حال رحيل ماكرون.. من في أوروبا يدعم الأنظمة العربية المستبدة؟

أحمد يحيى | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

أشهر قليلة تفصل فرنسا عن الانتخابات الرئاسية في أبريل/نيسان 2022، التي يتوقع أن يخوض الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون غمارها.

يأتي ذلك وسط موجة متصاعدة من الشعبوية قد تفرز رئيسا متطرفا أكثر من ماكرون نفسه، الذي حض على كراهية المسلمين، ونفذ إجراءات ضدهم.

فضلا عن دعمه للديكتاتوريات الكبرى في بلدان عربية كالسعودية ومصر والإمارات، إضافة إلى تأييده وإمداده لانقلاب اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر والحرب الأهلية الليبية بالأسلحة والدعم اللوجيستي.

وبالعودة إلى التاريخ كانت الحرية والمساواة والأخوة، شعار الثورة الفرنسية، الذي مثل منطلقا قديما لواقع فرنسا الحالي.

ولطالما روجت فرنسا لنفسها في المحافل الدولية على أنها راعية للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين في مختلف بلدان العالم.

لكن ميزان العدالة الفرنسية أو (الماكرونية) حمل كثيرا من المتناقضات، بحسب منظمات حقوقية، فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط المعقدة، وحكام العرب المستبدين من رؤساء وأمراء، نبذوا على الصعيد الدولي.

بينما فتحت لهم باريس أبواب الدعم والتواصل والرعاية، ما سبب في انتقادات كثيرة وجهت للرئاسة والحكومة الفرنسية من قبل المنظمات الحقوقية. 

وباتت المعضلة القائمة على الطرف الآخر، كيف سيتعامل حكام العرب الذين اعتمدوا على سياسات ماكرون في المستقبل؟ وهل يمكن إذا ما أخفق الأخير في الحفاظ على مقعده، أن تتغير نظرة فرنسا إلى الشرق الأوسط؟ 

ماكرون وابن سلمان

ومن هنا يمكن التطرق إلى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة العربية السعودية في 4 ديسمبر/ كانون الأول 2021، لإجراء محادثات مباشرة مع ولي العهد محمد بن سلمان.

بهذا أصبح ماكرون أول زعيم غربي يزور السعودية منذ مقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، كاسرا حاجز قلق زعماء أوروبا من الوفود إلى المملكة، خشية مهاجمة المنظمات الحقوقية لهم. 

وعن سبب الزيارة أورد موقع "فرانس 24" أنها مهمة لماكرون لمساعدته على إبرام اتفاق سلام يشمل المنطقة مع إيران، كما ينظر إليها باعتبارها حليفا في المعركة ضد من يسميهم "المتشددين الإسلاميين" من الشرق الأوسط حتى غرب إفريقيا، وحصنا في مواجهة الإخوان المسلمين، وهي حرب أساسية، بالنسبة للرئيس الفرنسي. 

وعلى الصعيد الاقتصادي، فرنسا أحد موردي الأسلحة الرئيسين للمملكة، لكنها تواجه ضغوطا متزايدة لإعادة النظر في مبيعاتها بسبب الصراع بين التحالف الذي تقوده السعودية والحوثيون المتحالفون مع إيران في اليمن الغارق في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

وخلفت تلك الزيارة لماكرون الذي يستعد لمعركته الانتخابية الرئاسية، التساؤلات عن سر قربه من ابن سلمان، حتى في أحلك اللحظات السياسية. 

ويعد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، من أكثر الشخصيات جدلا فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان والديمقراطية، بعد حملاته المتكررة على الناشطين وعلماء الدين والسياسيين في بلاده. 

ووصل الوضع إلى ذروته عندما اغتالت فرقة خاصة تابعة للجهاز الأمني لابن سلمان، الصحفي السعودي جمال خاشقجي.

 بعدها واجه ابن سلمان أزمة دولية وأصبح "منبوذا دوليا"، حين رفض قادة العالم البارزون لقاءه والحديث معه. 

ووسط هذه الأزمة غير المسبوقة، تميزت علاقة ابن سلمان وماكرون، وهو ما ظهر بشدة في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، عندما انطلقت قمة مجموعة العشرين التي أقيمت في الأرجنتين.

وقتها، وجد ابن سلمان نفسه معزولا عن جميع القادة والرؤساء، وتجنب معظمهم التقاط الصور أو الحديث معه بشكل منفرد.

لكن ماكرون تقرب منه، وعقد معه محادثة لنحو 5 دقائق، طمأنه خلالها بأنه سيتعامل مع قضية خاشقجي، بينما اكتفى ولي العهد بالابتسام.

الرئيس الفرنسي حينها ركز اهتمامه على دعم ابن سلمان، وجرى تفسير الأمر على أنه وضع عيناه صوب السوق السعودي، راغبا في توغل الشركات الفرنسية داخل المملكة، والسعي إلى فتح أفق جديد في نطاق التعاون العسكري وبيع الأسلحة الفرنسية للسعودية بأي طريقة ممكنة، حتى لو كان ذلك مخالفا لحقوق الإنسان. 

