"فضيحة إيبيزا" تهز النمسا.. هل يتنفس مسلمو أوروبا الصعداء؟

"الآخرون هم الجحيم"، عبارة مأثورة للفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر، صاحب الأعمال الأدبية الروائية واسعة الانتشار، الذي انضم إلى اليسار المتطرف، وشارك في الحرب العالمية الثانية، وتأثر فيها تأثرا كبيرا انطبع على فلسفته وأفكاره.
الآخرون في تعريفها البسيط، كل من ليس "أنا" أو "نحن"، وهم أطياف شتى من البشر من مختلف الديانات والألوان والأعراق، ولا شك أن سارتر عاش أجواء التطرف والتمييز العنصري الذي عاشته أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، ودفعت ثمنه غاليا في أفدح حروب البشرية، من حيث الخسائر الإنسانية والمادية.
ورغم أن زمن الحرب ليس ببعيد، لكن بعض البشر لا يتعلمون الدرس، ويستمرون في قطع جسور التلاقي، ويشعلون معارك الهوية، والندية الحضارية، والتفوق العرقي.
وهذا ما ينطبق على قطاع واسع من المسلمين الذين يعيشون في أوروبا، وأغلبهم من اللاجئين الذين فروا من ويلات الحروب المستعرة في بلادهم، أو البطش السياسي الذي تنتهجه الحكومات الديكتاتورية، وجزء من سكان البلاد الأصليين الذين قرروا اعتناق الإسلام.
المسلمون في تلك البلاد سواء من اللاجئين أو الأهالي، يواجهون موجة تنمر عالية، وقمع تخطى المضايقات الفردية، إلى نهج من بعض الحكومات، وعلى رأسهم النمسا، التي شهدت بعد صعود أحزاب اليمين، واليمين المتطرف إلى سدة الحكم، حالة تحفز مطلقة ضد الإسلام والمسلمين، بقيادة مستشار النمسا "سيباستيان كورتس" الذي يعيش حالة هزيمة بعد تورط نائبه "هاينتس شتراخه" زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف، في فضيحة "إيبيزا"، المستشار النمساوي، دعا إلى إجراء انتخابات مبكرة، وسط توقعات بأن تؤثر تلك الفضيحة على مستقبل أحزاب اليمين في البلاد.
وكانت تلك الأحزاب تتخذ من ذريعة "المهاجرين المسلمين" سببا رئيسيا في حملاتها الانتخابية، وتعمل على التحريض ضدهم، والتضييق عليهم، ووصل الأمر إلى حد طرد أئمة المساجد من البلاد، بالإضافة إلى وصم الزي الإسلامي الخاص بالنساء المسلمات المتمثل في "الحجاب".
أجواء قاسية
قال الدكتور أحمد أبو زياد من أعضاء الجالية الإسلامية بالنمسا: "المسلمون كانوا يعيشون في النمسا خلال الفترة الأخيرة، أجواء تشبه تماما أجواء التمييز العنصري الذي حدث ضد اليهود وطوائف أخرى في أوروبا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهنا صدر قانون يعرف بـ(قانون الإسلام النمساوي) وهو تمييزي بشكل فج، إذ يتعامل مع الإسلام كدين، له خصوصيته، غير الديانات الأخرى كاليهودية أو المسيحية، التي ليس لها قانون مميز، وجاء هذا في سياق تعامل أحزاب اليمين واليمين المتطرف مع الجاليات المسلمة كعنصر مختلف عن بقية الطوائف الأخرى، وكانت هناك دعوات صادمة مثل دعوة نائب المستشار النمساوي هاينتس شتراخه بفرض حظر تجول على اللاجئين".
وأكد أبو زياد في حديث لـ"الاستقلال"، أن "الائتلاف الحاكم في النمسا، الذي يتكون من أحزاب يمينية، اعتمد في دعايته الانتخابية بشكل رئيسي على الحشد ضد اللاجئين، والجالية الإسلامية، الأمر الذي خلق حالة عدائية، وصلت إلى التعدي اللفظي والبدني في بعض الأحيان، نتيجة تلك التعبئة المخيفة، بالإضافة إلى التضييق على دور العبادة، وحظر الحجاب، وتحديد أنشطة الجمعيات الإسلامية الخدمية".
