لتحقيق مكاسب سياسية.. هكذا تشل حكومة العراق مصالح ملايين المواطنين

في كل عام يكون العراق على موعد مع "أربعينية الإمام الحسين" أكبر مناسبة دينية شيعية يتوافد فيها الملايين من داخل البلاد وخارجها، والتي تقام بمدينة كربلاء في 20 صفر من كل عام هجري، والذي يوافق هذا العام 5 سبتمبر/ أيلول 2023.
ويحيي الشيعة في العالم الأربعينية (40 يوما بعد الوفاة)، بزيارة من يعتقدون أنه قبر حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسليم، الحسين بن علي بن أبي طالب، في كربلاء، التي قتل فيها مع أتباعه وأفراد عائلته عام 680 ميلاديا (61 للهجرة).
ملايين الزائرين
في آخر إحصائية لأعداد الزائرين إلى كربلاء العراقية، قال محافظ المدينة، نصيف الخطابي، خلال تصريح تلفزيوني في 3 سبتمبر 2023 إن "14 مليون زائر دخلوا المحافظة حتى 2 سبتمبر"، مؤكدا أنه "العدد الأضخم على مدار السنوات السابقة".
وأشار الخطابي إلى أن "رئيس الوزراء يشرف على خطط الزيارة بشكل مباشر عبر دائرة تلفزيونية"، مشيرا إلى "هيئة الحج وبتوجيه من رئيس الوزراء خصصت ألف حافلة لنقل الزائرين في المحور الجنوبي".
وأكد محافظ كربلاء "استنفار آليات جميع المحافظات لنقل الزائرين وبتوجيه من رئيس الوزراء"، لافتا إلى أن "هناك انسيابية عالية رغم الأعداد الكبيرة الوافدة إلى المدينة".
من جهته، قال رئيس هيئة المنافذ الحدودية العراقية اللواء عمر الوائلي، إن "أعداد الوافدين عبر المنافذ البرية والجوية تجاوزت الـ 3 ملايين ونصف المليون زائر"، مشيرا إلى أن "هناك انسيابية عالية بدخول وخروج الزائرين عبر المنافذ البرية والجوية".
وأضاف خلال بيان نشرته وكالة "بغداد اليوم" في 3 سبتمبر 2023: "نشهد تفويجا عكسيا وبواقع 150 ألف زائر مغادر في اليوم بمنفذ زرباطية"، مبينا أن "منفذ الشلامجة (في البصرة جنوب العراق) شهد دخول ما يقارب 800 ألف والمغادرة فيه بمستوى عالٍ".
وأشار إلى أن "منفذ الشيب (في محافظة ميسان جنوب العراق) شهد دخول 400 ألف زائر بينما منفذ المنذرية (في ديالى شرق البلاد) 350 ألف زائر حتى الآن، وأن مطار النجف شهد دخول نحو 180 ألف زائر".
وأوضح الوائلي أن "مجموع منافذ إقليم كردستان الثلاثة بلغ 100 ألف زائر منها 65 ألف زائر من منفذ حاج عمران (بمحافظة أربيل)"، مشيرا إلى أن "هناك تفويج عكسي للزائرين من منفذ زرباطية (في مدينة واسط شرق البلاد) وبواقع 150 ألف زائر في اليوم".
وفي السياق ذاته، قال المستشار الثقافي الإيراني في العراق غلام رضا أباذري خلال تصريح نقلته وكالة "فارس" الإيرانية في 4 سبتمبر، إن "3.5 ملايين زائر إيراني دخلوا إلى العراق وما زالت حركة المرور تتدفق بسلاسة عبر الحدود".
وأكد أباذري "ارتفاع نسبة الزائرين الإيرانيين بنحو 15 بالمئة، وأن السلطات العراقية وافقت على دخول الحافلات الإيرانية إلى مدينة كربلاء لغرض الزوار إلى منفذ مهران (زرباطية) الحدودي"، مشيرا إلى "التعاون الجيد للجانب العراقي في زيارة الأربعين الحسيني هذا العام".
