محاولات إيران توطين المليشيات في تدمر السورية.. لهذا تسعى روسيا لإحباطها
.jpg)
تمسك روسيا بشكل وثيق بمعادلة النفوذ في سوريا مع إيران، وتسمح للأخيرة بالتمدد في بعض المناطق بالقدر الذي لا يؤثر على وجود موسكو العسكري الإستراتيجي في هذا البلد.
إذ تدل الوقائع الميدانية على غض موسكو الطرف عن طهران في سعيها لتثبيت الحضور الاجتماعي في بعض المناطق السورية، لكنها تلجمها إذا ما حاولت التغطية على الهيمنة والسطوة الروسية.
ويتمثل ذلك بإعادة روسيا زج مجموعات جديدة من مليشيا "فاغنر" الروسية منذ 14 ديسمبر/كانون الأول 2021 في مدينة تدمر التاريخية بريف حمص الشرقي.
وتعد المدينة الإستراتيجية المهمة جغرافيا واقتصاديا عقدة رئيسة من عقد الصراع الروسي الإيراني على النفوذ في سوريا، وخاصة مع سعي طهران لتوطين أسر مليشياتها في تدمر وابتلاع الثروات التي تختزنها صحراء المنطقة.
مهمة لـ"فاغنر"
وتنظر موسكو إلى مدينة تدمر على أنها موطئ قدم عسكري حساسة لأنها تمثل نقطة التوازن لوجودها العسكري على الأراضي السورية.
وأكدت مواقع سورية معارضة أن نحو 100 عنصر من مليشيا "فاغنر" وصلوا إلى مطار تدمر العسكري الذي تشرف عليه القوات الروسية قادمين من قاعدة "حميميم" الجوية الروسية بريف اللاذقية التي تعد مركز التحكم العملياتي للوجود العسكري الروسي.
واستولى عناصر مجموعات "فاغنر" الجديدة على عدة مبان في حيي "المعالف" و"الجمعيات الغربية" في مدينة تدمر المهجر أهلها إلا قليل منهم، وحولوها إلى مقرات عسكرية.
وشركة "فاغنر"، هي منظمة عسكرية تعد حاليا أشبه بـ"جيش بوتين السري"، ويملكها رجل الأعمال الروسي، يفغيني بريغوزين، المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، وفق ما تؤكده تقارير صحفية.
وتقاتل "فاغنر" وفق مصالح روسيا في كثير من دول العالم، حيث أدرجتها واشنطن في قائمة العقوبات على المؤسسات الروسية في يونيو/حزيران 2017.
وتعمل على تجنيد المرتزقة السوريين عبر وكلاء محليين، كما ساعدت قوات النظام السوري في استعادة السيطرة على مدينة تدمر السورية من أيدي تنظيم الدولة.
وتعتمد روسيا في عملياتها العسكرية ضد تنظيم الدولة في البادية السورية قرب تدمر على مليشيا "فاغنر"، التي تتجول مجموعاتها على محاور أساسية هناك وذلك بإشراف مباشر من جنرالات روس.
وتشكل خطوة روسيا عبر استقدام مزيد من عناصر "فاغنر" إلى منطقة تدمر، ردا سريعا على جلب طهران عوائل من مليشياتها الأجنبية إلى هناك بالتزامن مع تكثيف الحرس الثوري الإيراني عمليات التنقيب عن الآثار في المدينة.
وفي منتصف ديسمبر 2021 استقدمت المليشيات الإيرانية أكثر من 60 عائلة من العراق وأفغانستان عبر حافلات من معبر البوكمال الحدودي إلى مدينة تدمر لتوطينهم داخل منازل سكنية قبل أن تقوم بنقل قسم منهم إلى بلدة الحجيرة جنوب دمشق.
وتمكن تنظيم "الدولة" من السيطرة على تدمر لمدة سنة تقريبا في مايو/أيار 2015، قبل أن يعلن النظام السوري في 27 مارس/آذار 2016 بدعم من القوات الجوية الروسية السيطرة عليها من أيدي التنظيم.
