النزاعات العقارية تثير فتنة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان.. أين الحكومة؟

بيروت- الاستقلال | منذ ١٠ أشهر

12

طباعة

مشاركة

تشكل النزاعات العقارية في لبنان بسبب تداخل الأراضي المملوكة داخل البلدات ذات التنوع الطائفي، إحدى أبرز "القنابل الموقوتة" التي تهدد السلم الأهلي؛ لتجاهل السلطات اللبنانية مسحها بشكل كامل للأراضي وتثبيت الحقوق قانونيا بين المتنازعين.

إذ تكاد جرائم القتل التي تقع على خلفية عدم ترسيم الأراضي العقارية في لبنان منذ ثلاثينيات القرن العشرين، إحدى أبرز القضايا التي يخشى الشارع أن تكرارها قد يقود إلى إحداث "فتنة طائفية جديدة" في هذا البلد الذي عانى من الحرب الأهلية في القرن المذكور.

نزاع دموي

وقد فتحت حادثة مقتل شقيقين من الطائفة المسيحية أخيرا، الباب أمام تسارع التحركات على مستوى المسؤولين من جميع الطوائف لمنع تفاقم هذه الحادثة وخروج الأوضاع عن السيطرة.

وبحسب وسائل إعلام لبنانية، فإن الشاب هيثم طوق قُتل على يد قناصين، في منطقة القرنة السوداء في شمال لبنان بالأول من يوليو/تموز 2023.

وبينما يمشط طيران الجيش اللبناني المنطقة، بحثا عن الفاعلين وجدوا في مساء اليوم ذاته جثة شقيقه مالك بعد قتله قنصا أيضا. 

اللافت أن حادثة مقتل الشابين التي وقعت في منطقة عسكرية للجيش، كانت ظروفها غامضة في هذه المنطقة الجبلية.

إذ إن الحادثة رغم أنها داخلة ضمن مواضيع النزاع العقاري بين بلدتي بشري وبقاعصفرين في الضنية، فإن مراقبين ربطوها بالمشهد السياسي المعقد في لبنان، حيث يعيش شغورا رئاسيا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022.

وقد أوقف الجيش 16 شخصا للتحقيق معهم في جريمة القتل، 11 من منطقة الضنية (السنُية) و5 من منطقة بشري (المسيحية).

وعلى الفور ساد التوتر والتحريض المناطقي والطائفي والظهور المسلح والدعوات إلى الأخذ بالثأر الأجواء هناك.

وهو ما دفع كبار المسؤولين في الدولة وتحديدا رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى إجراء اتصالات مع نواب وقيادات في المنطقتين، للتهدئة وضبط الوضع وعدم الانجرار وراء الفتنة.

تحذير من الفتنة

وقد حذر مفتي طرابلس والشمال اللبناني الشيخ محمد إمام ورئيس أساقفة الأبرشية المارونية بالمدينة المطران يوسف سويف، في 2 يوليو 2023 من أي "فتنة طائفية أو مناطقية".

وجاء في بيان مشترك، أن دار الفتوى والمطرانية المارونية تهيبان بالأهالي "الذين يعيشون جنبا إلى جنب منذ مئات السنين في منطقتي بشري والضنية أن تزيدهم هذه الحادثة إصرارا على اللحمة الوطنية ووعيا وقدرة على احتواء هذا الألم المشترك".

وحذر البيان المشترك أهالي المنطقتين من "الانجرار إلى أي فتنة طائفية أو مناطقية"، وشدد على ضرورة "السرعة القصوى للقبض على الفاعلين ومحاسبتهم، وأن يبذل الأهالي كل جهدهم للمساعدة في كشف الجناة وتقديمهم إلى المحاكمة العادلة".

وخلال تشييع القتيلين في 3 يوليو، الذي شارك فيه حشد سياسي وشعبي، قال البطريرك الماروني بشارة الراعي "إننا نؤمن بالدولة ونعرف حدودنا ونعرف القاتل، وهذه ليست مجرد حادثة حصلت ثم تنسى"، داعيا إلى "ترسيم الحدود في منطقة القرنة السوداء، وإنهاء الفتنة".

وبالتزامن تابع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الحادثة عبر سلسلة اتصالات أبرزها مع قائد الجيش العماد جوزيف عون والمراجع الأمنية والقضائية المختصة.

وشدد ميقاتي على أن "هذه الحادثة مدانة وستتم ملاحقة مرتكبيها وتوقيفهم ليأخذ القانون مجراه وليكونوا عبرة لغيرهم".