وأضاف الدكتور أحمد أبو زياد: "شكلت فيينا ملتقى للحركات القومية المتطرفة شديدة الخطورة، فهنا حركة (الهوية) التي تلقت دعما من برينتون هاريسون تارنت مرتكب مذبحة مسجد النور في نيوزيلندا، وهي حركة رسمية قائمة في النمسا تعمل ضد المسلمين بشكل خاص، وتلقت دعما بشكل أو بآخر من الجانب اليميني المتطرف في الحكومة المتمثل في حزب الحرية بقيادة هاينتس شتراخه، وكانت تلك الحكومة تحت إمرة مستشار النمسا سيباستيان كورتس، تدعم كل أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، والتحذير من موجات الهجرة الإسلامية خوفا من (الاستبدال العظيم) وهو المصطلح التي تعتمده تلك الحركات في حروبها ضد اللاجئين، وهو ما كان يشكل خطرا بالغا، فالنمسا ليست دولة قليلة داخل الاتحاد الأوروبي، بل لها تاريخ طويل وإرث إمبراطوري، وطموح متقدم، وهذه الإمكانيات عندما تُسخر ضد أقلية، يصبح الأمر في منتهى السوء".
وختم أبو زياد حديثه، بالقول: إن "الجالية الإسلامية في النمسا الآن تعيش فرحة غامرة، بعد فضيحة إيبيزا التي لحقت بالحزب الحاكم، وساهمت في تراجعه، والدعوة لانتخابات مبكرة، وهو ما قد يساعد في انفراجة قريبة، وتحسن للأوضاع، مع ملاحظة أن تبعات الفترة الماضية، ستظل مؤثرة".
الإسلام في النمسا
كانت البداية من الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي اعترفت بالإسلام كجزء من قانونها العام في العام 1912، فيما تعود جذور الهجرة الاقتصادية للمسلمين إلى البلاد للعام 1960، وشكل الأتراك جزءا أساسيا من تلك الهجرة.
وفي 21 مارس/ آذار 2019، كشف تقرير نشرته جمعية "العمل ضد العنصرية والاستجابة المدنية"، ارتفاع الاعتداءات العنصرية على المهاجرين والمسلمين في النمسا خلال العام 2018 إلى 1920 اعتداءً.
وأكد التقرير وقوع 16.3 بالمئة من تلك الاعتداءات العنصرية في أماكن عامة، وأن نسبة من تعرضوا لمعاملة عنصرية من العاملين في قطاعي الخدمات والترفيه وصلت إلى 7.9 بالمئة.
وكان أخطر ما ذكره التقرير، أن مديرية الأمن خصوصا اعتبرت أكثر مؤسسة حكومية تشهد معاملة عنصرية بنسبة 4.3 بالمئة.
كما أن السلطات النمساوية اتخذت في العام 2018، إجراءات قانونية بحق 8 فقط من أصل 83 شكوى تقدمت بسبب اعتداءات عنصرية، ويرجع ذلك إلى أن الشرطة تتعامل مع الوقائع العنصرية على أنها جرم بسيط.
سيباستيان كورتس
يعتبر كورتس هو أصغر من شغل منصب رئيس وزراء للجمهورية النمساوية، وقد ولد زعيم حزب الشعب النمساوي المحافظ، في 27 أغسطس/ آب 1986، في العاصمة النمساوية فيينا وتلقى تعليمه في مدارسها وجامعتها.
وبدأ مسيرته السياسية في عام 2003، عندما انضم لحزب الشعب اليميني وتدرج في المناصب القيادية في الحزب حتى تولى حقيبة وزارة الاندماج في عام 2010، ومن الغريب أن كورتس كان الوجه المشرق والليبرالي لحزبه في تلك الفترة، من واقع مسؤوليته عن مكتب الاندماج في وزارة الداخلية، وهو الموقف الذي سمح له بالتعرف على المجتمع بشكل جيد للغاية.
وفي عام 2013، تولى حقيبة وزارة الخارجية وهو في الـ 28 من عمره وكان لا يزال يدرس القانون في جامعة فيينا، واتسع الملف الذي يحمله ليشمل الاندماج الاجتماعي، وعمل بشكل متكامل مع مؤسسات المجتمع المدني من أجل قضايا اللاجئين والمهاجرين، ولكنه تغير طرديا مع استلامه قيادة الحزب، وتبنى موقفا مختلفا متناقضا كليا عن بداياته.
كما لعب كورتس دورا مهما في إقرار البرلمان النمساوي عام 2015 لتعديلات مثيرة للجدل على قانون بشأن الإسلام.
وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، خلال مؤتمر عقد في العاصمة النمساوية فيينا، تحت عنوان "كيفية تأمين الحياة اليهودية في أوروبا"، قال سيباستيان كورتس: "يجب ألا ندع أكبر عدد ممكن من الناس يهاجرون إلى بلادنا، لأن منع وصولهم أسهل كثيرا من عملية دمجهم، وأعتقد أن تدفق المهاجرين غير المنظم يكون دائما مشكلة لنا" .
