من الحياد إلى الشراسة.. لماذا تعمل فنلندا على تأسيس "أقوى جيش في أوروبا"؟

منذ شهر واحد

12

طباعة

مشاركة

ثمة تحول جذري يلاحظه موقع "لينتا" الروسي في سياسات فنلندا الدفاعية منذ انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” في أبريل/ نيسان 2023. مشيرا إلى انتقالها من الحياد إلى الانخراط الكامل في منظومة الدفاع الجماعي للحلف. 

وأفاد الموقع بأن هذا التغيير جاء كردٍّ مباشر على التهديدات الأمنية المتزايدة في أوروبا، خاصة الحرب الروسية في أوكرانيا، التي دفعت فنلندا إلى تعزيز قدراتها العسكرية وتحديث بِنْيَتها الدفاعية. 

وأشار إلى أن فنلندا، من خلال مشاركتها في تدريبات الناتو وتعاونها الوثيق مع الدول الأعضاء، أصبحت قوة عسكرية فاعلة، خاصة في منطقة القطب الشمالي ذات الأهمية الإستراتيجية المتزايدة. 

وفقا للموقع، فإن هذا التحول يشكّل تحديا مباشرا لروسيا، ويؤكد على دور فنلندا الجديد كلاعب رئيس في الأمن الأوروبي والأطلسي.

نحو المواجهة

في الرابع من أبريل/ نيسان 2023، أصبحت فنلندا رسميا عضوا في حلف شمال الأطلسي، منهية بذلك سياسة الحياد التي التزمت بها لعقود طويلة. 

وعلى عكس معظم الدول الجديدة في الناتو، تمتلك فنلندا أحد أكثر الجيوش جاهزية في أوروبا، كما أنه قادر على العمل بشكل مستقل ومواجهة تهديدات متنوعة، بما في ذلك العمليات العسكرية في القطب الشمالي. 

وفي هلسنكي، تعد روسيا التهديد الرئيس لأمن البلاد، حسب التقرير.

وردا على تحركات فنلندا، أعادت روسيا تشكيل المنطقة العسكرية في لينينغراد، وأعلن الرئيس فلاديمير بوتين أخيرا عن زيادة الوجود العسكري الروسي في القطب الشمالي.

ويلفت التقرير إلى أن "فنلندا، التي كانت سابقا جزءا من الإمبراطورية الروسية، كانت تحافظ على موقف حيادي لعقود، وتُعد من أكثر الدول الأوروبية ودية تجاه روسيا".

وأردف: "اعتاد سكان المناطق الروسية القريبة من الحدود، خاصة سانت بطرسبورغ، على زيارة فنلندا للتسوق، وبعضهم امتلك منازل صيفية هناك. بالمقابل كان الفنلنديون يزورون روسيا لشراء البنزين والكحول بأسعار أرخص".

وتابع: "حتى العلاقات بين قادة البلدين كانت ودية؛ حيث شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عدة مرات في مباريات هوكي الجليد مع الرئيس الفنلندي السابق ساولي نينيستو".

واستدرك: "لكن تغير كل شيء مع اندلاع الحرب في أوكرانيا؛ حيث اتخذت فنلندا موقفا صارما تجاه روسيا، يقارن بمواقف دول البلطيق وبولندا".

وتمثل هذا الموقف الصارم في عدد من الإجراءات؛ حيث انضمت إلى الناتو، ودعت لتشديد العقوبات على روسيا، وأغلقت حدودها بالكامل مع روسيا. 

وأوضح التقرير الروسي أن "الحياد التقليدي استُبدل بذاكرة حرب الشتاء (1939–1940)، وبدأت فنلندا ترى في روسيا تهديدا وجوديا".

وفي هذا السياق، يقول الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب: "الحرب العدوانية وغير القانونية التي تشنها روسيا على أوكرانيا لا تزال مستمرة منذ ثلاث سنوات تقريبا. القضية الأوكرانية هي قضيتنا".

علاقات تاريخية

من جانب آخر، يلفت التقرير إلى أن "العلاقات الجيدة مع الاتحاد السوفيتي ثم مع روسيا كانت مفيدة جدا لفنلندا لعقود".

وأشار إلى أن "العلاقات الاقتصادية بين البلدين تطورت بقوة منذ توقيع اتفاقية الصداقة والتعاون المتبادل عام 1948؛ حيث زوّد الاتحاد السوفيتي فنلندا بالنفط الرخيص، وساعد في بناء محطة طاقة نووية، ونقل إليها تقنيات متقدمة".