شلل تام
وعن الأجواء التي يعيشها العراق خلال هذه الأيام، فإن الدوائر الحكومية والأسواق المحلية تشهد شللا شبه تام جراء قطع الطرق ونصب ما يعرف بـ"المواكب" (خيم لاستراحة الذاهبين إلى كربلاء سيرا على الأقدام) التي تنتشر على طول الطريق الواصل إلى المحافظة.
كما أنه في هذا الشهر من صفر ومحرم الذي قبله، تتوقف جميع مناسبات الفرح ولاسيما الزواج، ويتخوف سكان بغداد والمحافظات المختلطة وأهل السنة تحديدا من إقامة أي احتفال لأي مناسبة كانت كونه يعرّض حياتهم إلى الخطر، على تقدير أنها أشهر للحزن لدى الشيعة.
ويقول المواطن أحمد البدر من سكان محافظة بغداد، إن "الحكومة تسخر كل مواردها وآلياتها من حافلات وقطارات وحتى الطائرات من أجل خدمة الزائرين الشيعة في هذه المناسبة سواء داخل العراق أم خارجه".
وفي 26 أغسطس 2023، أعلنت شركة الخطوط الجوية العراقية (حكومية)، أنه "بالتزامن مع قرب حلول ذكرى أربعينية الإمام الحسين، تطلق باقة من العروض التشجيعية لعدد من القطاعات التي يقصدها الناقل الوطني".
وشملت الباقة التي خصصتها الخطوط الجوية العراقية، رحلات من بيروت إلى بغداد والنجف بسعر 50 دولارا فقط، ويستمر هذا العرض للمدة من 30 أغسطس وحتى 4 سبتمبر 2023.
وأكدت الخطوط الجوية العراقية خلال منشور لها في 3 سبتمبر 2023، على "فيسبوك" أنها "سخّرت إمكانياتها أرضا وجوا لخدمة الزائرين".
وأضاف البدر لـ"الاستقلال" أن "جميع المعاملات التي نريد المراجعة إلى الدوائر الحكومية لإنجازها تتوقف خلال هذه الأيام، سواء في دائرة الضرائب أو الطابو لنقل الملكية، والكل يقول لك راجعنا بعد الزيارة الأربعينية".
ولفت إلى أن "الجسور والشوارع المهمة في بغداد جرى إغلاقها بالكامل، وباتت حركة السير محدودة جدا ولا يمكن التحرك بالقرب من أماكن مرور السائرين إلى كربلاء على الأقدام".
وأكد البدر أن "خدمة هؤلاء الزائرين في العادة يكون من عهدة أبناء المناطق، لكن اللافت في الموضوع هو تسابق الأحزاب والحركات السياسية، لنصب المواكب وتقديم الطعام والشراب، وكأنهم يريدون التغطية على فسادهم وما سرقوه من قوت العراقيين طيلة عقدين من الزمن".
وأظهرت العديد من مقاطع الفيديو التي تناقلها ناشطون عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي تواجد عدد من السياسيين وقادة الأحزاب والمليشيات بين السائرين على الأقدام إلى كربلاء.
كلمة لسماحة السيد عمار الحكيم اعزه الله
— د.حــــيدر البرزنچــي (@Hber_iq) August 23, 2023
اثناء سيره مشياً من البصرة الى كربلاء المقدسة. pic.twitter.com/wpmM1kn865
تكميم الأفواه
وفي ظل نقص الخدمات التي يشهدها البلد، وجه عدد من الناشطين والإعلاميين تساؤلات إلى الحكومة العراقية عن أسباب خدمة هذه الأعداد الكبيرة بدون مقابل، ولاسيما الإيرانيين، التي تقطع بلادهم الأنهار عن العراق وتغير مسارها منذ عام 2003 وحتى اليوم.
وفي 2 سبتمبر 2023، اعتقلت السلطات العراقية، أحد الناشطين بعد مقطع فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي انتقد فيه المبالغة في خدمة القادمين من إيران، وتسخير كل الإمكانيات الحكومية لهم.