لكن تنظيم الدولة عاد واستجمع قواه نظرا لسيطرته في ذاك التوقيت على مساحات كبيرة من محافظات الرقة ودير الزور وحلب.
وتمكن من استعادة السيطرة على مدينة تدمر في ديسمبر 2016 قبل أن ينتزعها منه النظام السوري مطلع مارس/آذار 2017 بدعم من روسيا.
معادلة الكفة
وتدمر هي عاصمة إمبراطورية التدمريين، وواحدة من أغنى مدن الإمبراطورية الرومانية، وتعد من أقدم المدن التاريخية في العالم وتحيط بها الأعمدة وقوس النصر والمسرح والمدرج والساحة العامة والقصور.
وكذلك تشتهر بالمعابد، وأهمها معبد "بل" و"بعل شمين"، والأعمدة في وادي المقابر، إضافة إلى المدافن الملكية وقلعة ابن معن وتماثيل وآثار كثيرة تنطق بعظمة مدينة تدمر التي نافست عاصمة الإمبراطورية روما أيام مجدها وأصبحت عاصمة لأهم ممالك الشرق.
كما أن تدمر الأثرية، مدرجة على لائحة التراث العالمي الإنساني لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "يونسكو".
وتؤكد مواقع سورية معارضة أن شركات روسية دخلت إلى سوريا منذ أغسطس/آب 2021 هدفها التنقيب عن الآثار في مدينة تدمر الشهيرة في تطور لافت كشف بعضا من نوايا الروس.
وفي هذا السياق، أكد مدير شبكة تدمر الإخبارية محمد العايد لـ "الاستقلال"، أن "المدينة لا تزال تعاني منع سكانها المهجرين للعودة إليها من قبل المليشيات الإيرانية الذين لهم القوة في السيطرة فيما يبقى الوجود الروسي يحمل صفة الإشراف فقط إلى الآن".
وأضاف العايد أن "تدمر تتميز بموقعها الإستراتيجي وغناها بالآثار والنفط والغاز والفوسفات والمقالع الحجرية مما يجعلها عاملا اقتصاديا كبيرا ومهما لكلا المتنافسين وهما روسيا وإيران".
واعتبر أن "تكثيف موسكو حضور فاغنر يندرج ضمن استشعارها للتغيير الديمغرافي الإيراني في المنطقة ومحاولة استثمار مدينة تدمر انطلاقا من تاريخها وقوتها الاقتصادية من الناحية الجغرافية محليا فهي قريبة إلى العاصمة دمشق (260 كم) وإلى مدينة حمص (160كم) وإلى الحدود العراقية".
واستدرك قائلا: "موسكو أرادت إيصال رسالة لإيران التي تعتمد على المليشيات الأفغانية القادمة من الشرق وتزج بهم قرب تدمر الهامة، من خلال معادلة الكفة هناك عبر فاغنر المدربة والمؤهلة وذات الصيت العالمي من ناحية العمليات العسكرية".
واهتمام الروس بمدينة بتدمر بشكل أكبر من أي منطقة أخرى، يؤكد على الرغبة في التمركز الطويل وجعلها نقطة المركز لوجودها العسكري في سوريا.
وخاصة بعد نشر وزارة الدفاع الروسية فرقا مختصة بمكافحة الألغام منذ عام 2016 لتنظيف المنطقة من الألغام التي زرعها تنظيم الدولة إبان سيطرته على المدينة لمرتين.
يرى القيادي السابق في الجيش السوري الحر المعارض شرق سوريا، صالح الحميدي أن "تدمر كعقدة مواصلات سورية سابقا تشكل حاليا مركز عمليات عسكري يستطيع المتمركز فيها أن يجعلها نقطة إمداد وإسناد لخمس محافظات سورية وهي دير الزور - الرقة - حمص - حماة - دمشق نظرا لقرب المسافة، وأي متحكم فيها يمكنه خنق هذه المحافظات اقتصاديا".
