مصالح متبادلة.. ماذا وراء الدعم الفرنسي المتصاعد لأكراد سوريا الانفصاليين؟

تواصل فرنسا احتضان "الإدارة الذاتية" الكردية شمال شرقي سوريا، وتقديم الدعم لها وسط بحث الأخيرة عن مزيد من الاعتراف بها في ظل الموقف التركي الصارم تجاه الأفكار الانفصالية في المنطقة.
ومع تثبيت واشنطن وجودها في شمال شرقي سوريا ودعم حليفتها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تتبع لـ "الإدارة الذاتية"، تجد باريس أن توسيع حضورها أيضا هناك يحقق لها أهدافا عدة.
ويقتصر الحضور الفرنسي في سوريا على نحو 200 عنصر يتمركز معظمهم في قواعد تشرف عليها وتحميها قوات أميركية بصفتها إحدى قوات "التحالف الدولي" ضد تنظيم الدولة الموجود بالمنطقة منذ يوليو/تموز 2014.
فرنسا تحتضن قسد
ومما يؤكد على أن اهتمام باريس بأهم منطقة سورية تتركز فيها ثروتا النفط والغاز، وكذلك الزراعة، هو مواصلة فتح أبوابها أمام المسؤولين الأكراد الذين يقودون مناطق شمال شرقي سوريا.
إذ أجرى نوري محمود وركسان محمد الناطقان باسم وحدات حماية الشعب الكردية السورية، وخالد عيسى ممثل المناطق الكردية بشمال سوريا في فرنسا لقاءات يوم 12 أبريل/نيسان 2023 في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بباريس.
وكان من بين الحاضرين في الاجتماع النائبة عن حزب النهضة الحاكم سارة التنزيلي التي سعى الأكراد السوريون من خلالها لحشد فرنسا لقضيتهم.
كما سافر العديد من النواب الفرنسيين بمن فيهم ماري بارشون من حزب الخضر الفرنسي، والسيناتور بيير لوران إلى مناطق سيطرة الأكراد في سوريا في مارس/آذار 2023، وطالبوا عند عودتهم بمزيد من الدعم الفرنسي لـ"الإدارة الذاتية" الكردية بشمال وشرق سوريا.
وسبق أن أعلنت دائرة العلاقات الخارجية لـ"الإدارة الذاتية" الكردية في 25 مارس/آذار 2023، أن وفدا مكونا من "الرئيس المشارك لدائرة العلاقات، بدران جيا كرد، وممثل الإدارة الذاتية في أوربا، عبد الكريم عمر، وممثلها في فرنسا خالد عيسى، والناطقين باسم وحدات حماية الشعب والمرأة، نوري محمود وركسان محمد"، زاروا مجلس الشيوخ الفرنسي في باريس.
والتفى الوفد ببيير لورانت، نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، وجرى "مناقشة الوضع العام في سوريا، بعد 12 عاما من عمر أزمتها على حساب الشعب السوري، دون وجود آفاق لأي حل سياسي"، وكذلك "التهديدات التركية على المنطقة، والتحديات السياسية والاقتصادية والإنسانية والأمنية التي تواجه الإدارة الذاتية".
بينما أكد نائب رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، بيير لورانت، على "دعم الإدارة الذاتية وتطوير التعاون معها لمواجهة الإرهاب وإيجاد حل سلمي وديمقراطي للحرب في سوريا"، وفق بيان "الإدارة الذاتية".
وأغضبت هذه التحركات الفرنسية، تركيا، حيث استدعت وزارة الخارجية التركية السفير الفرنسي في أنقرة هيرفيه ماجرو، احتجاجا على استضافة مجلس الشيوخ الفرنسي لمسؤولي "الإدارة الذاتية".
وأبلغت الخارجية التركية السفير ماجرو، تجديد أنقرة تطلعها إلى اتخاذ السلطات الفرنسية خطوات في إطار مكافحة الإرهاب، وعدم السماح لـ"مساعي شرعنة" تنظيم في سوريا يعد امتدادا لحزب العمال الكردستاني "بي كا كا".
وتصنف أنقرة وواشنطن وعواصم أوروبية عديدة "بي كا كا"، تنظيما إرهابيا، لاستهدافه الداخل التركي بهجمات مسلحة في العقود الأخيرة، وهو يمثل الأب الروحي لكل التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا والعراق التي تحلم بالانفصال وتأسيس دولة "كردستان" الكبرى.
كما رأى رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب في تغريدة على تويتر، بتاريخ 28 مارس/ آذار 2023: أن "استضافة تنظيم إرهابي انفصالي يهدد الأمن القومي لتركيا في مجلس الشيوخ الفرنسي، أمر خطير للغاية ولكنه ليس مفاجئا".
مصالح متبادلة
في ظاهرة العلاقة بين "الإدارة الذاتية" وفرنسا المتنامية رغم امتعاض تركيا، يوجد قواسم مشتركة تجمعهما.