وفي 17 أبريل/ نيسان 2019، أحرج الإعلامي الفرنسي، من أصول مغربية، علي بادو، وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، عندما سألها، "سيدتي الوزيرة، لدي سؤال يزعجك... هل يجب أن نتوقف عن بيع الأسلحة للسعودية؟"، وذلك على قناة "فرانس إنتر". 

ومع إصرار بادو على السؤال، وضعت الوزيرة المقربة من الرئيس ماكرون، يديها على الطاولة وأنهت النقاش بجملة واحدة "ليس لدي علم أن الأسلحة الفرنسية تستخدم مباشرة في هذا الصراع".

وكانت صحيفة "ميديا بارت" الفرنسية، تحدثت عقب ذلك اللقاء أن عقود الأسلحة بين فرنسا والسعودية تثير نقاشا أخلاقيا وسياسيا وقانونيا، وأن باريس توفر أسلحة لعميل (النظام السعودي) استخدمها لقتل مدنيين في اليمن على مدار 4 سنوات.

دعم السيسي 

عندما وصل إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه في 14 مايو/أيار 2017، رسم شكلا خاصا للعلاقة مع النظام المصري على وجه التحديد.

وطور ماكرون علاقته مع رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي، ولم تنقطع الزيارات المتبادلة بينهما، وأصبحت القاهرة من أهم زبائن باريس من حيث شراء أسلحة بمبالغ مليارية. 

العلاقة بين السيسي وماكرون أثارت قلق المدافعين عن حقوق الإنسان، في وقت تتهم فيه القاهرة بارتكاب سلسلة انتهاكات مروعة ضد المدنيين، ورواد المجتمع المدني في مصر. 

وفي 19 ديسمبر/ كانون الأول 2020، أعلنت 12 منظمة حقوقية، من بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية (أمنستي)، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، في بيان مشترك أن "الدبلوماسية الفرنسية على أعلى المستويات تتغاضى منذ فترة طويلة عن القمع الوحشي الذي يمارسه السيسي لأي شكل من أشكال المعارضة".

وجاء في البيان، "لن يقف الرئيس ماكرون للدفاع عن التزامه المعلن للنهوض بحقوق الإنسان في مصر".

وذكر أن "الحكومة الفرنسية برئاسة ماكرون، ليست موردا رئيسا للأسلحة لمصر فقط، حيث تبيع السفن الحربية والطائرات المقاتلة، ولكنها تسمح أيضا للشركات الفرنسية بتزويد القاهرة بمعدات المراقبة والسيطرة على الحشود".

وأوضح مدير الحماية الدولية في الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان أنطوان مادلين، "نحن مندهشون من أن فرنسا تفرش سجادة حمراء لديكتاتور مع وجود أكثر من 60 ألف سجين رأي في مصر اليوم".

وكان ماكرون قد أعلن في ديسمبر/كانون الأول 2020، أنه "لن يجعل بيع الأسلحة لمصر مشروطا بحقوق الإنسان لأنه لا يريد إضعاف قدرة القاهرة على مكافحة الإرهاب في المنطقة". 

وفي 5 مايو/أيار 2021 عقدت القاهرة ثاني أضخم صفقة سلاح من نوعها، منذ وصول السيسي إلى الحكم، تتويجا للعلاقات الدافئة بين مصر وفرنسا، خلال عهد ماكرون، ووقع البلدان على عقد شراء 30 طائرة مقاتلة من طراز رافال، بحسب بيان القوات المسلحة المصرية.

ووقعت مصر وفرنسا في 2015 على عدة صفقات سلاح ضخمة، شملت 24 طائرة مقاتلة رافال، وفرقاطة متعددة المهام، وسفينتين حربيتين من طراز ميسترال، بلغ مجموع قيمتها نحو 6 مليارات يورو.

وبلغ مجموع الواردات المصرية من الأسلحة الفرنسية 7,7 مليارات يورو بين عامي 2010 و2019، ما جعل القاهرة رابع دولة من حيث شراء الأسلحة من فرنسا، وفقا للتقرير السنوي للبرلمان الفرنسي.

ومن خلال تلك الصفقات الضخمة، والعلاقة المتقدمة، وصف السيسي بمثابة "الديكتاتور" المفضل لدى ماكرون في الشرق، كما أطلق الكاتب الروسي، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط يعقوب هادجيتش. 

شراكة مع ابن زايد 

واكتمل مثلث علاقات ماكرون بأباطرة العرب عبر علاقته الوثيقة بولي عهد أبوظبي، وأقوى رجل في الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان.

وهو ما ظهر بوضوح في 15 سبتمبر/ أيلول 2021، عندما استقبله في فرنسا بطريقة حافلة، وتناول معه عشاء عمل بقصر "فونتينبلو" جنوبي باريس، وذلك لبحث الشراكة الإستراتيجية بين البلدين ومجمل المسائل الإقليمية.

لكن طريقة الاستقبال والاجتماع، دفعت وسائل الإعلام الفرنسية للتساؤل عن سر العلاقة بين الإمارات وفرنسا واهتمام ماكرون بابن زايد تحديدا. 

