ضاعفت الوفيات.. كيف تحوّلت المستشفيات الأهلية إلى مصدر تمويل للمليشيات بالعراق؟

يوسف العلي | منذ ٨ أشهر

12

طباعة

مشاركة

منذ أكثر من ثلاثة عقود يشهد قطاع الصحة في العراق، وضعا مأساويا جرّاء الحروب التي خاضتها البلاد، والحصار الاقتصادي الدولي عليه بين عامي 1991 و2003 بسبب غزو الكويت، ثم الاحتلال الأميركي والانفلات الأمني الذي تبعه في مختلف المدن.

كل هذه الظروف فتحت الباب أمام المستشفيات والمراكز الصحية الأهلية لتحل محل المؤسسات الحكومية، رغم الفاتورة العالية التي يدفعها المرضى لقاء تلقي العلاج، على يد أطباء معينين حكوميا، لكن معظم جهودهم منصبة على "الأهلية" لما لها من مردود مالي كبير. 

وفي ظل تعاطي المراكز والمستشفيات الأهلية في عملها على مبدأ الربح، فإنها تشكل فرصة استثمارية لأصحاب رؤوس الأموال بصرف النظر عن تخصصهم، ولا سيما الأحزاب النافذة التي باتت تمتلك العديد من هذه المؤسسات وتعمل في مجال الطب والرعاية الصحية.

تغول المليشيات

رغم التخصيصات المالية الكبيرة التي رصدتها الحكومات العراقية منذ عام 2003 وحتى اليوم لإصلاح الواقع الصحي لبلد تجاوز تعداده السكاني 43 مليون نسمة عام 2023، فإن انتشار المستشفيات الأهلية أصبح علامة فارقة في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي.

ويعزو المستثمر في المجال العقاري، علي الشمري، أسباب انتشار المستشفيات الأهلية إلى تغول الأحزاب والمليشيات على هذا القطاع المهم والحيوي في بلد مثل العراق يسافر منه مئات الآلاف سنويا إلى خارج البلد لتلقي العلاج في بلدان مثل الهند وتركيا والأردن.

وكشفت تقارير حكومية أن تكاليف سفر العراقيين لتلقي العلاج في الخارج تقدر بمبلغ يتراوح بين 750 مليونا إلى مليار دولار سنويا بسبب تهالك المستشفيات العراقية وسوء الخدمة فيها وخلوها من المعدات الطبية المتطورة، حسبما ذكرت قناة "الرافدين" العراقية في 28 أغسطس/ آب 2023.

وأوضح الشمري لـ"الاستقلال" أن "قطع الأراضي المميزة في المناطق الراقية بالعاصمة بغداد، والتي يتجاوز فيها سعر المتر الواحد 10 آلاف دولار، يقدم على شرائها أشخاص لهم ارتباطات بأحزاب ومليشيات نافذة في البلد وبعد شهر أو شهرين يشرعون في بناء مستشفيات متطورة جدا".

ولفت إلى أن "هذه المستشفيات يستقطبون إليها كوادر طبية متميزة، فتشهد في معظمها نجاحا سريعا، وهذا الشيء باعتقادي يصعب على المستثمرين من غير دائرة المليشيات والأحزاب، فالتراخيص تأخذ وقتا طويلا في بناء مثل هذه المشاريع، إضافة إلى أمور كثيرة أخرى تعيق إنجازها بسهولة".

من جهته، قال المواطن العراقي، محمد أحمد، أحد سكان العاصمة لـ"الاستقلال" إنه "اضطر إلى أخذ زوجته لتلد مولودها في أحد المستشفيات الأهلية في بغداد لأن طبيبتها فرضت عليها ذلك، بحجة أن كل شيء متوفر فيها، وفرصة سلامة الطفل ووالدته أكثر لو حصل طارئ لا قدر الله".

وأوضح أحمد أن "العملية القيصرية في هذه المستشفى يعادل سعرها ثلاثة أضعاف ما هي عليه في المستشفيات الحكومية".

