مهرجو السلطة.. هكذا استغل سعيد الكوميديين لإهانة خصومه ثم انقلب عليهم

عالي عبداتي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"أضحكوا الشعب أم ضحكوا عليه؟"، سؤال يفرض نفسه لفهم واقع وعلاقة الكوميديا الساخرة بالسلطة والسياسة من جهة، وبالشعب ومطالبه من جهة ثانية، خاصة في الدول التي وصلتها رياح الربيع العربي عام 2011.

ففي تونس، وخلال العشرية الماضية التي أعقبت ثورة الياسمين، ظهر في الساحة المحلية عدد من الكوميديين، الذين جعلوا من الرؤساء والوزراء والقيادات السياسية موضع نقد ساخر.

وهو ما أشار إلى الانفتاح والحرية التي أصبح يتمتع بها الشعب التونسي عقب إسقاط حكم زين العابدين بن علي (1987-2011).

وضع الصامت

اليوم، وبعد سيطرة الرئيس قيس سعيد على مفاصل الدولة، بات كوميديو الأمس في وضع "الصامت" أو الممنوع من الكلام عن ساكن قصر قرطاج وإجراءاته ووزرائه، إلا بما يرضيه ويوافق أفكاره.

ومن أشهر هؤلاء الكوميديين، لطفي العبدلي الذي وجد نفسه في عاصفة أمنية كادت تهوي به حين تجرأ على انتقاد الشرطة في 7 أغسطس/آب 2022 في صفاقس جنوب البلاد، فغادر المسرح على وقع فوضى اعتلت المنصة، عقب صعود الشرطة إليه للاحتجاج.

وبسبب الحادث أعلن العبدلي عبر صفحته على فيسبوك، عن قراره بمغادرة البلاد قائلا: "أنا بالتأكيد سأغادر البلاد يا الله غالب، لقد سرقت الأمل الصغير الذي كان لدي"، ثم أعلن بعد ذلك تراجعه عن قرار الرحيل.

وكان العبدلي قد دعا التونسيين إلى التصويت بنعم على الاستفتاء الدستوري الذي عرضه قيس سعيد للتصويت في 25 يوليو/تموز 2022، وعبر عن دعمه للخطوات التي يتخذها الرئيس.

حادث العبدلي سبقه إعلان الهيئة المديرة لجمعية مهرجان المنستير الدولي، 6 أغسطس عن قرار يقضي بمنع عرض مسرحية للكوميدي مقداد السهيلي، بسبب ما أسمته بـ "سابقة إعلامية وقع فيها المس من شخصية الزعيم الرئيس الحبيب بورقيبة".

ويرجع أصل المشكلة، إلى تصريح تلفزيوني أدلى به السهيلي على "قناة التاسعة"، قال فيه إن الرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي أنظف من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.

من جانبه، أعلن مغني الراب دي جي كوستا، في 8 أغسطس في فيديو نشره في حسابه على فيسبوك، عن إلغاء حفله المنتظر إقامته في الهوارية بالشمال الشرقي للبلاد، بعد امتناع الأمن عن تأمينه.

وعلق دي جي كوستا على الأمر بقوله: "إلغاء عرض الهوارية لأسباب أمنية كالعادة، وشكرا لمن قام باتصالاته لمنع هذا الحفل".

وسبق لكوستا أن أدلى بتصريح في أكتوبر/تشرين الأول 2021، داعم للرئيس التونسي قال فيه: ''أنا نحس روحي قيس سعيد متاع الراب التونسي". وأوضح أنه "يتشارك وسعيد في المشاكل، ويصبر كما الرئيس، على كلام الناس وانتقاداتهم".

عودة الاستبداد

تفاعلا مع هذه الوقائع، قال رفيق عبد السلام، وزير الخارجية التونسي الأسبق، والقيادي في حركة النهضة (إسلامية)، إن الذين يصفون سنوات ما بعد الثورة التونسية بـ "العشرية السوداء"، كان فيها المسرحيون يرفعون أصواتهم سخرية من الرؤساء والوزراء والمسؤولين.

وتابع عبد السلام في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك في 8 أغسطس 2022، "كان العبدلي نفسه يرفع إصبعه الأوسط، ويتقلب فوق الأريكة ويرفع رجليه إلى فوق في البرامج التلفزية، لمهزلة الوزراء والشخصيات العامة، ومع ذلك كان هؤلاء يعودون إلى بيوتهم سالمين غانمين".

