فرسان مالطا.. دولة داخل الفاتيكان تدير لوبيات مشبوهة ومؤثرة حول العالم

عاد لساحة الضوء من جديد، دولة "فرسان مالطا" بعد إعلانها في 7 يونيو/حزيران 2022، وفاة رئيسها الأعلى، ماركو لوتزاغو، عن عمر ناهز 72 عاما، وتعيين "الكوماندور الأعظم"، روي غونزالو دو فالي بيكسوتو دي فيلاس بوا، قائما جديدا بأعمال الرئيس حتى انتخاب شخص جديد "رئيسا دينيا وملكا".
و"فرسان مالطا" ليست دولة بالمعنى المعروف، فهي أشبه بمنظمة تقيم في عدة مبان داخل الفاتيكان في العاصمة الإيطالية روما، ومقرها الرئيس في قصر "ماجسترال" بروما، ودولة بلا شعب، وتضم في عضويتها 13.5 ألفا يطلقون على أنفسهم اسم "فرسان".
ويدير "الدولة" مجلس مكون من 26 فارسا يقومون بمساعدة الرئيس (الكاردينال العسكري) على تسيير شؤونها، وأول من شغل هذا المنصب هو البريطاني، أندرو بيرتي.
وتطلق على نفسها اسم "النظام العسكري ذي السيادة المستقلة لمالطا"، أو "نظام السيادة العسكري لفرسان مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي من رودوس ومالطا"، وهي تختلف عن دولة مالطا.
بقايا الحروب
"فرسان مالطا" منظمة دينية ذات طبيعة عسكرية للفرسان، تقول إنها "تعمل على تكريس الإيمان المسيحي، وخدمة الفاتيكان"، وتزعم أن المهمة الرئيسة لها منذ تأسيسها "تتمثل في خدمة المرضى وأعمال البر والإحسان".
ويرجع تاريخ هذه الدولة إلى جماعة كاثوليكية من بقايا الحروب الصليبية هم "فرسان الإسبتارية"، لكنها معترف بها دوليا ككيان ذي سيادة، وعضو في الأمم المتحدة.
ولها علاقات دبلوماسية رسمية مع 103 دول، وسفراء في هذه الدول بما فيها 8 دول عربية، هي مصر، الأردن، السودان، الصومال، جزر القمر، لبنان، المغرب، وموريتانيا، وما يزيد على 28 دولة إسلامية.
لكن هذه الدولة المريبة التي لا يجري ذكر اسمها رسميا إلا مرتبطا بأحداث قليلة في العالم تتعلق بالأعمال الإنسانية ورعاية المستشفيات، وتسهيل سفر الحجاج المسيحيين لإسرائيل، يدور حولها غموض وشبهات كثيرة.
وبدأ ظهور "فرسان مالطا" في القدس نحو عام 1048، خلال عصر الدولة الفاطمية كهيئة خيرية، أسسها بعض التجار الإيطاليين، لرعاية مرضى الحجاج المسيحيين، في مستشفى (قديس القدس يوحنا) قرب كنيسة القيامة ببيت المقدس.
وظل هؤلاء يمارسون عملهم في ظل سيطرة الدولة الإسلامية، وأطلق عليهم اسم "فرسان المستشفى" تمييزا لهم عن هيئات الفرسان التي كانت ظهرت لاحقا في القدس مثل "فرسان المعبد" وغيرهم.
وعندما قامت الحروب الصليبية الأولى 1097 ميلادية، وتم الاستيلاء على القدس أنشأ رئيس المستشفى، جيرارد دي مارتيز، تنظيما منفصلا أسماه "رهبان مستشفى قديس القدس يوحنا" وبحكم درايتهم بأحوال البلاد قدموا مساعدات قيمة للصليبيين.
ثم تحولوا إلى نظام فرسان عسكريين بفضل "ريموند دو بوي" (خليفة مارتيز) الذي أعاد تشكيل التنظيم على أساس عسكري مسلح باركه البابا أنوست الثاني، عام 1130.
ومع الاحتلال الصليبي للقدس، توسعت مهام المنظمة لتشمل تقديم الحماية العسكرية للمسيحيين، ونالت اعترافا رسميا من بابا الفاتيكان باسكال الثاني عام 1113 كونها نظاما دينيا.
