الجيش في خطر.. ماذا وراء محاولة حميدتي إعادة هيكلة القوات السودانية؟
.jpg)
بينما يتواصل الانقسام الحاد بين المكون المدني والعسكري عقب انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، اشتعلت أزمة جديدة بطلها قائد قوات الدعم السريع (الجنجويد) الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وأطلق حميدتي في 19 يونيو/ حزيران 2022، تصريحات حادة، أبرزها تهديده بالتوزيع اللا مركزي لكل القوات النظامية، في خطوة غير مسبوقة منذ الإطاحة بنظام عمر البشير في 11 أبريل/نيسان 2019، تعني فرط عقد الجيش.
وعزا حميدتي هذا التهديد إلى وجود عملية ممنهجة وأجندة تستهدف قوات الدعم السريع على وجه الخصوص، ما أثار مخاوف بشأن وقوع تصادمات بين العسكريين تمهد لتفكيك جيش السودان.
تفكيك الجيش
وجاء إعلان حميدتي عن فكرة "لا مركزية" نشر قواته، خلال كلمة ألقاها في حاضرة ولاية دارفور الجنينة، المقر الرئيس للدعم السريع.
حينها قال إن "قوات الدعم السريع قومية التكوين والإنشاء، وتضم كل ولايات وقبائل السودان، لكن ثمة مؤامرة تحاك ضدها".
كما تحدث عن دور قواته في محاربة المخدرات والهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، وذكر "أنها أول قوات تقبض على كمية من الذهب المهرب على الحدود".
ولم تقف مفاجآت حميدتي عند هذا الحد، بل أتبع حديثه بإعلان آخر مثير للجدل عندما أشار إلى تفعيل الخدمة الإلزامية من أجل "الاستفادة من الشباب وتدريبهم، وبسط هيبة الدولة وتطبيق القانون على كل المتفلتين"، على حد تعبيره.
وجاءت ردود الأفعال على خطاب حميدتي متتابعة، أبرزها "لجنة مقاومة ثوار الجنينة" التي أصدرت بيانا، ورد فيه: "نؤكد ما ظللنا نقوله مرارا، بأن لدقلو أطماعا ومخططات توسعية، للسيطرة على موارد وثروات السودان وتحويلها إلى منافع ذاتية وإن كلف ذلك تدمير البلاد وتهجير أهلها".
فيما كتب الناشط السياسي السوداني وائل نصر الدين، عبر حسابه بـ"فيسبوك" معقبا على تصريحات حميدتي، قائلا: "رسميا تفكيك جيش السودان الكلاسيكي".
من جانبها، لفتت الكاتبة صباح محمد الحسن، إلى أن حميدتي في هذا الخطاب طرح نفسه قائدا للجيش والمؤسسة العسكرية، فهو يقول أنه سيتم التشاور حول اتخاذ قرارات بالتوزيع اللامركزي لكل القوات النظامية، الجيش والدعم السريع والشرطة ليعملوا في كل الولايات، فضلا عن النظر في تفعيل الخدمة الإلزامية.
وأضافت في مقال نشره موقع "الركوبة" المحلي، في 21 يونيو، أن "هذا الحديث يؤكد أن حميدتي ليس قائدا للدعم السريع وحسب فالرجل يتحدث في أمور ليست من اختصاصه، فإذا كانت الدعم السريع نفسها تصنف كمليشيات فكيف يجرؤ قائدها للحديث حول اتخاذ قرارات بالتوزيع اللا مركزي لكل القوات النظامية؟
وأكدت أن حميدتي يريد أن يعيد الخدمة الإلزامية كما كان في عهد المخلوع للتخلص من الشباب الذين يحاصرون النظام وقواته في كل الاتجاهات، لكن حساباته ستكون خاسرة بلا شك.
صعود الجنجويد
ولا يعكس خطاب حميدتي الذي ادعى فيه أن قواته "قومية التكوين والإنشاء" الحقيقة التاريخية للدعم السريع، فهي مليشيا تم تشكيلها عام 2003 لكبح جماح التمرد في منطقة دارفور.