واسترسل: أنا شخصيا كنت موضعا للسخرية السوقية من لطفي العبدلي مرات كثيرة، وقد أمتعض أحيانا وأبتسم أخرى، وكنت وما زلت أعتبر ذلك ثمنا طبيعيا لحرية التعبير في مجتمع ديمقراطي مفتوح.

وواصل: "فمن يدخل الحياة العامة ويتولى المسؤولية الشعبية والرسمية عليه أن يتحمل قدرا غير قليل من النقد والاعتراض والسخرية والتندر، وأحيانا اتهامات بالباطل وكذبا وتلبيسا".

لكن الجديد الآن، يقول عبد السلام، إن "قيس سعيد أصبح محصنا بالدستور ويريد أن يكون مقدسا، وما بين نصف إله ونصف إنسان، منزه عن النقد والانتقاد، فضلا عن السخرية الكوميدية".

وتابع المتحدث ذاته، "لطفي العبدلي الذي قدم آيات القربى والتزلف لقيس سعيد ودعا للتصويت له على استفتائه الفاسد والمزيف، يتجرع اليوم من كأس السم الذي أراد سقايته لخصوم الرئيس".

وأردف: "الرجل بمجرد أن تلفظ بكلمات قليلة من النقد الساخر كاد بوليس سعيد ينقض عليه فوق خشبة المسرح، ثم هم بالمغادرة وتركه في العراء".

ورأى عبد السلام أن قيس سعيد استعمل من وصفها بـ"الجوقة من الفنانين المتزلفين"، والذين، بحسبه، "كانوا مجرد جسر عبور نحو ديكتاتوريته الجديدة، ثم قال لهم شكر الله سعيكم على مادة الطحين الفاخر الذي قدمتوه".

وخلص للقول: "هنيئا لكم بالحرية والرفاه الموعودين، وأهلا وسهلا بكم في الجمهورية البوليسية الجديدة لقيس سعيد، والقادم أعظم".

وبدوره، يرى المخرج التونسي نبيل البركاتي أن قضية العبدلي أخذت منعرجا خطيرا، مبينا أن الرسالة المراد إيصالها عبر ما وقع، أن البلاد مقبلة على إرهاب فكري لعشر سنوات قادمة، وأن هناك من يؤدي دور الوصاية على المواطنين وأذواقهم.

وذكر البركاتي في تدوينة نشرها على فيسبوك في 8 أغسطس أن ما وقع هو بتعبيره "نوع من الإرهاب"، يقوم على ضرب "الصغير" ليصمت "الكبير"، مشددا على أن الدور آت لجميع الفنانين والممثلين والسينمائيين واحدا بواحد.

سلاح الفن

الرغبة التحكمية من قبل الشرطة في أداء دور سياسي يتنافى مع مهامها الوظيفية هي ما توقف عندها الناشط السياسي فتحي المهري، والذي أوضح أن واقعة صفاقس ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.

وبين المهري في تصريح لـ "الاستقلال" أن الأمر سيستمر ما دامت بعض النقابات الأمنية تسمح لنفسها بمخالفة القانون أو تنصيب نفسها وصية على حريات الشعب.

ولفت إلى أن ما بدر من بعض هذه النقابات من تهديدات بمقاطعة تأمين عدد من العروض الفنية، بعلة مخالفتها للذوق العام أو خدشها للحياء، إنما هو "مؤشر خطير جدا على الحريات العامة، واستقواء بقطاع حامل للسلاح على الشعب الأعزل وعلى الدولة".

وتميزت تونس خلال عشريتها الأولى ما بعد ثورة الياسمين عام 2011، بمساحة حرية كبيرة، شملت الأداء الفني والكوميدي في البلاد.

هذا الأداء، وفق المهري، لم يختلف كثيرا عما تشهده البلدان الحرة العريقة في الممارسة الديمقراطية، فكان الكوميديون يقدمون صورا تحاكي واقع الشعب والسياسيين بطريقة فنية كاريكاتورية، تختلف من فنان لآخر، غير أن الجميع كان يستفيد من مساحة كبيرة جدا من حرية التعبير. 

واسترسل الناشط السياسي أن تلك الحرية أتاحت للفنانين الكوميديين تجاوز العديد من التابوهات بل وحتى المقدسات، فلم يتركوا موضوعا إلا وتناولوه إما بالنقد أو السخرية أو التجريح.

وشدد على أن دور الفنان الكوميدي هو السخرية الناقدة للأوضاع، موضحا أن الفنان لا يمكن أن يبدع في غير ظل الحريات، وأن الثورة التونسية وفرت لهم هذه الأرضية.