انتقال مختلف
وعقب هزيمة الصليبيين في القدس وسقوط عكا عام 1291 وطرد الصليبيين نهائيا من الشام، اتجهت هيئات الفرسان الصليبيين إلى نقل نشاطها إلى ميادين أخرى.
واتجه الفرسان التيوتون (طائفة مسيحية ألمانية تمريضية تحولت لعسكرية) نحو شمال أوروبا، ونزح الداوية أو فرسان المعبد (عسكريون متعصبون) إلى بلدان جنوب أوروبا وخاصة فرنسا، حيث قضى عليهم فيليب الرابع فيما بعد (1307- 1314).
أما فرسان الإسبتارية أو الهوسبتالية (نسبة لكلمة مستشفى)، فقد اتجهوا في البداية إلى مدينة صور وبعدها إلى قبرص 1291.
وانتقلوا لاحقا إلى جزيرة رودوس، لكن طردهم العثمانيون منها عام 1523، فذهبوا إلى مالطا وأنشؤوا نظامهم السيادي، الذي ارتبط باسمهم "فرسان مالطا"، حتى طردهم نابليون بونابارت منها عام 1798 ليحولها إلى نقطة انطلاق لاحتلال مصر.
وأخيرا استقروا في روما داخل مقر الفاتيكان، حيث يقع المقر الرئيس للمنظمة حاليا في العاصمة الإيطالية.
ومنذ تأسيسها قبل 970 عاما، تم استخدام العديد من الأسماء لتعريف المنظمة وأعضائها، بحسب الموقع الرسمي لها.
فالاسم الرسمي لمنظمة فرسان مالطا هو "نظام القديس يوحنا العسكري المستقل لفرسان القديس يوحنا في مدينة رودس ومالطا".
لكن غالبا ما تستخدم اختصارات مثل، فرسان مالطا العسكرية المستقلة، أو فرسان مالطا السيادية، أو فرسان مالطا.
وأطلق على الفرسان في البداية اسم "فرسان الإسبتارية" لوصف مهمتهم، لكن أطلق عليهم أيضا اسم "فرسان القديس يوحنا" بسبب وجودهم في القدس.
وبعد غزوهم جزيرة رودس عام 1310 عقب طردهم من القدس، أصبحوا "فرسان رودس"، وفي عام 1530 خلال وجودهم في جزيرة مالطا أصبح يطلق عليهم اسم "فرسان مالطا" حتى بعدما تركوها وذهبوا إلى روما.
ووفقا لدستورهم، ينقسم أعضاء منظمة فرسان مالطا إلى ثلاث فئات، وعلى الأعضاء أن يديروا حياتهم بطريقة مثالية وفقا لتعاليم ومبادئ الكنيسة الكاثوليكية، وأن يكرسوا أنفسهم لأنشطة المساعدة التي تقدمها الرهبانية.
وأعضاء الدرجة الأولى، هم من الفرسان ورجال الدين المعترف بهم، والدرجة الثانية، هم رهبان عسكريون، والطبقة الثالثة، أعضاء علمانيون لا يعترفون بالنذور الدينية لكنهم يعيشون وفقا لمبادئ الكنيسة والنظام.
أدوار مشبوهة
تعد دولة أو منظمة "فرسان مالطا"، أحد أكثر الكيانات غموضا في التاريخ، مما جعلها موضوعا لدى العديد من وسائل الإعلام والكتب والأفلام.
فإلى جانب ادعائهم أنهم لا يقومون سوى بأعمال خيرية تمريضية، تشير وقائع وتقارير لـ"أهداف غير معلنة لهم"، تكشف صراحة معاداتها للمسلمين كامتداد لتاريخهم الصليبي.
وكان أبرز من كشف أدوراهم المعادية للإسلام في الوقت الحاضر، الصحفي الأميركي، سيمور هيرش، خلال محاضرة ألقاها بالعاصمة القطرية الدوحة في 18 يناير/كانون الثاني 2011.
وفي محاضرته بكلية الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون بقطر، عن السياسات الأميركية، قال هيرش، إن "القوات المسلحة الأميركية يوجهها ويسيطر عليها صليبيون أصوليون مسيحيون يهدفون إلى تحويل المساجد إلى كنائس".