وكانت تتألف من الرزيقات (وهي قبيلة عربية من الرعاة الرحل في غرب البلاد)، وكذلك بعض القبائل التشادية.
وتجلى دورها بقوة في الحرب الأهلية السودانية في دارفور، واستخدمها نظام البشير للقمع المطلق هناك.
واستطاعت مليشيا الجنجويد التي كان يقودها موسى هلال آنذاك تدمير الحركات المتمردة، واستعادة كل الأراضي التي سيطروا عليها.
لكن كانت التكلفة باهظة، وتورطت المليشيات في انتهاكات جسيمة بحق المدنيين. وهو الأمر الذي تسبب في إحالة ملف دارفور إلى "محكمة الجنايات الدولية"، ومنها تم استصدار أمر توقيف بحق البشير.
وكان جزءا من الجيش السوداني يشعر بالسخط وعدم الارتياح لتلك القوات التي جاءت بخلفيات غير عسكرية، ولم تتدرج في سلك الجندية، وإنما عبر مسالك عصابات الصحراء.

وفي عام 2013 اتخذ البشير قرارا بضم الجنجويد نظريا إلى الجيش السوداني، وتحولوا إلى "قوات الدعم السريع"، لكنهم ظلوا مستقلين، لهم أسلحتهم وتمويلهم الخاص، ومن ثم بدأ يبزغ نجم حميدتي.
وأظهر قائد الدعم السريع موهبته ومهاراته في الاضطرابات السياسية والمظاهرات التي عمت السودان على مدار سنوات.
وجاء عام 2019 ليكون حميدتي أحد الجنرالات الذين انقلبوا على البشير ورفضوا الانصياع لأوامره، ومن ثم سقط حكمه ليبدأ عهد جديد.
قوات الدعم السريع حينها كانت تبلغ زهاء 40 ألفا، متترسين بأحدث الأسلحة والمعدات الثقيلة والمتوسطة، 10 آلاف منهم كانوا محصنين في قلب العاصمة الخرطوم.
ولم يكن من السهل حينها تنحية دقلو وقواته عن المشهد، وأصبح نائب رئيس المجلس السيادي، بمثابة الرجل الثاني في البلاد، خلف قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
ابتلاع الجيش
عادت قسوة قوات الدعم السريع للظهور بقوة، إذ نشرت صحيفة "غارديان" البريطانية، في 11 يونيو/ حزيران 2019، تقريرا عن وقوع 70 حالة اغتصاب على يد تلك المليشيا، أثناء فض اعتصام القيادة العامة بالعاصمة السودانية الخرطوم، وفقا لشهادة أطباء.
ووقع أكثر من 100 قتيل وأصيب نحو 700 شخص خلال الهجوم الذي استهدف اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران 2019، الذي طالب بتحقيق أغلبية مدنية في المجلس السيادي وفق اتفاق المرحلة الانتقالية.
وقالت الغارديان، إن "تفاصيل جرائم الاغتصاب التي نفذتها عناصر قوات الدعم السريع انتشرت خلال الأيام الأخيرة على الإنترنت، رغم القيود المفروضة على الاتصالات في السودان".
وبالتزامن مع هذه التطورات، ظهرت تقارير عن إمكانية التضحية بالجيش الوطني السوداني لصالح تلك القوات التي كانت على أهبة الاستعداد.
ففي 28 مايو/ أيار 2019، نشر موقع الجزيرة نت تقريرا تحدث عن تداول أنباء عن "خطة لإعادة هيكلة الجيش السوداني".
فسرها بعض المراقبين بأنها "محاولة لتفكيك القوات المسلحة السودانية لصالح قوات الدعم السريع التي استوعبت في الآونة الأخيرة مجندين كثيرين من أقاليم مختلفة، في مقدمتها إقليم شرق السودان".
التقرير أكد "تواتر أنباء عن تمويل خليجي لتدريب طيارين بغرض تشكيل قوة جوية تتبع لتلك القوات".