وأضاف: "خصوصا ذلك التدفق القوي القادم من الدول الإسلامية، يمكن أن يسبب مشاكل متعلقة بالفهم المختلف عن إسرائيل، ونشر الأفكار المعادية للسامية، التي لا نرغب في وجودها داخل مجتمعاتنا".
وكانت علاقته بتركيا دائما محل توتر وخلاف، ففي فبراير/شباط 2017 أعلن كورتس أن بلاده لا ترحب بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إطار حملته للاستفتاء على الدستور المتعلق بتغيير النظام الرئاسي في البلاد.
كما منع وزير الاقتصاد التركي، نهاد زيبكجي، من دخول البلاد للمشاركة في أحد التجمعات المؤيدة لحكومة العدالة والتنمية، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للانقلاب العسكري الفاشل.
أطفال المسلمين
في 18 مارس/ آذار 2019، أعلنت وزارة الداخلية النمساوية، عزمها إلزام الأطفال المسلمين زيارة معسكرات اعتقال اليهود إبان الفترة النازية، بزعم تعزيز مكافحة معاداة السامية، مضيفة أن البرنامج سيدخل حيز التنفيذ خلال الأسابيع المقبلة.
وأوضح بيان صادر عن وزارة الداخلية التي يقودها اليمين المتطرف، أن الخطوة تأتي على خلفية كشف دراسة أن بعض الأطفال المسلمين في مدارس البلاد لديهم "وجهات نظر نقدية وسلبية تجاه إسرائيل".
ونقلت الوزارة عن مستشارة وزير الداخلية، أن الحكومة تدرس وضع برنامج إلزامي يخضع له المسلمون الوافدون إلى البلاد، بعد التباحث مع ممثلي الجاليات الإسلامية.
وقد أشرف البرلمان النمساوي، في فبراير/شباط 2019 على إجراء دراسة، أظهرت نتائجها أن 50 بالمئة من الأطفال الأتراك، و70 بالمئة من الأطفال العرب، لديهم أفكار نقدية سلبية ضد إسرائيل.
وفي 17 مايو/ آيار 2019، وافق مجلس النواب في النمسا على مشروع قانون قدمه الائتلاف الحكومي اليميني والذي ينص على "حظر ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية في النمسا".
وأظهر حينها سيباستيان كورتس، موقفه الصارم ضد المهاجرين، وحذر حكومة بلاده منهم، واصفا إياهم بـ"المجتمعات الموازية". وأكد أن تغطية رؤوس الفتيات الصغيرات هو "شيء لا يجب أن يكون له مكان في النمسا".
وقد تم تمرير هذا القانون وسط انتقادات من أحزاب اليسار والمنظمات الإسلامية في البلاد،
وكان من أبرز مظاهر الاحتجاج داخل البرلمان، ما أقدمت عليه النائبة النمساوية مارثا بيسمان، عندما قالت أمام الصحفيين بعد ارتداء الحجاب "نعم، انظر إليّ، ماذا تعتقد أنه قد تغير؟ يمكن للمرأة المسلمة أن تتعلم".
وتأتي كل تلك الإجراءات فيما يشار إلى النمسا باعتبارها من أكثر دول أوروبا استهدافا للمسلمين على أراضيها، بمخططات مختلفة منذ سنوات، وزاد من الأمر تعقيدا وصول أحزاب اليمين المتطرف إلى سدة الحكم، وقرارات الحكومة النمساوية إقامة مراكز جديدة مهمتها مراقبة المؤسسات العائدة للمسلمين في البلاد بذريعة مكافحة الإسلام السياسي، في الوقت الذي تدعم فيه ديكتاتورا غارقا في الاستبداد في الشرق على شاكلة عبد الفتاح السيسي في مصر.
المصادر
- غلق مساجد وطرد أئمة في النمسا.. فصل من فصول معاداة الإسلام في أوروبا
- الإسلام بالنمسا.. من اعتراف رسمي إلى تمييز "يميني"
- النمسا.. سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة تؤدي لزيادة العنصرية (تقرير)
- النمسا تُلزم الأطفال المسلمين زيارة معتقلات ِاليهود في الفترة النازية
- اليمين الأوروبي المتطرف يستهدف المحجبات.. فرنسا والنمسا أول المستجيبين
- مسلمو النمسا في مواجهة صعود اليمين المتطرف
- النمسا.. 1920 اعتداءً عنصرياً في 2018 مقارنة بألف و162 في 2017، و فق تقرير حديث
- تعرف على النمساوي سباستيان كورتز "أصغر رئيس وزراء في العالم"
- بالفيديو.. نائبة نمساوية ترتدي الحجاب بالبرلمان رفضا لقرار الحظر