ولم يستبعد المهري أن يكون دور المال فاعلا في الصناعة الفنية، وأن تدفع المصلحة ببعض الفنانين إلى الانجرار وراء المادة، على حساب الإبداع الفني، كما أن الصراعات الأيديولوجية التي عصفت بالبلاد بعد الثورة كانت فاعلا أيضا في أداء بعض الفنانين الكوميديين.

وتابع: "العلاقة بين الفن والمال والأيديولوجية، أصبحت في بعض الأحيان وظيفية مصلحية، لغايات تحقيق منافع سياسية، خاصة فيما يتعلق بتصفية الحسابات أو ضرب الخصوم السياسيين".

وعن علاقة الكوميديا بالسياسة يقول الناقد الفني والسينمائي مصطفى الطالب، إن هذا ارتباط تاريخي قديم.

وشدد في حديث لـ"الاستقلال" على أن الكوميديا لم تكن فقط للترفيه والضحك، بل وسيلة أساسية لتمرير خطابات ورسائل سياسية واجتماعية.

وتابع الطالب أن هذه العلاقة أنتجت لنا ما يسمى بـ "الكوميديا السوداء"، وهي شكل من أشكال محافظة الفنان الكوميدي على استقلاليته عن السياسي، سواء في طبيعة العمل أو المواضيع والشخصيات التي يجسدها.

العلاقة مع سعيد

وأوضح الناقد الفني، أن الفنان الكوميدي، من الناحية التاريخية، كان يصطف إلى جانب الشعب ونضالاته، ويوجه نقده للسياسة والسياسيين.

وحذر من أن ينخرط الفنان الكوميدي في العمل السياسي المباشر، أي الانضمام لحزب أو تنظيم، لأن ذلك يقتل الحرية، ويحرم الفنان من استقلاليته الفكرية والسياسية والذاتية، وهي شروط ضرورية لتقديم إبداع فني حقيقي.

عبر الطالب عن استغرابه من وجود فنانين كوميديين يدافعون عن قيس سعيد، وهم يرون أنه خالف الدستور الذي ترشح تحت ظله، وفرض نفسه على الشعب بإجراءات وأدوات غير ديمقراطية.

وبين الناقد أن هؤلاء حولوا أنفسهم من فنانين ومبدعين إلى أداة في يد السلطة، كما وقع لباسم يوسف في مصر، والذي كان أداة بيد الجيش المصري، لضرب وتشويه الرئيس الراحل محمد مرسي.

وتابع: "صورة الفنان الكوميدي الذي يصطف إلى جانب نضالات الشعب، كما تقتضي ذلك طبيعة اشتغاله، لم نعد نراها اليوم في تونس وفي العالم العربي عموما".

إذ يميل الفنان الساخر إلى السلطة الحاكمة، إما خوفا من الاعتقال، أو رغبة في الترقي الاجتماعي، أو بحثا عن العائد المادي، وفق تقديره.

وتابع: "اليوم نرى أن الكوميدي الذي يقف إلى جانب الشعب، عملة نادرة، وعددهم يعد على رؤوس الأصابع بالوطن العربي، كما أن الانتقادات التي نراها اليوم للسلطة أو للسياسة تتسم بالسطحية".

وجدد الناقد الفني التأكيد على أن الوضع الحالي في تونس هو نفسه كان في مصر، حيث كان الفنان الكوميدي يتمتع بحرية كبيرة ما بعد الثورة، انتهت بوصول قائد الجيش، عبد الفتاح السيسي، إلى السلطة.

وهنا لم تنته الحرية فقط، بل إن هذا الصنف من الكوميديين لم نعد نسمع لهم أي صوت، كما أنه ليس لهم أي مكانة في الشارع المصري والعربي عامة.

يقول الطالب إن الفنان الكوميدي عليه أن يعي جيدا أن مكانه الطبيعي والتاريخي هو إلى جانب الشعب لا السلطة، بصرف النظر عن طبيعتها فضلا عن أن تكون غير ديمقراطية.

وأوضح أن الجمهور يعرف الفنان الكوميدي الذي يصطف ويحابي السلطة، وأن حقيقته ستظهر مهما حاول إخفاءها، لأن المتابع ذكي جدا.

وأوضح الناقد أن الفنان الكوميدي الساخر عليه أن يلتزم بقضايا وطنه والوطن العربي، وأن يسعى للاستجابة لتطلعات الجمهور، بعيدا عن التهريج والسب والتجريح.