وأردف: "عندما وضعت المولود قالوا يجب وضعه على جهاز الإنعاش ليوم كامل، وهذا أيضا تطلب مبلغا مرتفعا، ولا نستطيع رفض أي شيء لأنهم يؤكدون أن هذا يتعلق بسلامة الطفل، رغم أن صحته كانت جيدة".

 وأشار إلى أن "هذا الأمر ينطبق على باقي الحالات الطبية، فالطبيب المختص يفضل العمل في مثل هذه المستشفيات بحجة توفر كل شيء فيها، ويأخذ أجورا مرتفعة يذهب جزء منها إلى المستشفى نفسها"، متهما المتنفذين بـ"التعمد في إهمال القطاع الصحي الحكومي لإنعاش الاستثمار الأهلي".

ورأى أحمد أن "المستشفيات الأهلية عبارة عن مشاريع تجارية تدر أموالا ضخمة لمالكيها، والموضوع الإنساني بعيد كل البعد عنها، حتى وإن تدهورت الحالة الصحية للمريض، فإن المادة لديهم فوق أي تقدير".

تصاعد الوفيات

ورغم النفقات الكبيرة التي يتحملها المريض في ذهابه إلى المستشفيات والمراكز الصحية الأهلية لتلقي العلاج، لم يعد يأمن على حياته بعد تكرار حالات الوفيات في ظل غياب رقابة وزارة الصحة التي تعد المشرف المباشر على منح رخص هذه المؤسسات ومتابعة أدائها.

وقال عضو لجنة النزاهة البرلمانية، باسم خشان، إن "واقع أغلب المستشفيات الأهلية في العراق يحتاج إلى إعادة نظر جدية من وزارة الصحة بصفتها المسؤول عن دفع إدارتها للالتزام بالمعايير العامة".

وسجّل خشان خلال تصريح صحفي لوكالة "بغداد اليوم" العراقية في 25 أغسطس/آب 2023، العديد من الملاحظات على عمل المستشفيات الأهلية أبرزها، آليات منح الإجازات (الترخيص) والتي تحتاج إلى وقفة من أجل التدقيق والتحقيق.

وفي ملاحظة ثانية، أكد خشان أن "تكرار حالات الوفيات في المستشفيات الأهلية، أمر مثير للقلق، وأنه ليس لدينا قائمة بالأعداد على مستوى البلاد".

وبين أن "كل حالة تحصل يجب التحقيق بها وبيان نتائجها للرأي العام والاستجابة لشكاوى ومناشدات الأهالي في كل المحافظات".

من جهته، قال رئيس مركز "العراق لحقوق الإنسان" علي العبادي إنه "عند فقدان الأمل بالنهوض بالواقع الصحي في المؤسسات الحكومية، توجه العديد من المواطنين الى المستشفيات الأهلية للحفاظ على حياتهم، لتكمل الأخيرة سلسلة المساوئ الموجودة في القطاع الصحي بالعراق".

ورصد المركز العراقي خلال بيان له في 22 أغسطس 2023، مساوئ عدة للمستشفيات الأهلية في العراق، داعيا إلى "تطوير القطاع الصحي سواء كان حكوميا أم خاصا، لكن وفق قاعدة ثابتة من الأسس الرصينة التي تعتمد في مضمونها العام تقديم خدمات علاجية تليق بالمواطن".

وأوضح العبادي أن "المركز رصد ضعف الرقابة على المستشفيات الخاصة مع وجود شكاوى تتحدث عن أخطاء طبية تقود بعضها إلى الوفاة، لكن للأسف يجرى السكوت عنها وإخفاؤها بسبب نفوذ أصحاب المستشفى".

وأشار إلى أن "المستشفيات تحولت إلى أشبه بمجمعات تجارية يحاصرها الجشع"، مؤكدا أن "أغلب المرضى المتضررين يتم تجاهل شكواهم من قبل الجهات المعنية".

ووجه رئيس المركز العراقي "دعوة إلى وزير الصحة مهدي الحسناوي، ولجنة الصحة النيابية لإجراء تحقيق عميق في جميع الأخطاء الطبية وحالات الوفيات التي تحصل في المستشفيات الأهلية".