وفي 6 ديسمبر/ كانون الأول 2021، انتقدت منظمات حقوقية دولية، إبرام ماكرون صفقات عسكرية مع الإمارات المتورطة في نزاعات مسلحة بعدة بلدان في المنطقة، ومشاركاتها المشبوهة بانتهاكات حقوق الإنسان، وذلك خلال زيارة في الثالث من ذات الشهر ضمن جولة خليجية شملت السعودية أيضا.

وذكرت المنظمات على رأسها "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية، أن الأسلحة التي تزود بها باريس أبوظبي "تستخدم في هجمات غير قانونية، وجرائم حرب”في اليمن و ليبيا، وهي صراعات اتهمت الإمارات بالتورط فيها من خلال وكلاء محليين داخل هذه الدول". 

وأكدت المنظمات الحقوقية "أن فرنسا تمضي قدما في هذه المبيعات على الرغم من أن الإمارات تلعب دورا رائدا في العمليات العسكرية الوحشية التي يقودها التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن".

وقد ذكر موقع "ديسكلوز" الفرنسي الاستقصائي، أن "باريس سلمت الإمارات والسعودية عشرات الآلاف من القنابل على الرغم من علمها بأنها ستستخدم في العدوان على اليمن". 

ونقل الموقع الإلكتروني عن "وثائق دفاعية سرية" أنه الحكومة الفرنسية سمحت بتسليم نحو 150 ألف قذيفة إلى الإمارات، حليفتها الخليجية. 

وبناء على التعاطي الإماراتي الفرنسي، كان ابن زايد على رأس الأنظمة الداعمة لماكرون، في أكتوبر/ تشرين الأول 2020.

وأعلن دعمه للرئيس والاقتصاد في فرنسا ردا على حملة العالم الإسلامي بمقاطعة باريس اقتصاديا، على خلفية الإساءة التي تزعمها ضد الإسلام والمسلمين والنبي محمد. 

وقد أعلن ولي عهد أبوظبي حينها مساندته الكاملة للاقتصاد الفرنسي ضد الحرب الممنهجة التي يقودها تنظيم الإخوان المسلمين العالمي بمقاطعة المنتجات الفرنسية، حسب ادعائه. 

لذلك لم يكن مستغربا ما أدلى به إيمانويل ماكرون عن ابن زايد في 16 سبتمبر/ أيلول 2021، ونقلته صحيفة "لوبوان" الفرنسية.

وأوضحت الصحيفة أن الرئيس الفرنسي يعتبر محمد بن زايد نموذجا للحاكم العربي العصري، متغافلا عن كم الانتهاكات التي أعملها الأمير الإماراتي في ملفات حقوق الإنسان داخل بلاده، أو الحروب الإقليمية في اليمن وليبيا. 

مستقبل ضبابي

الباحث الحقوقي مصطفى عز الدين، قال في حديثه لـ"الاستقلال"، إن "الحديث عن سمة تغيير قد تطرأ في سياسات فرنسا ما بعد ماكرون على المستوى الحقوقي، ودعم حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، محل شك.

وأرجع ذلك إلى أن سياسات فرنسا تجاه دعم المنظمات المدنية، وجماعات حقوق الإنسان في الدول العربية متناقضة، وذات طابع انتقائي.

وبين أن باريس تهتم بدعم الليبراليين بعيدا عن المواطنين أصحاب التوجهات الدينية أو اليسارية، "فهؤلاء في مفهوم حقوق الإنسان الفرنسي لا يستحقون الحرية أو الدفاع عنهم بالكلية".

وأضاف: "على الصعيد الحكومي فإن الرئيس القادم لفرنسا في حال عدم نجاح ماكرون، قد يلعب بورقة حقوق الإنسان، كعامل ضغط لابتزاز الأنظمة المستبدة في الشرق، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية والسياسية".

وهو ما يفعله ماكرون نفسه "حتى يستطيع أولا فتح باب للاستثمارات الفرنسية، وكذلك بيع أكبر كم ممكن من صفقات السلاح إلى الحكومات والجيوش العربية". 

واستطرد أن "فرنسا أصبحت تعج بالأحزاب اليمينية المتطرفة، وصعود الشعبوية التي تهدد الأقليات في البلد نفسها، فما بالنا بالدول العربية والإسلامية، ومن هنا نرى أن جميع الخيارات مرة".

فمن أبرز المرشحين أمام ماكرون؟ إنه إيريك زمور، وهو يهودي متطرف يكره المسلمين، ويريد طردهم تماما من أوروبا، ويشجع حكومات الشرق على اعتقال الإسلاميين، والتقارب مع إسرائيل، يقول عز الدين.

وذكر أن "الأزمة بالنسبة للأنظمة العربية ستكون فقط في التعامل مع وجوه جديدة، وآليات مختلفة، لا سيما الاقتصادي، أما السياسات العامة فلن يحدث الفرق الجوهري المنتظر".

وأوضح أن "الانتخابات الفرنسية تختلف عن الأميركية من حيث القوة والتأثير، وتغيير السياسات، فماكرون ليس (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب، والقادم لفرنسا لن يكون جو بايدن (الرئيس الأميركي الحالي)"، وفق تعبيره.