طبول الحرب تدق.. هكذا أصبح السلام في البوسنة والهرسك على شفا الانهيار

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

أقر برلمان صرب البوسنة في 10 ديسمبر/كانون الأول 2021 بدء عملية الانسحاب من المؤسسات الفيدرالية المشتركة بين الصرب والكروات والمسلمين في دولة البوسنة والهرسك، وتشكيل جيش صربي مستقل، وسط أجواء مشحونة بالحرب.

وقبل شهرين، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 هدد رئيس "جمهورية صربسكا" المتمتعة بالحكم الذاتي "ميلوراد دوديك" بالخروج من اتحاد جمهورية البوسنة والهرسك، وزعم أن "الدولة الموحدة لم يعد لها وجود"، وتعهد بإنشاء جيش صربي مستقل.

وقال إنه سيفعل ذلك خلال الأشهر الستة القادمة، ولم يمر سوى شهرين حتى نفذ تهديده، ووافق برلمان صرب البوسنة على الانسحاب من 3 مؤسسات بوسنية فيدرالية مشتركة، هي الجيش والسلطة القضائية وهيئة الضرائب.

وتهدد هذه الخطوة سيادة الجمهورية الفيدرالية الموحدة، وتمهد لانفصال مواطنيها الصرب، وإعادة التوتر مرة أخرى بين الأعراق الثلاثة في البوسنة وتجدد احتمالات عودة الحرب الأهلية.

وأعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا في مارس/آذار عام 1992، وتتمتع بتعدد عرقي وطائفي يضم البوشناق المسلمين (48 بالمئة)، والصرب الأرثوذكس (37.1 بالمئة)، والكروات الكاثوليك (14.3 بالمئة).

وارتكبت القوات الصربية مجازر بحق المسلمين خلال ما عرف بـ"حرب البوسنة" التي بدأت عام 1992 وانتهت في 1995 بعد توقيع "اتفاقية دايتون"، وتسببت في إبادة أكثر من 300 ألف شخص، باعتراف الأمم المتحدة.

والسلطة في البوسنة والهرسك لا مركزية وتضم كيانين مستقلين: اتحاد البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة "صربسكا". والدولة يقودها مجلس رئاسي يضم ثلاثة رؤساء؛ بوسني وكرواتي وصربي.

وتحدثت تقارير للأمم المتحدة عن وجود كميات كبيرة من السلاح الموروث عن حقبة الحرب الأهلية، إضافة إلى تزايد تهريب الأسلحة من دولة صربيا المجاورة للبوسنة، للصرب داخلها.

انفصال الصرب

يبدو قرار برلمان صرب البوسنة أشبه بقرار للحرب، فهو بمثابة تمرد كامل على اتفاقات دايتون للسلام التي توسطت فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبموجبها توقفت الحرب.

ففي السنوات التالية لحرب البوسنة في التسعينيات، أقامت دولة "البوسنة والهرسك" المركزية الجديدة مؤسسات مشتركة، جيشا وقضاء وضرائب واستخبارات، يشارك فيها مسلمون وصرب وكروات.

لكن الآن ستسحب "صربسكا" موظفيها من أهم ثلاث مؤسسات فيدرالية بوسنية وهي الجيش والقضاء والضرائب، وتشكل جيشا صربيا مستقلا، ومؤسسات ضرائب وقضاء ونيابة مستقلة.

بحسب موقع برلمان "صربسكا"، تضمن إعلان الانفصال، الذي قيل إنه سيدخل حيز التنفيذ في اليوم التالي، مطالبة برلمان جمهورية صربسكا من حكومته إبلاغ الاتحاد البوسني انسحابها من المؤسسات الفيدرالية الثلاث.

وعدم تطبيق قوانين ولوائح مؤسسات اتحاد البوسنة والهرسك على أراضي جمهورية صربسكا بعد قرابة ستة أشهر، من تاريخ نفاذ القوانين واللوائح، أي في يونيو/ حزيران المقبل 2022 تقريبا.