فمن جهة تبحث "الإدارة الذاتية" عن الاعتراف الدولي بها، وذلك من خلال ضمان بقائها كجزء من الحل السياسي في سوريا.
لا سيما أنها تسيطر على (25.64 بالمئة) من الجغرافيا السورية، وتشمل أجزاء واسعة من محافظة دير الزور والرقة والحسكة، وأجزاء من محافظة حلب.
وترجع هذه السيطرة لدعم الولايات المتحدة لـ قوات "ي ب ج" العمود الفقري لقوات "قسد"، وهي الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني "ب ي د"، الفرع السوري من "بي كا كا".
ووفقا للحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة، فإن قوات "قسد"، تسيطر على قرابة 90 بالمئة من حقول النفط، و45 بالمئة من إنتاج الغاز بسوريا.
كما يمر نهر الفرات من مناطق سيطرتها في ثلاث محافظات هي الحسكة والرقة ودير الزور، وهي أراضٍ زراعية خصبة ولا سيما في إنتاج القمح.
لذلك تجد فرنسا في دعم "الإدارة الذاتية"، بابا للتنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في سوريا التي لها إرث من الانتداب الطويل فيها من 1920 – 1946.
كما أن قوات "قسد" ما تزال تلعب بورقة تنظيم الدولة الذي أعلنت الولايات المتحدة القضاء عليه بسوريا في مارس/آذار 2019، في إبقاء حبل العلاقات ممدودا مع فرنسا.
إذ يشكل سجناء تنظيم الدولة من التابعية الفرنسية الموجودون في سجون تديرها قسد وتحديدا في سجن الصناعة بمحافظة الحسكة وفي مخيم الهول بريفها، نقطة مباحثات هامة بين "قسد" وباريس.
ولا سيما أن فرنسا تتلقى طلبات متكررة من منظمات غير حكومية فرنسية وعائلات المحتجزين، لإنهاء السياسة "غير الإنسانية" في استعادة هؤلاء إلى وطنهم الأم.
ووفقا لإحصائية للحكومة الفرنسية فإن حوالي 1700 فرنسي التحقوا بتنظيم الدولة منذ عام 2014.
وكانت السلطات الفرنسية وجزء كبير من الطبقة السياسية ينظرون إلى أن خطوة الالتحاق بتنظيم الدولة بمثابة إعلان حرب ضد باريس، لذلك هي تماطل في حل ملفهم ولم شملهم مع عائلاتهم بعد إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع من جديد.
استجرار الدعم
ورعاية فرنسا لـ "الإدارة الذاتية" الكردية، تدخل في إطار الصراع والمناكفات بين باريس وأنقرة في ملفات دولية متعددة، في وقت تعد فيه سوريا هي الأخطر بين تلك الملفات، لوجود فروع "بي كا كا" على حدود تركيا الجنوبية بشكل مباشر.
ويؤكد مراقبون أن السياسة الفرنسية هي أضعف الأوراق في سوريا، لذلك تحاول باريس تعويض خسائرها سواء في ليبيا أو إفريقيا على حساب تركيا.
ولهذا يشيرون إلى أن الرسائل الفرنسية من زيادة التعاون مع قوات "قسد" هي مواجهة إلى تركيا، وخاصة أن هناك قادة من قسد وصلوا بلباسهم العسكري إلى باريس.
وبحسب المراقبين فإن "قسد" تبحث عن "البديل الموثوق" في دعمها وهو ما لم تجده لدى روسيا وإيران حليفتي نظام الأسد الذي يريد ابتلاع مناطقها ودمج قواتها داخل جيشه، وتحت هيكلة وزارة دفاعه، وهو ما رفضه قائد قسد مظلوم عبدي.
وتطالب "الإدارة الذاتية" من فرنسا بتقديم الاستثمارات في مناطقها، ولا سيما في قطاع النفط والصحة والتعليم والخدمات والبنية التحتية.
ومن هنا، يأتي استغلال قوات "قسد" حاله الفتور في العلاقة بين فرنسا وتركيا، والذي يكاد يحقق بعض النتائج الإيجابية.
على سبيل المثال في يوليو/تموز 2022 استطاعت "قسد" جلب توقيع من 102 نائب فرنسي غالبيتهم من الأحزاب اليسارية، لرفض العملية العسكرية التركية التي كانت أنقرة تنوي شنها ضد مناطقها شمال شرقي سوريا.
وتوعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 23 مايو/أيار 2022، بعملية عسكرية ضد قوات "قسد"، بهدف استكمال "الحزام الأمني" عند حدود تركيا الجنوبية.
وتنطلق تركيا من عزمها لشن عملية عسكرية هي الثالثة ضد فروع "بي كا كا" والخامسة بسوريا، لوأد حلم تشكل كيان انفصالي على حدودها الجنوبية داخل الأراضي السورية.
وكذلك عزم أنقرة تحويل ذاك الشريط الحدودي إلى منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترا، للسوريين الفارين من بطش نظام الأسد.
