفساح الطريق أمام جسور توصل أطراف العاصمة المتسعة بامتدادها في العاصمة الإدارية الجديدة. 

بدأت قصص هدم مقابر تاريخية منذ 18 يوليو/ تموز 2020، حين انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر صور ومقاطع فيديو تظهر هدم قبور قديمة بهدف بناء طرق وكباري للسيارات في القاهرة التاريخية. 

في هذه المنطقة يوجد ما يسمى "مدينة الأموات" أو "القرافة" باللغة العامية المصرية، وتضم مجمعا للمقابر الشاسعة التي تعود للقرن السابع ميلادي.

وتعد المقابر والمساجد والمعالم في تلك المنطقة ضمن القاهرة التاريخية التي تدخل ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، ففيها يدفن منذ قرون الحكام التاريخيون والنخبة والعامة خلال الحقبة التاريخية الإسلامية.

ففي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أعلنت عائلة ذو الفقار التي تنتمي إليها الملكة فريدة زوجة حاكم مصر السابق الملك فاروق إخطارها رسميا بهدم مدفن العائلة الذي يعود تاريخ إنشائه لأكثر من 120 عاما، بمقابر الإمام الشافعي لبناء كوبري. 

وشهد يوليو 2021 كذلك جدلا أكبر، إثر انتشار صور ومقاطع فيديو لعمليات هدم بالجرافات لمقابر أثرية في منطقة صحراء المماليك شرقي القاهرة.

وكشفت المسؤولة السابقة بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري سهير زكي حواس إزالة 2760 مقبرة داخل نطاق القاهرة التاريخية بمنطقة السيدة عائشة، دون مراجعة القيمة التراثية والمعمارية والرمزية لها، بحسب قناة الجزيرة مباشر في 2 سبتمبر/أيلول 2022.

وكان التبرير الرسمي هو أن المقابر ليست مسجلة كمنطقة أثرية، برغم أن تاريخها يعود لنحو 5 قرون، وتضم رفات العديد من رموز مصر، من العلامة العز بن عبد السلام، حتى العهد الملكي ومشاهير حديثة مثل الروائي إحسان عبد القدوس، وفق "الاستقلال".

وقامت السلطات أيضا بهدم مقبرة الفنان الراحل فؤاد المهندس، لتنفيذ جسر شرق القاهرة، وعقب الجدل، أكدت أنه سيتم فقط هدم عدة أمتار من السور الخارجي للمقبرة ومن مقابر مجاورة.

وسبق هذا في 12 فبراير/شباط 2019 هدم "وكالة العنبريين"، نسبة إلى عطر العنبر، في شارع المعز بالقاهرة القديمة، والتي يرجع تاريخها إلى عصر السلطان قلاوون، وحولها العثمانيون إلى وكالة لصانعي العطور.

وفي السياق، لفتت صحيفة "نيويورك تايمز" لقضية أخرى إنسانية تتعلق بهدم المقابر، مفادها أن هدم هذه الجبانات التاريخية بالقاهرة لن يدمر التاريخ فقط، بل يدمر حياة الآلاف من الأسر الفقيرة التي تعيش فيها وحولها.

وقالت في تقرير بتاريخ 24 أبريل/نيسان 2022: "سيتسبب هدم الحكومة المصرية للمقابر التاريخية، لإنشاء جسور علوية تربط وسط القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة، في تهجير الآلاف من هذه الأسر".

"وأصبحت هذه المقابر مأوى لآلاف الأجيال من حراس القبور وعمال الدفن والحفر وعائلاتهم، وعشرات الآلاف من فقراء القاهرة الذين وجدوا مأوى في الأضرحة الكبرى وبينها" بحسب الصحيفة.

نقلت "نيويورك تايمز" عن "جليلة القاضي"، وهي مهندسة معمارية درست المقابر التاريخية قولها، إن "المسؤولين لم يتعاملوا مع المقابر على أنها مدينة للأحياء والموتى"، وانتقدتهم قائلة: "في مصر عندما تكون هناك مشكلة تبدو غير قابلة للحل، أو يصعب حلها، فإن الحل هو حذفها".