أبرز هذه الانسحابات يتعلق بموافقة برلمان صربسكا ديسمبر/كانون أول 2004 على اتفاقية الدفاع مع حكومة اتحاد البوسنة والهرسك، ومن ثم تجهيز قوانين خاصة بصربسكا تتعلق بالدفاع والأمن (تشكيل جيش وأمن مستقل).

ووافق على هذه القرارات العضو الصربي في رئاسة البوسنة والهرسك ميلورادي دوديك، ورئيس جمهورية صربسكا زيليكا شفيانوفيتش، ورئيس الوزراء رادوفان فيسكوفيتش، وزعماء الأحزاب السياسية الحاكمة في صربسكا.

في كلمته خلال تمرير قرار الانفصال، قال "دوديك" إن "الذين يديرون الجمهورية الصربية مصممون على تنفيذ ذلك"، ووصف الجلسة البرلمانية بأنها "تاريخية".

وكان ملفتا أن قادة المعارضة في برلمان صربسكا انتقدوا سياسات دوديك، وخطوة الانفصال بهذه الطريقة، وسط صراخ انتهى بخروجهم من الجلسة.

"ميركو شاروفيتش"، أحد قادة المعارضة، قال إن هذا التحرك يشكل "تهديدا مباشرا للسلام"، الأمر الذي "سيقود جمهورية صربسكا إلى دوامة الحرب مجددا".

برانيسلاف بورنوفيتش، زعيم حزب الشعب الديمقراطي المعارض، الذي شارك في حرب 1992-1995 قال إن "وجود جيوش منفصلة يعني الصراع والحرب والموت لمستقبل البوسنة"، وتساءل كيف سيتم تمويله وشراء دبابات وطائرات له؟

لكن مراسل "يورونيوز" أكد في 11 ديسمبر/كانون الأول 2021 أن هناك احتمالات كبيرة لرفض مجلس الشيوخ بصربسكا، والمحكمة الدستورية للقرارات التي أصدرتها الجمعية الوطنية (مجلس النواب).

وبدأت الأزمة في 23 يوليو/تموز 2021 برفض القائد الصربي دوديك ومسؤولين آخرين من صرب البوسنة قانونا يجرم إنكار المجازر التي شهدتها البلاد ضد المسلمين، كان قد أصدره مكتب الممثل السامي الأوروبي في اتحاد البوسنة.

على إثر ذلك هدد دوديك باتخاذ خطوات متطرفة تتعلق بالجيش والقضاء والضرائب، إذا لم يتم إلغاء ذلك القانون، وهدد بانفصال الصرب عن جمهورية البوسنة والهرسك، وتأسيس جيش خاص بالصرب.

جزار الصرب الجديد

خلال فترة الحرب البوسنية، مثل "ميلوراد دوديك" دور السياسي المعتدل والمعارضة المعتدلة داخل برلمان صرب البوسنة، مقابل "الحزب الديمقراطي الصربي" الحاكم حينئذ ذي التوجه القومي الداعم لجرائم إبادة مسلمي البوسنة.

عقب انتهاء حرب البوسنة، شكل عام 1996 حزب "تحالف الديمقراطيين الاجتماعيين الأحرار" ويقوده حتى الآن.

من خلال هذا الحزب، سعى دوديك لإظهار نفسه كشخص مختلف السمعة عمن تلطخت أياديهم من الصرب بالدماء، ما جعله يحظى بدعم غربي خلال فترة ما بعد الحرب. 

وبدعم من الغرب، بغرض تهميش خصومه القوميين المتطرفين، فاز برئاسة وزراء جمهورية صرب البوسنة سنة 1998، وحصل على دعم مالي أوروبي وأميركي لصربسكا.