وشدد العبادي على ضرورة أن "تخضع المستشفيات الأهلية إلى شروط محددة من أجل العمل، ولا سيما مع انتشار المستشفيات بشكل غير مسبوق في المحافظات".

قطاع متهالك

وعلى صعيد مطابقة مباني المستشفيات الأهلية للضوابط والمعايير لإنشاء مثل هذه المؤسسات الصحية، قال رئيس لجنة الصحة البرلمانية، ماجد شنكالي، إن "هناك 130 مستشفى أهلية واستثمارية في العراق غير صالحة بسبب صغر مساحتها.

وقال شنكالي خلال تصريح لوكالة "شفق نيوز" العراقية في 11 مارس 2023 إن "هذه المستشفيات الأهلية نتابعها من خلال عمل لجنة الصحة والبيئة النيابية، إذ إن هناك 95 مستشفى أهليا، وأيضا 35 مستشفى استثماريا أنشئ بالتعاون مع هيئة الاستثمار (حكومية)".

وأكد أن "هذه المستشفيات جميعها تحتاج إلى متابعة كبيرة، لأن الضوابط السابقة لإنشاء مستشفى حددت أن لا تقل مساحتها عن 600 متر مربع، وهذه المساحة صغيرة جدا، ويجب أن تحتوي على ساحات وحدائق، والكثير من الأمور الأخرى".

وشدد البرلماني العراقي على "ضرورة ألا تقل مساحة المستشفى عن 2500 متر مربع أو أكثر، ولكن لظروف خاصة وعدم وجود أراض داخل المدن جرى تشييد هذه المستشفيات، وهي في الحقيقة لا تلبي الطموح".

ويبلغ عدد المستشفيات الحكومية في العراق 260 مستشفى من أصل 450، والباقي كلها أهلية تتوزع بين جميع المحافظات العراقية، لكن العاصمة بغداد تضم العدد الأكبر بنحو 105 مستشفيات حكومية.

وفي 5 سبتمبر، صُنف العراق بالمرتبة الـ 79 عالميا، والـ 11 عربيا بين دول العالم بأفضل أنظمة الرعاية الصحية للعام 2023 من مؤشر الرعاية الصحية لمجلة "سي. إي. أو. وورلد" الأميركية.

وفيما يتعلق بالبنية التحتية الطبية والمهنيين، سجل "العراق 70.73 نقطة، وبما يتعلق توافر الدواء والتكلفة 52.88 نقطة، في حين سجل 64.43 نقطة فيما يخص جاهزية الحكومة، وفقا للمؤشر.

وتعليقا على ذلك، أرجعت لجنة الصحة البرلمانية أسباب تراجع وفشل أنظمة الرعاية الصحية في العراق، إلى سوء إدارة الملف الصحي، فضلا عن وجود شبهات فساد في الكثير الملفات التعاقدية التي تمس المواطن بشكل مباشر.

ونقلت قناة "البغدادية" العراقية في 6 ديسمبر، عن اللجنة، قولها إن "تطوير أنظمة الرعاية الصحية في العراق لا يحتاج إلى تشريعات، بل عمل حقيقي لتطوير هذا القطاع المهمل، وهذا ما لم تستطع الحكومات القيام به بسبب الفساد".

وقبل ذلك، وتحديدا في مايو/أيار 2023، صنّف موقع "نومبيو" الأميركي الذي يعنى بالمستوى المعيشي للدول، العراق في المرتبة الثالثة بأسوأ رعاية صحية في العالم.

وذكر الموقع في تقريره لعام 2023 أن "العراق جاء بالمرتبة الثالثة بأسوأ رعاية صحية بالعالم من أصل 94 دولة مدرجة بالجدول، حيث حصل على 43.46 نقطة".

وردا على ذلك، أكد وزير الصحة صالح الحسناوي، خلال كلمة له بالذكرة 75 لتأسيس منظمة الصحية العالمية في 23 مايو 2023، مضي العراق بتحقيق التغطية الصحية الشاملة، مشيرا إلى أن" الحكومة وضعت في أولوياتها الرعاية الصحية".