وأكد أن الجنرال ستانلي ماكريستال القائد المتقاعد لقيادة العمليات المشتركة الخاصة وقائد القوات الأميركية في أفغانستان لفترة، هو واحد من بين العديد من كبار ضباط الجيش الأميركي الذين هم أعضاء في منظمات كاثوليكية متطرفة.
وذكر من هذه المنظمات، "فرسان مالطا"، و"أوبوس دي" والمعروفة رسميا باسم "حبرية الصليب المقدس وعمل الله" وهي منظمة كاثوليكية في إسبانيا.
"هيرش" قال إن مستشاري الرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، المحافظين الجدد كانوا يعملون وفقا لسياسة تقول "سنحول المساجد إلى كاتدرائيات"، وأنهم يعدون أنفسهم حماة للمسيحية ويقودون حملة صليبية بالمعنى الحرفي.
وذكر أن قيادة العمليات الخاصة العسكرية الأميركية المشتركة مخترقة من قبل مسيحيين متعصبين يعتقدون أنه يتوجب عليهم أن يتولوا مهمة إكمال الحروب الصليبية، وأن عليهم أن "يحولوا المساجد إلى كاتدرائيات".
وفي تقرير عما قصده هيرش حول فرسان مالطا، نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تقريرا في 19 يناير/كانون الثاني 2011 قال إن أعضاء منظمة "فرسان مالطا" يتمتعون بحضور غامض في مراكز صنع قرارات السياسة الخارجية الأميركية.
وأكد التقرير أن أخوية "الفرسان" أو فرسان مالطا، كان لها دور لا بأس به في المؤامرات السياسية داخل أميركا وخارجها.
وذكر أنه في عام 1988، اعترف القائم بأعمال سفارة مالطا في هافانا بأنه عميل مزدوج لكل من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والاستخبارات الكوبية.
أيضا قال الصحفي جيريمي سكاهيل في كتابه "بلاك ووتر: صعود أقوى جيوش المرتزقة في العالم"، إن الرئيس السابق للشركة، جوزيف شميدت، المفتش العام السابق في وزارة الدفاع الأميركية، عبر عن فخره بعضويته في "فرسان مالطا" في سيرته الذاتية الرسمية.
وكشف أنه بالإضافة إلى السمة الصليبية التبشيرية لفرسان مالطا، يحمل معظم الجنود المرتزقة في العراق جنسية دولة فرسان مالطا، علما أن هناك 130 ألف مرتزق شاركوا القوات الأميركية في احتلال العراق.
وذكر أن "العديد من مديري الشركة ينتمون للتيار اليميني المسيحي المتطرف الذي أدار الولايات المتحدة عقب صعود الرئيس بوش لسدة الحكم عام 2001، وجميعهم يتبجحون بعضويتهم في فرسان مالطا".
وقالت صحف أميركية أن متعاقدي شركة "بلاك ووتر" (تغير اسمها رسميا إلى XE) في العراق استخدموا رموزا وإشارات شبيهة بتلك التي كان أعضاء نظراؤهم من جماعة "فرسان المعبد" يستخدمونها في القرون الوسطى.
وقد ألقى الكاتب المصري، محمد حسنين هيكل، الضوء على تفاصيل هذه العلاقة بين الصليبيين القدامى وشركات المرتزقة ودور هذه الدولة المشبوه في دعم وتمويل الغزو الأميركي للعراق في إحدى شهاداته على قناة "الجزيرة" القطرية يوم 27 أبريل/نيسان 2004.
وقال إن "مرتزقة يحلون الآن محل الجيش الأميركي هناك، أما الغطاء الذي تعمل من خلاله هذه الشركات فهو الغطاء الديني عبر العلاقات مع دولة فرسان مالطا".
وأضاف أن "وجود قوات المرتزقة بالعراق ليس مجرد تعاقد أمني مع البنتاغون تقوم بمقتضاه هذه القوات بمهام قتالية نيابة عن الجيش الأميركي، بل يسبقه تعاقد أيديولوجي مشترك بين الجانبين يجمع بينهما، دولة فرسان مالطا الاعتبارية".
وتابع أن فرسان مالطا هم آخر الفلول الصليبية التي تهيمن على صناعة القرار في الولايات المتحدة، ونعيش أجواء حرب صليبية".
علامات استفهام
وسبق أن كشف الباحثان، سيمون بيلز، وماريسا سانتيير، المتخصصان في بحث السياق الديني والاجتماعي والسياسي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية عن أن الرئيسين رونالد ريجان وجورج بوش الأب هما من أبرز أعضاء منظمة فرسان مالطا.