وأردف لـ "الاستقلال" قائلا: "فعلى سبيل المثال تشكل مدينة تدمر ممرا لأرتال قوات النظام السوري إلى دير الزور وطريقا بريا مؤمنا لقوافل النفط القادمة من مليشيات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى مناطق النظام والتي يأمنها تجار نفط كبار أمثال شركة القاطرجي وغيرها".
وبين أن "روسيا تمسك حاليا بمدينة تدمر عبر القاعدة العسكرية الضخمة في المقبرة الشرقية والتي أنشأتها عام 2016 ونشرت فيها آليات ثقيلة وأنظمة مضادة للطيران وناقلات جنود وهيأت نقطة هبوط للمروحيات القتالية، وذلك تحت غطاء إقامة معسكر مؤقت لإزالة الألغام والتي تعد حاليا بمثابة خط دفاع أول عن المدينة".
ويمكن القول إن عملية التغيير الديمغرافي التي تجريها المليشيات الإيرانية في مدينة تدمر تحديدا أزعجت روسيا وجعلتها تحد منها وتمنعها.
وهذا على الرغم من استيلاء المليشيات على عشرات المنازل المتفرقة في المدينة الحيوية والتي يقطنها حاليا نحو عشرة آلاف من مجموعة السكان البالغ نحو 80 ألف نسمة قبل التهجير.
وحاليا تعمل طهران على نشر التشيع في منطقة تدمر تحت مسميات إنسانية وإغاثية وتقدم الدعم للعوائل المتبقية والمنهكة اقتصاديا، ولا سيما داخل فئة النساء والفتيات عبر إجراء دورات في مهن مختلفة كالتمريض والخياطة وغيرها.
وما حدث أخيرا هو أن روسيا بدت ممتعضة من استقدام طهران لعوائل المليشيات الإيرانية وإسكانهم في وحدات سكنية في تدمر.
ويحدث هذا في ظل وجود مكتب للحرس الثوري الإيراني في حي المتقاعدين غربي مركز المدينة هدفه إدارة عمليات الانتساب المحلية لمليشياته.
استثمار روسي
لكن في المقابل، فإن روسيا تؤسس لأن تستثمر مدينة تدمر لأغراض السياحة مستقبلا، كي تعود كما كانت عليه سابقا، ولا سيما أنها تحتوي مرافق حيوية هامة مثل "رالي سيارات"، وفنادق ومطار تعمل موسكو على تجهيزه للطيران المدني.
وتشير الوقائع إلى وجود صراع روسي إيراني على التنقيب عن الآثار في منطقة تدمر ويتقاسم سرقتها إلى جانب ضباط كبار للنظام السوري كل من الحرس الثوري الإيراني ومليشيا فاغنر.
وتجري تلك العملية من طرف روسيا بحجة تنفيذ ترميمات للمدينة الأثرية، ضمن حملة تزعم أنها تهدف لإعادة إعمار تدمر.
كما بات التسابق الروسي الإيراني على الآثار في تدمر متسارعا أكثر من أي وقت مضى، لكونه يخفي خلفه محاولات مد النفوذ وبسط الهيمنة العسكرية على هذه المنطقة الإستراتيجية.
إذ أكدت "شبكة تدمر الإخبارية" المعارضة، أن مليشيات إيرانية وقوات النظام السوري بدأت عمليات حفر وتنقيب موسعة عن آثار المدينة بريف حمص الشرقي والبساتين المحيطة بها منذ 25 ديسمبر 2021.
وذكرت الشبكة أنه جرى استقدام آليات ثقيلة للمشاركة في عمليات الحفر، وسط ترجيحات بأن هدفها البحث عن آثار أو حفر أنفاق ومستودعات ضمن الحرم الأثري.
وسبق لأكاديمية العلوم الروسية أن تولت مهمة ترميم آثار تدمر عبر جلب مختصين حكوميين ومن المنظمات العلمية والعامة الروسية إليها.