�� شخص عراقي كال رأيه: ايران كاطعة علينة الماء و الزوار الإيرانيين هواي منين نشربهم
— العراق برس (@aliraqplus) September 2, 2023
فتتحرك صفحات التحريض الوهمية التابعة للفصائل الإرهابية
♦️ فيتحرك الامن الوطني و يعتقله‼️
على ما يبدو اي انتقاد لايران في هذه الفترة هو السجن او القتل! اسلوب قمعي و دكتاتوري تمارسه حكومة الإطار. pic.twitter.com/c3PFzf3292
وكذلك رفع المحامي العراقي أحمد شهيد مرهون، دعاوى قضائية ضد اثنين من الإعلاميين العراقيين، نزار الفارس، ومنال المعتصم، بتهمة "الاستهزاء والتشفي بزوار الإمام الحسين".
وجاء في نص الدعوى التي نشرتها وكالة "شفق نيوز" العراقية في 4 سبتمبر، أن "(نزار الفارس) وعبر صفحته في فيسبوك نشر كلاما في غاية الأهمية والخطورة تطرق فيه بالإساءة والسخرية والاستهزاء بحق مقام وقدسية الإمام الحسين".
وكان نزار الفارس قد نشر مدونة على حسابه بموقع "فيسبوك" في 3 سبتمبر، تساءل فيها عن "برج الإمام الحسين"، لكنه سرعان ما حذفها بعد كم هائل من التعليقات التي عدتها إساءة، ليوضح بعدها بمنشور آخر أنه لم يكن يقصد الإساءة وأن ما طرحه كان من باب المحبة لا أكثر.
وأضاف مقدم الدعوى أنه "بتاريخ 28 أغسطس 2023، قامت (منال المعتصم بالتشمت والتشفي والاستهزاء من زوار وضيوف الإمام الحسين والعراق، بعد وفاتهم بحادث سير مروع مستغلين بذلك مناسبة أربعينية سيد الشهداء لإثارة النعرات الطائفية".
وأشار المحامي إلى أن ما قامت به المعتصم "أمر مخالف للقانون الذي جرّم وحرّم الإساءة للطوائف الدينية لاسيما في نص المادة (372) من قانون العقوبات العراقي لسنة 1969".
وتنص المادة القانونية (372) على "العقوبة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات لكل من اعتدى بإحدى طرق العلانية على معتقد لإحدى الطوائف الدينية أو حقر من شعائرها".
وتابع: "لكل ما تقدم نطلب منكم اتخاذ ومتابعة الإجراءات القانونية كافة بحق نزار الفارس ومنال المعتصم ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه المساس بالطوائف الدينية في قادم الأيام".
وفي 28 أغسطس، نشرت المعتصم على حسابها في "إنستغرام" تعليقا تأسفت فيه عن مصرع 5 إيرانيين وإصابة 16 آخرين بحادث سير في محافظة واسط العراقية، لكنها وضعت بجانبه رمزا ساخرا، فهم منه أنها تتشفى بمقتل هؤلاء القادمين إلى العراق، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة ضدها.
لكن المعتصم خرجت في اليوم نفسه بمقطع فيديو نشرته على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وأكدت أنها لم تنتبه للشكل الذي وضعته بجانب تعليقها، وأنها تعتذر لما حصل من فهم خاطئ لمنشورها.
أعباء مجانية
وبخصوص ما يجنيه العراق من مردودات اقتصادية جراء السياحة الدينية، قال ظافر مهدي عبد الله رئيس هيئة السياحة العراقية إنه "ليس هناك أرقام دقيقة لما يحصل عليه البلد من دخول هذه الأعداد الكبيرة، وأن وزارة التخطيط تعمل حاليا على موضوع معدل الإنفاق لكل سائح خلال مدة إقامته من خلال أخذ عينات عن كل الزائرين".
وأوضح عبد الله خلال مقابلة تلفزيونية في 28 أغسطس 2023، أنه "مع إيران ولبنان جرى تصفير أجور تأشيرات الدخول، أي لا نأخذ أي رسوم على دخولهم، والآن أيضا في هذه الزيارة الأربعينية جرى تصفير الرسوم لحاملي الجنسيتين الباكستانية والأفغانية".