لكن خلال الولاية الثانية له في رئاسة الوزراء (2006-2010) بدأ التحول الأيديولوجي لدوديك يطغى على السطح، واتخذ منعطفا حادا نحو تبني الأفكار القومية المتطرفة، لدرجة أنه أصبح يزايد على المتطرفين الذين قتلوا مسلمي البوسنة.

برز هذا التحول نحو القومية الصربية أكثر مع فوزه بالانتخابات الرئاسية سنة 2010، ليصبح ممثل الصرب في الاتحاد الرئاسي البوسني، ومنذ ذلك الحين بدأ يعمل جاهدا على تقسيم البلاد والاستقلال بجمهورية صرب البوسنة.

بدأ ذلك بالدعوة في أكثر من مرة لإقامة استفتاء لاستقلال جمهوريته ذات الحكم الذاتي، قوبلت برفض الدولة المركزية في سراييفو، وإدانة المجتمع الدولي لها كونها تهدد السلام بالمنطقة.

خلال هذه الولاية الثانية لدوديك، برز عداؤه الصريح للمسلمين، حتى إنه منع عام 2008 القضاة البوشناق المسلمين من القيام بمهامهم في محاكم جمهوريته، بدعوى أنه "من غير المقبول لصرب البوسنة السماح للقضاة المسلمين بالبت في قضاياهم.

وبرر هذا بقوله: "فقط لأنهم مسلمون، يحملون نظرة عداء لنا ويتآمرون علينا"، ما دعا سفارة الولايات المتحدة لإصدار بيان حينئذ تصف تصريحاته بأنها "شوفينية متطرفة".

هذا العداء للمسلمين ظهر أيضا حين سعى لطمس معالم مذبحة سربرنيتسا التي ارتكبتها وحدة صربية معروفة باسم "العقارب" تحت قيادة مجرم الحرب راتكو ملاديتش، وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف بوسني تحت سمع وبصر القوات الأممية.

أنكر رئيس صرب البوسنة حدوث ذلك في تصريح بتاريخ 12 أبريل/نسيان 2019، وقال إن "صرب البوسنة لن يعترفوا أبدا بأن سربرنيتسا كانت مذبحة"، وزعم في تصريحات أخرى أنها "أسطورة اخترعها البوسنيون لبناء هويتهم".

وكانت المفارقة أنه استقدم الأكاديمي الإسرائيلي، جدعون غرايف، عام 2019 ليقود لجنة تحت اسم "الاستقصاء التاريخي" في حقيقة ما حدث في سربرنيتسا"، كي ينكر وجود المجزرة ويقول إنه يستشهد بذلك بـ "تقارير أكاديمية علمية"!!.

وحين أدانت المحكمة الدولية، المجرم راتكو ملاديتش لقتله المسلمين، وصفه "دوديك" بأنه "أصبح بطلا ميثولوجيا للأمة الصربية" ووصف حكم لاهاي بأنه "مهزلة ومسيس، والمحكمة "تريد شيطنة الصرب".

ومؤخرا عاد لفرض الأمر الواقع بدعوته إلى انسحاب الصرب من المؤسسات المشتركة الأساسية للبلاد، في خطابه يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بإنشاء جيش "جمهوري صربي".

فوضى دولية

حين قيل لـ"دوديك" أن ما يفعله سيدفع أميركا وأوروبا لفرض عقوبات على صربسكا، قال إنه لا يهتم بالعقوبات الجديدة "لأن هذا من شأنه أن يقرب الصرب من أصدقائهم الحقيقيين"، في إشارة إلى علاقاته الوثيقة مع روسيا.

لذلك تبدو الخشية من تجدد الحرب في البوسنة نابعة من مخاوف تمدد صراع القوتين العظميين إلى البلقان مرة أخرى، وهو ما حذرت منه تركيا.

فالعلاقات الروسية الغربية تعيش أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة، إثر التصعيد في النزاع شرق أوكرانيا وتزايد المخاوف من اجتياح قوات موسكو جارتها الشرقية. 

