رمضان في تركيا.. هوية إسلامية حاضرة و"خير" عابر للحدود

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قبل أيام قليلة من حلول شهر رمضان الكريم، وفي الجانب الشرقي من مدينة إسطنبول التركية العتيقة، ارتفع صوت آذان عذب قبالة البسفور كان قادما من بين جدران وأسقف مسجد تشامليجا، أكبر مساجد البلاد الذي افتتحه الرئيس رجب طيب أردوغان في 3 مايو/ آيار 2019.

يوما بعد يوم تثبت الدولة التركية، أنها تحرص على إحياء تراثها وهويتها الضاربة في أعماق التاريخ، من خلال افتتاح المساجد والمتاحف الإسلامية على الطراز العثماني بالقباب البيزنطية المميزة للمعمار التركي، الذي مزج بين روح الشرق وروائع الغرب.

إطلاق مدفع الإفطار عند المغرب، والإفطارات المجمعة للعائلات والأسر في كل حي وبلدية وقضاء، والأنشطة الملحوظة للمؤسسات الخيرية، مثل الهلال الأحمر، ووقف الديانة داخل وخارج تركيا، كلها عادات وتقاليد وموروثات عثمانية يحرص الأتراك على استحضارها والمحافظة عليها طيلة شهر رمضان.

موائد الرحمن، وهي موائد طعام مفتوحة في مختلف المناطق والساحات العامة، تعد من أهم العادات الرمضانية للأتراك كل يوم في رمضان، يحضرها الفقراء والمحتاجون، فيما يحرص أهل الخير على توزيع الحلوى والمشروبات على الأطفال عقب صلوات المغرب والعشاء والتراويح.

من جانبها تقيم الحكومة التركية في رمضان مسابقات حفظ القرآن الكريم على جميع المستويات التعليمية، ويتم تكريم الأوائل بحضور رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين في الدولة.

أكبر المساجد

مع الاستعداد لدخول شهر رمضان المعظم، في 3 مايو/ أيار 2019، افتتح رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان "مسجد تشامليجا" في الجانب الآسيوي من إسطنبول، بحضور ممثلين عن بعض قادة العالم الإسلامي.

تشامليجا بدأ الشروع في تأسيسه يوم 29 مارس/ آذار 2013، بتكلفة بلغت 100 مليون دولار أمريكي، على مساحة 15 ألف متر مربع، ويتسع لأكثر من 60 ألف مصلٍ في آن واحد.

وجاء تشييد المسجد على تلة عالية تسمى "بويوك تشامليجا تاباسيه"  وبالتركية Büyük "Çamlıca Tepesi، وتعرف بتلة العرائس في منطقة أُوسكودار، ما يتيح رؤيته من مختلف أنحاء المدينة، وهو ما أكده أردوغان في مأدبة عشاء افتتاح المسجد، عندما قال "بني بهدف أن يكون ظاهرا من جميع أنحاء إسطنبول".

حفل تدشين مسجد تشامليجا

المشروع بدأه المهندس المعماري التركي "حاجي محمد غونر"، وصممه مهندستان معماريتان هما "بحر مزراق" و"خيرية غول طوطو"، ويضم المسجد قاعة مؤتمرات، ومتحفا للآثار الإسلامية، ومعرضا للفنون، ومكتبة عامة، إضافة إلى موقف لسيارات رواد المسجد، يسع قرابة 3500 سيارة. ويعتلي المسجد 6 مآذن، 4 منها بطول 107.1 أمتار، واثنتان بطول 90 مترا، فيما يبلغ ارتفاع قبته نحو 72 مترا وقطرها 34 مترا.

وتم تخصيص حدائق حول المسجد بمساحة 30 دونما، ليتمكن الزائرون من التنزه فيها، والاستمتاع بمنظر إطلالتها التي تعتبر من أجمل إطلالات إسطنبول، كونها تشرف على الشطرين الآسيوي والأوروبي للمدينة، بالإضافة إلى جزء من بحر مرمرة.

وخلال خطبته الافتتاحية للمسجد، قال أردوغان: "الدين الإسلامي يكفل حرية العبادة لكافة أتباعه، وهو حق مقدس في عقيدتنا"، وأكد أنهم يواصلون العمل من أجل التصدي لتنظيمات النازيين الجدد التي تعتدي على مساجد المسلمين في أوروبا".

وفي تقليد تركي قديم عند افتتاح المساجد الكبرى، شهدت ساعات صباح الجمعة 3 مايو/ آذار 2019، تلاوة قرآنية من قبل أئمة وحفاظ قادمين من دول عدة، بالإضافة إلى الأناشيد والتواشيح الدينية.

أردوغان يفتتح أكبر مساجد تركيا

موائد الإفطار

الدولة التركية حاضرة بقوة من خلال الدور الذي تقدمه البلديات الصغرى والكبرى، بفعالياتها في المناسبات الدينية وخاصة في شهر رمضان، وخاصة إعدادها موائد الإفطار في الساحات والشوارع العامة، والتي غالبا ما تكون ضخمة، وتستوعب أعدادا كبيرة من المواطنين تصل لأكثر من 15 ألف شخص.