ولفت رئيس هيئة السياحة إلى أن "الرسوم التي يتقاضاها العراق عن تأشيرة الدخول لباقي الجنسيات هي 40 دولارا، وعند وصولهم إلى المطار يدفعون أيضا نحو 85 دولارا".
وواجه القرار الحكومي، برفع التأشيرة عن الإيرانيين عام 2019 انتقادات من نواب في البرلمان العراقي، إذ حذرت لجنة تقييم البرنامج الحكومي والتخطيط الإستراتيجي البرلمانية في وقتها، من عدم الحفاظ على إيرادات الدولة غير النفطية.
واستغربت عضو اللجنة إنعام الخزاعي خلال بيان لها في 31 مارس 2019، من "تفريط الحكومة باتفاقياتها الجديدة بمبالغ إضافية تقدر تقريبا بـ20 مليون دولار رسوم تأشيرات الدخول بالنسبة للإيرانيين".
وأضافت: "فضلا عن دخول الزوار الإيرانيين يكون بدون إنفاق فعلي؛ لأنهم يجلبون كل احتياجاتهم معهم و لا ينفقون في أسواقنا المحلية، لاسيما بعد انهيار التومان (العملة المحلية الإيرانية)".
وكان العراق قد أصدر قرارا عام 2019، يقضي بتصفير رسوم سمات الدخول لمواطني إيران، إضافة إلى تصفير الأجور المأخوذة لهيئة السياحة عن المجاميع السياحية القادمة من البلد ذاته، والتي تقدر بنحو 10 دولارات عن كل مجموعة سياحية.
وفي مارس 2023، وجه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني "وزارتي الخارجية والداخلية باتخاذ إجراءات رفع سمة الدخول عن المواطنين اللبنانيين الذين يزورن العراق".
وعلى عكس مما تشهده البلدان من عائدات ضخمة نتيجة لتنشيط السياحة، فإن العراق البلد الذي يزخر بمعالم سياحية ودينية، ربما يكاد يكون الوحيد، الذي يتحمل أعباء استقبال الملايين من دون فائدة حقيقة.
وفي تصريحات سابقة لعضو لجنة الاقتصاد في البرلمان العراقي، نورة البجاري، قالت إن العراق "يعاني مشكلة حقيقية منذ عام 2003 وحتى الآن، تتمثل باعتماده على الموارد الريعية للنفط، ولا وجود لاستثمار حقيقي للزيارات الدينية، في ظل الإستراتيجية الحكومية الخاطئة".
وقارنت البجاري في حديث لصحيفة "عربي21" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 بين العائدات الضخمة التي تتلقاها المملكة العربية السعودية وتعود بالنفع عليها، وبين قلة العائدات التي يجنيها العراق من الزيارات الدينية في مواسم عدة بمدن عراقية.
وعزت البرلمانية السابقة أسباب ذلك إلى قلة الرسوم المالية التي يفرضها العراق على الزائرين الأجانب، على عكس ما هو معمول به في باقي الدول، حيث تقدم الخدمات بالمجان، فضلا عن عدم فتح باب استثمار الفنادق والاهتمام بها لاستيعاب تلك الحشود.
ويتراوح ما تجنيه السعودية من عائدات السياحة الدينية سنويا، من 12 إلى 14 مليار دولار ، وهو رقم لا يمثل سوى 1.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
ولفتت البجاري إلى أن "استثمار الزيارات الدينية بالشكل الصحيح، سيعود بالضرورة بالنفع على البلد وذلك من خلال استقطاب العملة الصعبة وجلب الاستثمار؛ لأن الزائر يستمر مدة تصل إلى 15 يوما داخل العراق".
وأشارت إلى أن "استقبال العراق لملايين الزوار وتقديم الخدمات بالمجان لهم، وغياب إستراتيجية تنشيط السياحة الدينية، قد يشكل عبئا على الدولة مقابل المردود المالي الضعيف".