استعداء تركيا
وفي هذا السياق، رأى المتحدث الرسمي لمجلس القبائل والعشائر السورية المعارضة "مضر حماد الأسعد" أن "تقارب فرنسا واهتمامها بمليشيا قسد هو موجه ضد تركيا بالدرجة الأولى، حيث تنظر باريس بعين العداء إلى حكومة أردوغان ذات التوجه الإسلامي".
وأضاف لـ"الاستقلال"، أن "تركيا تمكنت في السنوات الأخيرة من الدخول في المجال الحيوي الفرنسي في إفريقيا، وأن تسحب البساط من فرنسا، لأن الأخيرة تعد نفسها الأب الروحي والقائد للدول الإفريقية الغنية بالنفط والذهب واليورانيوم والصمغ العربي والمعادن الثمينة والثروة الحيوانية والأراضي الزراعية البكر".
ومضى الأسعد يقول: "ولذلك دخول تركيا على خط فرنسا في إفريقيا يعني الاستحواذ على الثروات الباطنية، وإبعاد فرنسا عنها كذلك مساهمة تركيا في إعمار إفريقيا".
واستدرك قائلا: "لذلك تعمل فرنسا على دعم فروع بي كا كا، من أجل الضغط على تركيا أمنيا وعسكريا، والتأثير على قواعدها العسكرية في شمال سوريا وشمال العراق".
وتابع أنه من أسباب اهتمام فرنسا ودعمها لفروع بي كا كا بسوريا، أنها ترى أن لها الحق في سوريا والتي استعمرتها في القرن العشرين، وهي كانت مهتمة جدا وقتذاك في منطقة الجزيرة والفرات لأسباب عدة".
منها عثور شركات تنقيب على عشرات الآبار النفطية والغازية مع وجود ثروات باطنية أخرى لها أهمية كبرى لدى فرنسا مع تعدد التلال الأثرية والوفرة في المياه، يضيف الأسعد.
وزاد بالقول: "لذلك تجد فرنسا أنها معنية في أن يكون لها موقع قدم مؤثر في منطقة الجزيرة والفرات وسوريا عامة".
ورأى الأسعد، أن "فروع بي كا كا هي المستفيد الأكبر من كل ذلك ومن كل الدعم المقدم لها من فرنسا إعلاميا وسياسيا وعسكريا وأمنيا وتجاريا، التي تعد اليوم هي قائدة دول الاتحاد الأوروبي من أجل فصل منطقة الجزيرة والفرات عن سوريا وجعلها دويلة تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني".
استنكار المعارضة السورية
وكثيرا ما ندد الائتلاف الوطني السوري المعارض بعلاقة فرنسا بـ "الإدارة الذاتية" الكردية، الذي يعده كيانا يسعى لسلخ أراضي سوريا وتحقيق حلم كيان انفصالي، ولا سيما بعد تهجير الكثير من السكان العرب من قراهم ومدنهم بقوة السلاح.
وسبق أن أبدى الائتلاف السوري غضبه من استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 20 يوليو/تموز 2021، وفدا ضم ممثلين عن "الإدارة الذاتية" الكردية المظلة السياسية لقوات "ي ب ج" في شمال شرق سوريا.
وحذر الائتلاف في بيان له، من "أن كل من يفتح الطريق للتعامل مع هذه المليشيات فهو يعلن عن علاقة مباشرة مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي".
وقال البيان: إن "هذه المليشيات ارتكبت بحق الشعب السوري جرائم تهجير وتغيير ديموغرافي وانتهاكات جسيمة، وسيطرت على موارد سوريا وجيرتها لتحقيق أجندات دخيلة غير وطنية".
وأوضح أن "سياسات وخطط هذه المليشيات الإرهابية منسجمة ومستقاة من نظام الأسد، وهي في مجملها ضد مطالب الشعب السوري وتتناقض مع حقوقه وتطلعاته".
وشدد الائتلاف على أن "المطالبة بالاعتراف بهذه المليشيات التي تفرض نفسها على الشعب السوري بالحديد والنار، تمثل انتهاكا لوحدة التراب السوري" مبينا أن "الإصرار على هذه الخطوة سيسهم في تعقيد القضية السورية وإبعادها عن مسار الحل".
وكان قائد قوات قسد، مظلوم عبدي، وجه في فبراير/شباط 2021 طلبا للإدارة الأميركية الجديدة بدعم "الإدارة الذاتية"، وقال لإذاعة "صوت أميركا": "نرى أننا سنتمكن من القضاء على تهديدات تنظيم الدولة إن تم الاعتراف بالإدارة المدنية هنا".
كما كان "عبدي" على رأس الحملة التي أطلقتها "الإدارة الذاتية" في 18 يوليو/تموز 2021، على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو فيها المجتمع الدولي إلى "اعتراف دولي بمناطقها وإضفاء الشرعية على المؤسسات والقوات العسكرية المنتشرة هناك".