وتنظم البلديات حلقات ذكر وأمسيات شعرية وحكايات شعبية وعروضا ثقافية أو تاريخية تقليدية، ولا تتوقف خدماتها عند هذا الحد، بل تنظم مجموعات من المتطوعين الذين يوزعون وجبات الإفطار للمرضى في المستشفيات أو المسنين في بيوتهم.

إفطار بلدية إسطنبول في منطقة السلطان أحمد 2019

وتتسابق منظمات المجتمع المدني في تركيا، لإيصال المساعدات إلى مختلف المجتمعات الإسلامية حول العالم، خلال شهر رمضان، وفي سائر شهور العام أيضا، حيث أقامت جمعية الهلال الأحمر التركية، برنامج إفطار رمضاني، لذوي الاحتياجات الخاصة والمحتاجين في العاصمة الأفغانية كابل.

وكذلك بدأت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية (İHH) أنشطتها خلال شهر رمضان 2019، فبالإضافة إلى أنشطتها المتواصلة في 81 ولاية تركية، تقوم بتقديم مساعدات داخل 120 بلدا، مستهدفة 3 ملايين شخص في مختلف أنحاء العالم، ورفعت الهيئة التركية شعار "رمضان أجمل معا"، وتشمل المساعدات التي تقدمها الهيئة "ملابس العيد، والمؤن الغذائية، وموائد الإفطار، فضلا عن المساعدات النقدية المخصصة للأيتام".

وتولي (İHH) دعمها بشكل أساسي إلى مناطق النزاع والحروب، مثل سوريا، والسودان، واليمن، وغزة، وبنغلاديش، والعراق، بالإضافة إلى إقليمي تركستان الشرقية (الصين) وأراكان (ميانمار)، التي تعمل تركيا على إزاحة الظلم عنهما، ووقف أعمال الإبادة ضد المواطنين المسلمين هناك. وقامت جمعية "دنيز فنري" التركية، بتوزيع 60 ألف عبوة غذائية، وألبسة على قرابة 10 آلاف محتاج، مع مساعدات غذائية ونقدية، على الأسر المحتاجة داخل وخارج تركيا، إبان شهر رمضان.

وفي 8 مايو/ آيار 2019، أعلن وقف الديانة التركي "نصب خيام رمضانية للإفطار، في 81 ولاية تركية"، كما أعلن الوقف عزمه، توزيع ملابس على 11 ألف طفل، مع حلول مناسبة عيد الفطر، في 19 منطقة، ببنغلاديش، وتشاد، وفلسطين، والنيجر، والصومال، والسودان، وسوريا، واليمن.

وبحسب البيان وزع وقف الديانة التركي، طرودا غذائية، على ألفين و800 عائلة محتاجة، بمختلف المناطق الكينية، وذلك في إطار المساعدات الإنسانية الرمضانية، كما قام الهلال الأحمر التركي بتوزيع وجبات إفطار للأيتام في مدينة إدلب السورية.

تراث عثماني

استحضارا للتاريخ، وكدأب الأتراك القدماء مع أول أيام رمضان، ففي 6 مايو/ آيار 2019، الموافق أول أيام الشهر الفضيل، أطلقت المدافع الرمضانية وسط إسطنبول مع حلول آذان المغرب، وحضر إطلاق المدفع، مسؤولون محليون، منهم رئيس بلدية الفاتح مولود أويصال، ووالي مدينة إسطنبول واصب شاهين.

ويتولى الجيش التركي مسؤولية إطلاق المدافع الرمضانية، إيذانا بحلول موعدي الإمساك والإفطار، ومع الحفاظ على الموروث العثماني، بات المدفع الرمضاني من أبرز مظاهر شهر الصيام في المدينة العثمانية العريقة، ويحرص المواطنون على حضور ومتابعة الحدث بشكل مستمر.

في إسطنبول مدافع رمضانية تستحضر الموروث العثماني

ويستعد الشعب التركي بداية من يوم 15 رمضان، لدخول جامع الخرقة الشريفة في مدينة إسطنبول، ويقال إن فيه مكانا يحتفظ بداخله بالخرقة النبوية التي أحضرها السلطان سليم لإسطنبول بعد فتوحاته في الشرق الإسلامي عام 1516، ولا يسمح في أيام السنة العادية بزيارة ذلك المكان.

ويتدفق أكثر من مليون تركي من مختلف الولايات على جامع "الخرقة الشريفة" بمنطقة الفاتح في إسطنبول لرؤية "البردة" التي يقال إن النبي محمد عليه السلام كان يرتديها ليلة الإسراء والمعراج. كما تنتشر طيلة أيام الشهر الدروس الدينية في المساجد، مع قراءة القرآن، وهي من المظاهر الرمضانية السائدة والمهمة لدى الأتراك.