لذا يستنتج الباحثان بأنه "لا يمكن انتزاع تصريحات الرئيس بوش عقب هجمات 11 سبتمبر من هذا السياق حين أعلن شن حرب صليبية على الإرهاب، وذلك قبيل غزوه لأفغانستان عام 2001".
وفي كتابه "المرتزقة الجدد وخصخصة الحروب"، صدر عام 2007، أشار الصحفي المصري، محمد جمال عرفة، إلى دور المرتزقة الصليبيين الجدد.
وأوضح جمال عرفة، أن شركات المرتزقة الجدد، وهي تتحرك لتحظى بموافقة مسؤولي الأمم المتحدة على إسناد مهام لها، تبحث عن غطاء أخلاقي وديني عبر التعاون مع حكومات أو منظمات مشهورة بدورها الخيري، والتي لا يعرف أحد تاريخها الأسود مثل فرسان مالطا.
وخلال شهادة قائد الحرس الجمهوري السابق، أيمن فهيم، في "قضية القرن"، المتهم فيها الرئيس الأسبق حسني مبارك في 10 فبراير/شباط 2014، وآخرون، بـ"قتل المتظاهرين"، ألمح فهيم، لتورط جهات دبلوماسية أجنبية في قتل المتظاهرين.
قال إن السيارتين الدبلوماسيتين المسروقتين، اللتين تم رصدهما تقومان بدهس المتظاهرين في محيط ميدان التحرير، في "جمعة الغضب"، 28 يناير/كانون الثاني 2011، ربما كانتا بقيادة أعضاء من "سفارة فرسان مالطا".
واضطر النائب العام السابق، هشام بركات، لفتح تحقيق في قضية سيارات السفارة يوم 8 أبريل/نيسان 2014 بعدما تلقى عدة بلاغات تتهم سفارة دولة "فرسان مالطا" بالقاهرة بالضلوع في أحداث العنف بمصر، لكن لا يعرف مصير هذه التحقيقات.
ومن المفارقات المثيرة للشبهات وجود أسماء طواغيت عرب ضمن سجلات فرسان مالطا، منهم رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي ظهر عضوا بفرسان مالطا ويحمل رتبة "وسام فرانسيس الملكي"، بحسب تحقيق لصحيفة "الحياة اللندنية" في 2 يناير 2015.
وذكرت الصحيفة أن رئيس النظام السوري، عضو في هذه الجماعة، إلى جانب كل من عائلة بوش في أميركا، ورئيس الحكومة البريطانية السابق، توني بلير، وطرحت علامة استفهام عن مدى علاقة الأسد بجماعة فرسان مالطا.
وتساءلت: "هل يدعم هؤلاء الرجل الذي يقف وراء النظام السوري بكل انتهاكاته والانتقادات الموجهة إليه في العلن من المجتمع الدولي؟ وهل هذا التنظيم من القوة حتى يساند الأسد فيكف عنه يد التدخل العسكري؟".
وأوضحت الصحيفة أن قيامها بعملية بحث تاريخية في الأسماء والأشخاص من ذوي المكانة السياسية المتقدمة الذين حضرت أسماؤهم في سجلات فرسان مالطا كشفت وجود أسماء شهيرة تنتمي للفرسان.
وأبرزهم، بريسكوت بوش وهو جد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، وطوني بلير وكذلك جورج بوش الابن وإيرك برنس مؤسس منظمة بلاك ووتر، والملياردير روكفلر واثنان من عائلة كينيدي هما جوزيف وتيد وملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وخوان كارلوس ملك إسبانيا السابق، وفاليري جيكار ديستان رئيس فرنسا السابق.
المصادر
- Grand Magistry announces death of H.E. the Lieutenant of the Grand Master Fra’ Marco Luzzago
- Who Are the Knights of Malta — and What Do They Want?
- Seymour Hersh unleashed
- فرسان مالطا .. سفارة بلا دولة!
- ما حقيقة دولة فرسان مالطة وهل حقا تخوض حربا صليبية؟
- بلا شعب ولا حكومة ولها 103 سفراء.. ماذا تعرف عن دولة فرسان مالطا؟
- في الذكرى الـ 900: فرسان مالطا أهل رحمة أم شياطين؟