وأردف: "بفضل هذه العلاقات، خرجت فنلندا سريعا من خراب ما بعد الحرب وأصبحت واحدة من أكثر دول أوروبا تطورا، مع قاعدة صناعية قوية".

وأضاف: "كما أن هذه العلاقة أسهمت في تأسيس قاعدة صلبة للمجمع الصناعي العسكري الفنلندي. ففي ذروة الحرب الباردة، ومن خلال علاقاتها الدافئة مع الاتحاد السوفيتي، بنت فنلندا ترسانة عسكرية ضخمة".

ولفت إلى أن "القوات الفنلندية لا تزال تحتفظ بعدد من المركبات المدرعة السوفيتية، من دبابات ومركبات مشاة قتالية وآليات سحب وإخلاء".

وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واصلت فنلندا شراء الأسلحة الروسية؛ ففي 1996 اشترت أنظمة الدفاع الجوي "بوك-إم1"، وفق التقرير.

بالإضافة إلى ذلك، فإن بندقية فالمت الهجومية الفنلندية Rk. 62، التي لا تزال في الخدمة، هي في الأساس نسخة مرخصة من بندقية كلاشينكوف الروسية.

تغير جذري

ويضيف التقرير: "أصبحت اليوم قوات الدفاع الفنلندية بمثابة (حديقة حيوانات) من المعدات العسكرية الأميركية والسويدية والألمانية والكورية الجنوبية، بالإضافة إلى المعدات المحلية".

وتابع: "وفي الوقت نفسه، لا تقتصر فنلندا على استخدام مركبات باتريا وXA-180 في تسليحهم فحسب، بل تزود دولا أوروبية أخرى بها بنشاط، بما في ذلك أوكرانيا".

وأوضح: "حيث قررت فنلندا والسويد عام 2023 إعادة تسليح جيشيهما ببنادق من إنتاجهما الخاص، طُوّرت بناء على الأنظمة الأميركية AR-10 و AR-15 وتتوافق مع معايير الناتو".

وفي هذا السياق، يقول الرئيس الفنلندي ألكسندر ستوب: "تتمتع فنلندا بإمكانيات ممتازة، دائما أذكّر شركاءنا أننا نملك 280 ألف جندي احتياطي يمكن استدعاؤهم وقت الحرب".

وأشار التقرير إلى أن الطائرات العسكرية لا تزال تمثل محورا مهما؛ حيث تدرس فنلندا حاليا شراء مقاتلات "غريبن" السويدية من الجيل الرابع، والمقاتلات الأميركية إف-35 من الجيل الخامس. واللافت أن الأخيرة -أي F-35- يمكن تزويدها بأسلحة نووية.

وإلى جانب التسلح الحديث، تفخر فنلندا بامتلاكها جيشا عالي الكفاءة؛ حيث إن "ذاكرة (حرب الشتاء) ومواجهة خصم أقوى بكثير رسخت إستراتيجية قائمة على جيش صغير، ولكنه مدرب ومتماسك".

وعلى عكس معظم الدول الأوروبية، أوضح التقرير أن "فنلندا لا تزال تطبّق الخدمة العسكرية الإلزامية".

وتابع: "حيث يؤدي حوالي 21 ألف شاب الخدمة كل عام، وزاد العدد منذ بداية الحرب في أوكرانيا. وفي حال التعبئة، يمكن استدعاء ما يقارب مليون جندي احتياطي".

وذكر التقرير أن فنلندا باتت أكثر انخراطا في نشاطات حلف الناتو منذ انضمامها إليه؛ ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شاركت لأول مرة في تدريبات نووية للناتو "ستيد فاست نون" فوق بحر الشمال.

كما شهدت "لابلاند" تدريبات مدفعية ضخمة تحت اسم "ضربة البرق 24"، حيث نقل الجنود الفنلنديون خبراتهم في القتال بالقطب الشمالي لحلفائهم.

كذلك، أعلنت فنلندا عن بناء قاعدة عسكرية للناتو قرب حدودها الشرقية. وسيُنشأ مقران جديدان للناتو: أحدهما لقيادة القوات البرية، والآخر في القطب الشمالي سيكون جاهزا بحلول 2026 لاستقبال آلاف الجنود.

إضافة إلى ذلك، تشارك فنلندا أيضا في مشروع "جدار الطائرات المسيّرة"، مع خمس دول أخرى مجاورة لروسيا، لتعزيز المراقبة الحدودية.