وخلال اتصال مع النائبة ستريدا زوجة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، أكد ميقاتي على "ضرورة تحلي الجميع بالحكمة وعدم الانجرار إلى أي ردات فعل، خصوصا في هذا الظرف الدقيق الذي نعيشه".

وعقب الحادثة أدان "المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان" و"لقاء سيدة الجبل" في اجتماع مشترك "تلكؤ الدولة اللبنانية وعجزها عن استكمال أعمال المساحة والتحديد للمناطق العقارية بين الأقضية والقرى اللبنانية".

وهو ما سبب الكثير من الدماء في كثير من المناطق وآخرها في القرنة السوداء ومنطقة جرد القموعة بين فنيدق وعكار العتيقة، بحسب بيان خرج عن الاجتماع.

بينما أكد النائب السني عن طرابلس فيصل كرامي أن "لا قلق على الوحدة الداخلية والسلم الأهلي في ظل الوعي الذي يتحلى به الجميع الذين رفضوا الفتنة، ولجأوا إلى الأجهزة الأمنية والقضائية".

وطالب كرامي  خلال حديث صحفي في 3 يوليو 2023، الحكومة بـ"حل الخلافات العقارية في الجرود"، منتقدا ما سماها "سياسة التمييع".

تعبئة وانسداد

بدوره أشار المكتب الإعلامي للنائب في البرلمان وليام جبران طوق، في بيان، له نشر بالأول من يوليو إلى أن "بشري استفاقت على فاجعة اغتيال الشاب هيثم جميل الهندي طوق عن طريق القنص الغادر من قبل جماعة متفلتة تتمادى منذ سنوات في استباحة أرضنا ومحاولة استدراجنا الى قتال داخلي نحن لا نريده مع أهلنا في بقاعصفرين".

ورأى مكتب طوق، أن "هذه الجريمة الشنيعة لم يُنَفذها مسلحون مجهولون، بل قناصون غادرون يتربصون في نطاق أرضنا في قمة الشهداء بقصد الاستيلاء عليها".

ولفت إلى أن "هذه الجريمة الشائنة ما كانت لتحصل لولا تراخي السلطات القضائية في حسم تثبيت الحدود منذ أكثر من سنتين".

وفي السياق، أوضح الكاتب والمحلل السياسي وائل نجم، أن "النزاعات العقارية لا تهدد السلم الأهلي ولا تثير فتنة طائفية أو مذهبية في لبنان، فهي كانت قائمة وموجودة منذ زمن بعيد، وحتى بين أتباع الطائفة الواحدة أو المذهب الواحد".

وأضاف لـ "الاستقلال": "لكن النزاع الأخير في القرنة السوداء وعلى الرغم من سقوط قتلى فيه، فإنه جرى استيعابه لأن الأجواء بين المسلمين السنة والمسيحيين ليس فيها توتر ولا تعبئة ولا نزاع، ولذلك لم تؤثر حادثة القرنة السوداء على العلاقة الإسلامية المسيحية".

وذهب نجم للقول: "غير أن الأجواء السياسية والتعبئة وانسدادا أفق الحلول واتخاذ الصراع السياسي شكلا أو طابعا طائفيا قد يجعل أي نزاع على أي أمر مفتاحا أو مدخلا لنزاع طائفي أو مذهبي، وهو في الحقيقة ما يهدد السلم الأهلي وينذر بإشعال فتنة طائفية".

والقرنة السوداء هي أعلى مرتفع جبلي في لبنان، تشهد نشاطا لمزارعين ينحدرون من منطقتي بشري (ذات الغالبية المسيحية) وبقاعصفرين (ذات الغالبية السنية)، لا سيما في فصل الصيف، للاستفادة من مياه الري التي تقف بشكل أساسي خلف الإشكالات.

وهذه الإشكالات تسجل دوريا بين الطرفين وتصل أحيانا إلى تبادل لإطلاق النار، في ظل غياب أي قرار من السلطات المعنية للفصل بين الحدود.

عجز حكومي

ومن حين إلى آخر، تظهر نزاعات بين أهالي منطقتي الضنية وبشري حول ملكية أراض ومراع وتتطور إلى تعديات وإشكالات عادة ما يتدخل الجيش والقوى الأمنية لاحتوائها.