يضاف إليه استخدام ألكسندر لوكاشينكو، حليف بوتين البيلاروسي، ورقة المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي، ما اعتبره هذا الأخير "هجوما هجينا" على حدوده.

لذلك حين استقبل الرئيس رجب طيب أردوغان، الزعيم الصربي المتطرف لمحاولة حل الأزمة، قال "لا نريد أبدا أن تتحول البوسنة والهرسك إلى ساحة نفوذ وتنافس للأطراف التي لديها حسابات بشأن هذه المنطقة".

وقال أردوغان إن تركيا تعد الحائل الأكبر أمام وقوع أحداث مؤسفة في البوسنة والهرسك مجددا كتلك التي شهدتها البلاد قبل اتفاقية دايتون.

وحين رفض "مجلس تنفيذ السلام" الذي يشرف على تنفيذ اتفاق دايتون "الانسحاب الأحادي الجانب" للصرب من المؤسسات الفيدرالية، وهدد بمعاقبة من ينتهك اتفاق السلام (الصرب)، رفضت روسيا، عضو المجلس، توقيع البيان.

فدوديك الذي كان من قبل محميا من الغرب، أصبح اليوم مدعوما من روسيا، ويتهم الغرب بإضعاف جمهورية الصرب على مر السنين عبر دعم "إصلاحات" طالب بها المسلمون في الدولة البوسنية، يزعم أنها تضر الصرب.

أيضا رفضت روسيا تقرير المبعوث الدولي إلى البوسنة، كريستيان شميت للأمم المتحدة، الذي يحمل "الانقسامات بين الأطراف البوسنية" إلى الصرب ويحذر من أن خطر الحرب بات أكثر جدية، ودعا الغرب للتدخل لإنقاذ اتفاق دايتون.

وأعلنت روسيا دعمها بقوة لزعيم صرب البوسنة المتطرف، وهددت بتعطيل التصويت على تجديد مهام القوات الأوروبية بالبوسنة والهرسك "يوروفار" إن لم يسحب "شميت" اتهاماته للمسؤولين الصرب.

ويبدو أن انشغال الولايات المتحدة بمواجهة الصين، وتفكك الاتحاد الأوروبي بعد مغادرة بريطانيا، والدعم الروسي، عوامل قد تعوق التدخل الغربي لمعاقبة الصرب كما حدث في حرب التسعينيات، بحسب مراقبين.

أيضا تقف بلدان أوروبا الشرقية الأرثوذوكسية إلى جانب دوديك وحكومته، وعلى رأسها حكومة المجر التي يرتبط رئيسها فيكتور أوربان مع رئيس صرب البوسنة بعلاقات وطيدة، ووقعت الحكومتان اتفاقية تعاون واسعة سنة 2019. 

وأرسلت الولايات المتحدة عدة دبلوماسيين إلى البوسنة في الأسابيع الأخيرة لتأكيد دعمها لوحدة أراضي البلاد والمؤسسات المركزية، لكن الصرب تعاملوا معهم بعدم اكتراث ونفذوا خططهم بالانفصال رغم التهديد بعقوبات.

وسبق للخزانة العامة الأميركية أن فرضت عقوبات اقتصادية على ميلوراد دوديك لتحديه الدستور البوسني في مسألة السيادة على الأرض كما منعته في 2017 من دخول الأراضي الأميركية.

وفرضت الولايات المتحدة بالفعل حظر سفر على دوديك وجمدت الأصول التي يمتلكها وهددت بتصعيد العقوبات في حال زاد صرب البوسنة من إضعاف المؤسسات المركزية في البوسنة.

وتؤيد غالبية دول الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على دوديك، بيد أن أي تحرك لفرض تجميد أصول أو حظر سفر يتطلب إجماعا، وهو ما تحول المجر وسلوفينيا المؤيدتان للصرب دون تنفيذه.