ومن العادات التي تم إحيائها خلال شهر رمضان إنارة مآذن الجوامع، وربطها ببعض اللافتات الضوئية التي تحمل عبارات دينية، وتبقى مضيئة حتى موعد الفجر، كما يزين كثير من الناس شرفات منازلهم بالأهلة والنجوم. ويتم إضاءة المساجد عن طريق حرفيو "المحيا" الأتراك، محافظين بذلك على عادة عثمانية مستمرة منذ 450 عاما.

إضاءة المساجد باللافتات خلال شهر رمضان في تركيا

ومن العادات التي يختص بها الأتراك خلال رمضان، قولهم مع بداية النصف الأول "مرحبا يا رمضان"، وتكتب بهذه الطريقة "MERHABA YÂ ŞEHRİ RAMAZAN"، وقولهم مع حلول النصف الثاني منه "الوداع يا شهر رمضان"، وتكتب بالتركية على هذه الطريقة "ELVEDA YÂ ŞEHRİ RAMAZAN"، ومن الأمور التي يحرصون عليها أيضا "صلاة التسابيح" وهم يؤدونها في الأيام الأخيرة من رمضان، أو ليلة العيد، وفي ليلة القدر يقرؤون القرآن، ويؤدون المدائح النبوية.

أتراك يؤدون صلاة التسابيح في رمضان

رمزية إسطنبول

لا تتوقف رمزية إسطنبول السياسية والاجتماعية في حياة الشعب التركي، وتمتد إلى هويتهم الدينية الإسلامية، كونها عاصمة الخلافة العثمانية التي حكمت العالم الإسلامي لقرون طويلة.

ومنذ مئات السنين يُقبل الأتراك في هذا الشهر على الاستماع لقراءة القرآن بشكل يومي من قصر (توب كابي) الباب العالي سابقا، الذي كان يعد مركز حكم السلاطين العثمانيين، وتستمر القراءة في هذا القصر دون انقطاع في ليل أو نهار ويستمر الأمر على هذا المنوال طيلة أيام الشهر الكريم.

قراءة القرآن من قصر توب كابي بإسطنبول

ويعتبر "المسحراتي" من العادات العثمانية المستمرة في تركيا، وهو يطوف البلدات والمدن التركية في رمضان، وما زالت هذه المهنة الرمضانية منتشرة في غالبية المناطق التركية حيث يجول في الأزقة مع وقت السحور مصحوبا بطبلته.

مجموعة من المسحراتية يجوبون شوارع إسطنبول

ومن خلال العودة إلى الجذور التركية للآباء والأجداد، في شهر رمضان، يأتي تطلع الدولة إلى نفوذ أوسع في العالم الإسلامي، وذلك من خلال قوتها الناعمة عبر الجمعيات الخيرية، والمؤسسات الإنسانية والإغاثية التابعة للدولة، والتي  تقوم بتقديم مساعدات عابرة للحدود، لتؤكد على أن تركيا الحالية تتمتع بقوة وارتباط وثيق بمحيطها الجغرافي والديني.

الهوية الثقافية

الدكتور عطية عدلان أستاذ الفقه وأصوله والسياسة الشرعية بجامعة المدينة المنورة سابقا قال لـ "الاستقلال" بدا واضحا أن الدولة التركية منذ أن نعمت بحكم العدالة والتنمية وهي تتجه بخطى حثيثة نحو تراثها الحضاري وهويتها العثمانية، وهذا التوجه في الحقيقة كانت تنتظره تركيا كبلد إسلامي أصيل حكم العالم بالإسلام أكثر من نصف قرن من الزمان.

عدلان استشهد بما تنبأ به صمويل هنتنجتون على استحياء كان له ما يبرره عندما قال في كتابه صدام الحضارات بأن "تركيا إذا أعادت تعريف نفسها فسوف تجد في تراثها ما يمنحها منزلة أفضل مما ترجوه بتسولها هوية الاتحاد الأوروبي.

مضيفا: "لعل ما أشار إليه أحمد داود أوغلو في كتابه العمق الإستراتيجي كان استجابة لحاجة الأمة التركية للعودة إلى هويتها الثقافية، حيث قرر أن الهوية الثقافية لكل أمة ضرورية لصناعة تحول حضاري متين".

كان للرئيس أردوغان أثر عملي بارز في هذا الاتجاه وذلك عبر 3 محاور أساسية، حسب عدلان، الأول إتاحة الحرية الحقيقية للجميع؛ لكونها المناخ المناسب لنمو الخير وازدهار الحق والعدل، فلم يخب أحد راهن على الحرية الحقيقية قط.

الثاني: إحياء الخطاب الإسلامي الرشيد، الذي بدا واضحا في كثير من المسلسلات والأفلام التاريخية بل وبدا في خطابات الزعماء أنفسهم في مناسبات مختلفة، والثالث: التشجيع على التدين بفتح مدارس إمام خطيب وتجديد المساجد والآثار الإسلامية وغير ذلك.

الكلمات المفتاحية