بدوره، صرح وزير الدفاع الفنلندي، أنتي هاكينن، قائلا: "سنعزز قدرتنا على مقاومة الضغوط العسكرية والعمليات طويلة الأمد".

الشراكة مع أميركا

وشدد التقرير الروسي على أن العلاقة الدفاعية بين فنلندا والولايات المتحدة أصبحت "إستراتيجية"؛ ففي يوليو/ تموز 2023، وقعت الدولتان اتفاقا يمنح القوات الأميركية حق الوصول إلى 15 منشأة عسكرية فنلندية. وحينها، صرّح وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أنتوني بلينكن، قائلا: "سنعزز علاقاتنا الأمنية أكثر، وقواتنا ستتدرب معا بشكل أوسع وستصبح أكثر انسجاما داخل بنية الناتو".

وحسب التقرير، فإن "كل هذه الإجراءات موجهة في الأساس ضد التهديد القادم من روسيا". مشيرا إلى أن "الإجراءات لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل تشمل أيضا إعداد الشعب الفنلندي نفسيا"؛ ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 نشرت وزارة الداخلية الفنلندية دليلا للمواطنين حول ما يجب فعله في حالة اندلاع الحرب، يتضمن: تخزين الطعام والمستلزمات الضرورية، وخطط الإخلاء، وإجراءات الحماية المدنية.

ويؤكد البروفيسور كونستانتين خودولي، من جامعة سانت بطرسبورغ: "أصبحت الحكومة الفنلندية تُعِد روسيا تهديدا رئيسا، واستطاعت إقناع جزء كبير من الشعب بذلك".

إضافة إلى ذلك، ذكرت الصحيفة أن "فنلندا تمتلك واحدة من أوسع شبكات الملاجئ في العالم، إذ يُلزم القانون منذ خمسينيات القرن الماضي ببناء ملاجئ في كل مبنى سكني وتجاري". 

لافتة إلى أن "هذه الملاجئ تُفحص وتُحدث باستمرار، وتكفي لحماية كامل سكان البلاد تقريبا".

وأردف: "وما يميزها أنها تُستخدم أيضا في أوقات السلم كصالات رياضية ومواقف سيارات وملاعب وكافتيريات، وحتى ملاعب كرة قدم".

الرد الروسي

في المقابل، لا تمر هذه التحركات دون رد في موسكو؛ حيث وصف السفير الروسي لدى فنلندا، بافيل كوزنتسوف، الوضع بأنه "هوس عسكري". وقال: إن "الولايات المتحدة ترى في فنلندا مسرحا محتملا للحرب، خاصة بعد تحليق قاذفات B-52 النووية فوقها".

وأفادت الصحيفة الروسية بأن موسكو اتخذت إجراءات مضادة؛ مثل إعادة إنشاء المنطقة العسكرية في لينينغراد، وإعلان بوتين عن تعزيز الوجود الروسي في القطب الشمالي.

كذلك صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "لم تكن هناك مشاكل. لكن الآن ستبدأ؛ لأننا سنعيد تشكيل المنطقة العسكرية هناك وسنركز قوات جديدة".

ويتوقع التقرير أن فنلندا قد تذهب أبعد من ذلك، متحدثا عن احتمالية انسحابها من معاهدة أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد، مما قد يؤدي إلى إنشاء حقل ألغام على الحدود الروسية.

وبحسب البروفيسور كونستانتين خودولي، فإن "الشعب الفنلندي يدعم زيادة الإنفاق الدفاعي، ولن يواجه المسؤولون صعوبة في ذلك".

ويعقب التقرير: "لكن رغم التوتر، فإن إنهاء الحرب في أوكرانيا قد يفتح الباب أمام نوع من التقارب المحدود".

وهنا يقول خودولي: "إذا توقفت العمليات القتالية، فقد يُعاد فتح الحدود وتخفيف القيود، وإن كانت فنلندا ستبقى حذرة جدا".

حتى الرئيس الفنلندي، ألكسندر ستوب، ألمح إلى أن العلاقات قد تستأنف في يوم من الأيام، فقال: "علينا أن نكون مستعدين معنويا لاحتمال استئناف العلاقات السياسية في وقت ما".

لكن يرجح التقرير أن "هذا الوقت لن يأتي قريبا؛ حيث تواصل فنلندا شحذ (سيوفها) في مواجهة جارتها الشرقية".