ونقل عن مصدر أمني خاص، قوله: "فكرة تفكيك القوات المسلحة هي مغامرة خليجية، هدفها تكوين قوة عسكرية مستدامة الولاء لمحور السعودية والإمارات تحت قيادة حميدتي بدلا من الجيش الذي يغلب عليه القيم المحافظة".
ولفت إلى أن "الدولة المصرية وقفت أمام تلك الفكرة الخليجية، بحكم خبرتها ومعرفتها بشؤون السودان".
ليتم استبعاد هذه الفكرة لاحقا نظرا لصعوبة تنفيذها، خاصة وأن الجيش السوداني، يضم 189 ألف جندي بينهم 105 آلاف جندي في قوات الاحتياط.
كما يمتلك الجيش 191 طائرة حربية، و410 دبابات، و403 مركبات قتالية مدرعة، و20 منصة صواريخ تجعله في المرتبة 69 بين أقوى جيوش العالم، والمرتبة الثامنة على مستوى إفريقيا، بحسب تصنيف موقع "غلوبال فاير باور" الأميركي.

"أسدان متصارعان"
وتعليقا على هذه التطورات، قال الصحفي والمحلل السوداني محمد نصر، إن "السيناريو الأسوأ لم تظهر ملامحه بعد، فالدولة والأجهزة الأمنية منشغلة في الصراع مع قوى الحرية والتغيير وشركاء المرحلة الانتقالية الغاضبين مما أسموه انقلابا عسكريا".
وأضاف لـ"الاستقلال": "لكن الخطر كامن في تلك الأجهزة والقوة الموازية لقوة الجيش، فنحن أمام حالة أشبه بوجود أسدين في قفص واحد، ينتظران الانتهاء من فريستهما لينقضا على بعضهما البعض".
وأكمل نصر: "حميدتي لن يتراجع أبدا عن نيته الاستئثار بالسلطة والوصول إلى قمة الحكم، أو على أقل تقدير يحتفظ بقوته وجميع مميزاته، التي تجعله بالفعل أشبه برئيس دولة الظل".
وأورد: "هو يعلم تماما أن التراجع معناه النهاية، بعدما ارتكبت قواته كل تلك الجرائم، وكذلك أن الجيش متململ منهم ومنه، ولا يريد لرجل لم يسلك المسلك العسكري أن يكون هو الحاكم المتحكم في الجيش، هذا أمر لن تقبله الجنرالات".
وأوضح المحلل السوداني، أن "حالة الشد والجذب، أو اللا سلم واللا حرب، دائما تنذر بعواقب وخيمة، لأن الصدام هنا لا يعني وجود اشتباك بين جيش وقوة منفصلة، بل حرب كاملة بين جيشين مجهزين".
وختم نصر بالتأكيد، أنها "ستكون حرب أهلية ستبتلع السودان بأكمله، على غرار جماعة الحوثيين والجيش اليمني، إن لم يكن أسوأ، ويجب أن يجد العقلاء حلا لتلك المعضلة قبل فوات الأوان".
وفي 23 يونيو 2021، حذر مستشار رئيس الوزراء سابقا، فيصل محمد صالح، من أن الخلافات بين العسكريين تهدد أمن وسلامة ووحدة البلاد، تعليقا على تصاعد الغضب داخل الجيش من ممارسات الجنجويد.
وفي 22 من ذات الشهر، دعا رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، إلى إصلاح القطاع الأمني والعسكري ضمن 7 محاور، طرحها في مبادرة تشمل تكوين جيش وطني موحد.
المصادر
- حميدتي يعلن من الجنينة النظر في تفعيل الخدمة الإلزامية
- ثوار الجنينة يرفضون زيارة حميدتي
- حميدتي: تشاور حول اتخاذ قرارات بالتوزيع اللامركزي للقوات النظامية
- Corne de l’afrique. Les janjawids, du Darfour à Khartoum, la mort en héritage
- الجيش السوداني يحسم الجدل بشأن انتشار قواته إثر توتر مع قوات الدعم السريع
- إلزامية حميدتي..!!