تحول مفاجئ.. لماذا تخلت إدارة ترامب عن شرط ترحيل المقاتلين الأجانب في سوريا؟

"سيبقى هذا المسار موضع جدل ويجب التعامل معه بحذر"
في خطوة بدت صادمة لكثيرين، تحوّلت واشنطن من الإصرار على ترحيل المقاتلين الأجانب من سوريا إلى القبول بدمج بعضهم في الجيش السوري.
وتتبع المحاضر في الأمن الدولي بكلية كينغز في لندن والأستاذ المساعد في جامعة جونز هوبكينز الأميركية، روب جايست بينفولد، الخلفيات السياسية والأمنية لهذا التحول المفاجئ، محللا أبعاده المعقدة وتداعياته المحتملة على مستقبل سوريا.
وفي مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، قال بينفولد: إن "شهر مارس/آذار 2025 كان لحظة مفصلية في مسار الانتقال السياسي في سوريا، لكن لأسباب سلبية".
وذكر أن "البلاد شهدت خلال أيام قليلة أعمال عنف واسعة راح ضحيتها مئات المدنيين، وفقا لشهادات شهود عيان تحدثوا عن تورط عناصر لم يكونوا سوريين، كما ظهر من لباسهم ولهجاتهم".
تحول مفاجئ
وفي هذا السياق، جاء التحول المفاجئ في موقف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن المقاتلين الأجانب في سوريا ليثير تعجب الكثيرين.
فترامب وسلفه جو بايدن كانا قد ربطا الانخراط مع الحكومة السورية برئاسة أحمد الشرع باتخاذها خطوات لاحتجاز أو ترحيل آلاف المقاتلين الأجانب المتبقين في البلاد.
لكن المبعوث الأميركي الجديد إلى سوريا، توم باراك، أعلن أخيرا أن واشنطن لم تعد تطالب الشرع بترحيل هؤلاء المقاتلين، بل باتت منفتحة على خيار دمجهم في صفوف الجيش.
ويرى منتقدون أن “المقاتلين الأجانب في سوريا يتبنون العنف، ولا يشكّلون خطرا على تعافي البلاد فحسب، بل يهددون أيضا الأمن القومي الأميركي”. بحسب بينفولد.
وأفاد بأن “ما حدث في مارس 2025 يعطي لهذه الانتقادات وجاهة، ومع ذلك، فإن هذا الطرح يتعامل مع قضية معقّدة بقدر من التبسيط المخلّ”.
ويرى بينفولد أن “بعض هؤلاء المقاتلين يمكن، بل يجب، دمجهم في الجيش السوري، فيما ينبغي استبعاد آخرين، وتحقيق هذا التوازن هو السبيل الوحيد لضمان استقرار الدولة السورية وتعزيز أهداف واشنطن طويلة المدى في مكافحة الإرهاب”.
وقال: "اليوم، تعاني الحكومة السورية من إنهاك شديد ولا تملك القدرة على نزع سلاح كل الجماعات المسلحة داخل البلاد.. وبدلا من ذلك تحتاج إلى استيعاب المليشيات الأقل تطرفا ضمن هياكل الدولة، ما يتيح لها تركيز جهودها في مواجهة الجماعات الأكثر خطورة وتشددا".
وأكد بينفولد أنه "لا سبيل إلى منع تكرار أحداث مأساوية كتلك التي شهدها شهر مارس سوى عبر هذا المسار".
وفي صلب التحوّل الأخير في سياسة ترامب، يبرز نحو 3500 مقاتل أجنبي ينتمون إلى "الحزب الإسلامي التركستاني" (TIP)، والذين سيسمح لهم بالاندماج في القوات المسلحة السورية.
ويُعدّ هذا الحزب فرعا سوريا لجماعة جهادية عابرة للحدود، يتكوّن معظم عناصرها من المسلمين الإيغور، وقد شكّل على مدى سنوات قوة قتالية أساسية تابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، وفق بينفولد.
وذكر أن "مقاتلي الحزب خاضوا معارك إلى جانب هيئة تحرير الشام ضد كل من تنظيمي القاعدة والدولة، ولا توجد مؤشرات على تورط الحزب في موجات العنف الطائفي التي شهدتها البلاد خلال العام 2025".
القيمة الإستراتيجية
وبعيدا عن حالة "الحزب الإسلامي التركستاني"، لا تزال مبررات دمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري قائمة بقوة، وفق الكاتب.
السبب الأول يتعلق بالجانب اللوجستي، فالمقاتلون الأجانب في سوريا لا يملكون مكانا يذهبون إليه، فبلدانهم الأصلية ترفض عودتهم، وكثير منهم -من بين نحو خمسة آلاف مقاتل أجنبي- يعيشون في سوريا منذ أكثر من عقد.