وهو ما أكدته ناتاليا سولوفيوفا نائب مدير معهد تاريخ الثقافة المادية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، والتي ترأس حاليا مشروع ترميم قوس النصر في تدمر.
ومما قالته سولوفيوفا خلال تصريحات صحفية في 21 ديسمبر، أنه يجري جلب تقنيات خاصة وروافع إلى تدمر مع عزم تنفيذ عمليات مسح ضوئي وقياس تصويري قبل البدء في تنفيذ عملية إعادة الإعمار.
وفي 20 أغسطس 2020 أنهى علماء من معهد تاريخ الثقافة المادية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم نموذجا مفصلا ثلاثي الأبعاد لمدينة تدمر الأثرية جرى العمل عليه منذ عام 2016.
وزعمت روسيا أن الخطوة تهدف إلى الحفاظ على الموقع التاريخي وتسهيل إعادة إعماره، إذ تمكنوا من أخذ أكثر من 55000 صورة جوية عالية الجودة لإنتاج النموذج، إضافة إلى آلاف الصور الأرضية التي توثق القطع الأثرية الرئيسة في الموقع.
والتهافت الروسي على مدينة تدمر له مسوغاته العسكرية والاقتصادية، ومما يجدر ذكره في هذا المضمار، هو تأكيد الإعلام الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن العشرات من الجنود الروس دفعوا رشاوى في محاولة لضمان مقعد لهم في جولات الخدمة العسكرية بسوريا، وذلك من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
وحول هذه الجزئية أكد الصحفي السوري مناف العبد الله لـ "الاستقلال"، أن "الجنود الروس الذين قدموا إلى سوريا باتوا يشرفون على حماية الآثار ونقل بعض القطع من المواقع الأثرية المهمة إلى روسيا بالطائرات والمتاجرة بها بعدما أبدت الأخيرة حرصها على حماية الآثار السورية وتجديد المواقع".
وأشار العبد الله إلى أن "بعض الجنود الروس ربما لديهم خدمات أخرى يفعلونها غير الخدمة العسكرية، لا سيما تلك المرتبطة بالمافيا الروسية التي ربما تستثمر بعض الجنود في مهمات خاصة كسرقة الآثار السورية".
وبالمحصلة، لا يمكن إغفال وجود صراع دائم بين روسيا وإيران وخاصة شرق سوريا؛ مرده إلى طبيعة المنطقة الإستراتيجية لكل منهما وتأثير ذلك على توازن القوى على الجغرافية السورية.
وأبدت إيران امتعاضها من منح النظام السوري شركة "ستروي ترانس غاز" الروسية في مارس 2018 عقد استثمار واستخراج الفوسفات في منطقة مناجم الشرقية القريبة من تدمر.
وتمتلك سوريا ثالث أكبر احتياطي عربي بعد المغرب والجزائر من الفوسفات، حيث تتركز المناجم الأساسية في بادية تدمر ومرتبطة بخط حديدي حتى ميناء طرطوس الذي استأجرته موسكو لمدة 49 عاما.
ويوجد في سوريا 3 مليارات طن من الفوسفات، ويعجز النظام السوري عن تصدير أي منه؛ نتيجة المقاطعة الدولية.
لذلك ذهب النظام إلى منح شركات روسية وصربية عقودا طويلة الأمد لاستخراجه بحصة 30 بالمئة له و70 بالمئة للشركات المستثمرة.
المصادر
- "فـاغـر" الروسية تعزز انتشارها في تدمر السورية
- “الحرس الثوري” يستهدف نساء مدينة تدمر عبر دورات ظاهرها “إنساني” وباطنها “نشر الفكر الشيعي”
- "تدمر".. روسيا تنشئ أول قاعدة برية في العمق السوري
- عازف هارب روسي يطلق عملية إعادة إعمار قوس النصر بتدمر
- علماء روس يصممون نموذجاً ثلاثي الأبعاد لمدينة تدمر الأثرية لتسهيل إعادة ترميمها