وفي 9 يناير/كانون الثاني 2023، وقعت جريمة في بلدة عبيه اللبنانية، حيث أقدم الرجل الثمانيني من الطائفة المسيحية ميشال سكاف من بلدة عين درافيل على إطلاق النار من بندقية "بومب أكشن" على رجل من  الطائفة الدرزية يدعى هشام حمزة (50 عاما) من بلدة عبية وأرداه قتيلا، وذلك إثر خلاف على مياه الري.

وعام 2022 حدثت اشتباكات وتبادل لإطلاق النار بين مواطنين ورعاة وفلاحين من أهالي الضنية وبشري حول القرنة السوداء، والمشاعات والمراعي المحيطة بها ومياه نسافات الثلج، حيث دفعت الجيش آنذاك لتهدئة الوضع.

ومع ذلك، فإن الإشكال تاريخيا يتلخص بالنزاع على ملكية القرنة السوداء، الذي يمتد إلى نحو 30 عاما. لكن في ظل الاتهامات بتقاعس الدولة والأجهزة القضائيّة عن أداء دورها، يسود تخوف من تحول النزاع بين بلدتي بشري وبقاع صفرين إلى اشتباك طائفي.

وإذا حدث ذلك، فسيكون نقطة تفجير على مساحة الوطن كله، خصوصا بعدما اتخذ الحادث الأخير طابعا دمويا، ما وصفه البعض على أنه تخط للخطوط الحمر، وفق ما ذكر تقرير لصحيفة "النهار" اللبنانية بتاريخ 3 يوليو 2023.

وفي هذا الإطار، وصف مدير تحرير الصحيفة غسان حجار في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجديد في 2 يوليو، ما جرى في القرنة السوداء بأنها "عملية اغتيال وهناك من يقف خلفها لإثارة فتن في لبنان، وخاصة أنه لم يكن هناك خلافات سبقت الجريمة وقادت لتطور الأحداث".

ومضى يقول: "بل ما حصل يدلل على وجود طابور خامس، بمعنى أن هناك طرفا له مصلحة في إشعال الأطراف اللبنانية للضغط السياسي لفرض أمر معين أو لإرسال رسالة سياسية".

وتساءل حجار "هل هناك رسالة موجهة إلى (حزب) القوات اللبنانية (مسيحي) عبر جريمة بشري؟ ويمكن أن تكون هناك رسالة لهم نتيجة مواقفهم السياسية، ولا سيما أن مثل هذه المشاكل تكرر دون إيجاد حلول لها حتى اليوم".

إذ إن "السياسيين والنواب يطالبون الجيش للتدخل لفرض الأمن، لكن المشكلة ليست أمن بل هي أكبر من ذلك إنها مشكلة مزمنة، خاصة أنه لم تجر عمليات مسح لهذه الأراضي وتحديدها لكون إذا تدخلت الدولة وأجرت عمليات مسح فإن النزاعات العقارية بين الناس تنتهي"، وفق حجار.

ورأى حجار، أن "مثل هذا الجرائم قد تستغل في الظروف السياسية وكل طرف يأخذها لصالحه على الرغم من أن النزاعات العقارية مزمنة ولا يوجد لها حلول جذرية".

وفقط تكتفي السلطات بتهدئة الأمور عبر عقلاء المناطق اللبنانية، ولكن يبقى الحل هو ترسيم الحدود ومسح الأراضي إذ إنه لا يجوز أنه منذ عام 1932 يوجد أراض في لبنان لم تمسح، بحسب قوله.

وتشير صحيفة "نداء الوطن" اللبنانية، إلى أن المراجع داخل لبنان وخارجه التي تابعت وقائع القرنة السوداء منذ بدايتها، أدركت أن ما جرى هو حادث خطر بكل معنى الكلمة، واشتمت رائحة فتنة مسيحية – سنيّة في هذه المنطقة من لبنان لا يمكن إشعالها إلا بالدماء كالتي نزفت من الشابين هيثم ومالك طوق.

وبحسب تقرير لموقع "السياق" نشره في 3 يوليو 2023، قال "إن للثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل محاولات للسيطرة على أراض تتبع القوى السنية والمسيحية، ومنها مشاعات عائدة إلى بلدية العاقورة، بينما تمكنوا من الاستحواذ على أرضٍ تبلغ مساحتها 11 مليون متر مربع، تعود إلى أهالي تنورين، بقوة السلاح".

وأضاف أن "حزب الله أشعل نزاعا مسلحا عام 2019 في محاولة للسيطرة على بركة مياه في منطقة حقل سمارة، القريبة من القرنة السوداء".