وتزوّج بعضهم من نساء سوريات وأنجبوا أطفالا هناك، ولهذا فإن مطلب واشنطن بترحيلهم لم يكن يوما واقعيا، بحسب المقال.
أما السبب الثاني، فيرتبط بالقدرات المحدودة للحكومة السورية.
وبالمقارنة، فإن ما يسمى بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، و"الجيش الوطني السوري"، يمتلكان عددا أكبر من المقاتلين.
وقال: "قد تكون هذه المشكلة ناتجة عن خيارات الحكومة الجديدة نفسها، لكنها تظل تحديا قائما.. فحتى لو أرادت ذلك، فإن حكومة الشرع تفتقر إلى القدرة على تنفيذ حملة واسعة لنزع سلاح آلاف المقاتلين الأجانب ذوي الخبرة القتالية واحتجازهم".
السبب الثالث هو أن الحكومة ترى في بعض المقاتلين الأجانب عناصر ذات قيمة إستراتيجية، فإلى جانب الحزب الإسلامي التركستاني، عيّن الرئيس الشرع، الأردني "عبد الرحمن حسين الخطيب" قائدا للحرس الجمهوري، والمواطن التركي "عمر محمد جفتشي" قائدا لفرقة دمشق في الجيش السوري.
وقد أثارت هذه التعيينات الكثير من التساؤلات، لكنها تستند إلى منطق محسوب -وفق المقال- فكونهم أجانب يجعلهم بلا قاعدة دعم محلية، ما يقلل من احتمال أن يقودوا انقلابا ضد السلطة، وليس من قبيل المصادفة أن يسند إليهم "الشرع" قيادة القوات المسلحة في العاصمة دمشق.
وقال بينفولد: إن “الدمج سيتطلّب قدرا من الصبر والبراغماتية، لا مقاربة موحّدة تصلح للجميع”.
ولفت إلى أنه “كل ذلك يعني أن التحديات الأكبر التي تواجه الشرع لم تأت بعد، فهناك أكثر من 130 جماعة مسلحة، محلية وأجنبية، دخلت في محادثات مع النظام الجديد بشأن الاندماج”.
دبلوماسية حذرة
وقال بينفولد: إن "سماح نظام بشار الأسد المخلوع للمليشيات المتمردة بتغيير صفوفها، لتعود تلك الجماعات نفسها إلى صفوف المتمردين، يجب أن يدفع الشرع إلى التفكير مليا".
وأضاف "على الولايات المتحدة، بدورها، أن تطالب بتوزيع مقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني على صفوف الجيش ليكونوا قدوة يُحتذى بها في دمج الجماعات الأخرى".
واستطرد: “ثم هناك المليشيات التي لا ينبغي دمجها بأي حال، وتشمل الجهاديين العابرين للحدود، والمقاتلين الموالين لإيران، وبقايا نظام الأسد، إلى جانب مهربي المخدرات والشبكات الإجرامية”.
وشدد بينفولد على أن "نزع سلاح هذه الجماعات يتطلب وجود دولة سورية فاعلة وجيش منضبط ومتماسك".
ورأى أن “السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو أن تعزز الدولة ما لديها من موارد محدودة عبر دمج الجماعات المسلحة الأقل إشكالية في البلاد”.
واستدرك أن “التحديات الأشد ستكون في التعامل مع المليشيات الموالية للحكومة التي لا تزال خارج نطاق سيطرة دمشق، وبعضها ورد اسمه في تقارير عن حادثة مارس”.
وأكد الباحث "هنا تبرز الحاجة إلى دور أميركي نشط، يبدأ بالمطالبة بعدم دمج المتورطين في سفك الدماء، ويمر بضمان مثولهم أمام العدالة، ويتطلب ذلك دبلوماسية حذرة".
وقال: إن "السماح للشرع بدمج بعض المقاتلين الأجانب في الجيش السوري ليس سوى جزء من عملية أوسع لإصلاح المؤسسة العسكرية وبسط سيادة الدولة".
وأردف: "سيبقى هذا المسار موضع جدل، ويجب التعامل معه بحذر، غير أن تبنّي واشنطن نهجا أكثر واقعية في هذا الملف، وفي ملف تخفيف العقوبات أيضا، من شأنه أن يخدم أمن كل من الولايات المتحدة وسوريا".
وختم بينفولد مقاله قائلا: "إدارة ترامب بدأت، ولو متأخرا، بالتعامل مع سوريا القائمة فعليا، بدلا من انتظار سوريا المثالية التي لن تأتي، وبقبول دمج مقاتلي الحزب الإسلامي التركستاني في الجيش السوري، تكون الإدارة قد اختارت أقل الخيارات سوءا".