عكس ادعاءاته.. الخسائر تدفع النظام المصري إلى مراجعة وجوده الإعلامي
.jpg)
للعام الثاني على التوالي، تعيش الشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" التابعة لجهات سيادية في مصر، والمسيطرة على قطاع الإنتاج الإعلامي، والإنتاج الفني، أزمة كبيرة تثير تساؤلات عن جدوى هذا النهج من النظام في جمع كل هذه الأنشطة لدى جهة واحدة.
وإثر موسم رمضان 2021، تعرضت الشركة التي تأسست عام 2016، لخسائر مالية فادحة وسط حديث عن وقائع فساد وشبهة إهدار المال العام وإنفاق باذخ على بعض الأعمال الدرامية دون تحقيق أرباح، ما أدى في النهاية إلى تغيير قيادة الشركة في 30 مايو/ أيار 2021 وإزاحة رئيسها المنتج تامر مرسي.
ورغم تغيير إدارة الشركة وتقديم إنتاج درامي وإعلاني جديد في موسم رمضان 2022، إلا أن أبرز خطط الشركة التوسعية المتمثلة في فضائية إخبارية كبرى جديدة تعرضت للتوقف على خلفية نقص التمويل، واستهلاك الميزانية كاملة قبل نهاية العام المالي في يونيو/ حزيران 2022.
قصة فشل
الإدارة الجديدة التي تولت الشركة في 30 مايو/ أيار 2022، برئاسة مساعد محافظ البنك المركزي الأسبق، الرئيس التنفيذي السابق للبنك العربي الإفريقي، حسن عبد الله، كانت قررت "تصحيح المسار".
وفيما عدته أبرز خططها الجديدة، أعلنت عن تدشين فضائية مصرية إخبارية كبرى منافسة لفضائية "الجزيرة" القطرية، كان مقررا انطلاقها بالربع الأول من عام 2022.
وبرغم انطلاق قناة "إكسترا نيوز"، في ديسمبر/ كانون الأول 2016، كفضائية إخبارية تابعة للمتحدة ومنافسة للجزيرة، إلا أنها ظلت محلية وغير مؤثرة لأسباب قدرها مراقبون بغياب الحرية الإعلامية وسيطرة الأمن على العاملين.
وأبرز دليل على ذلك ما عرف بواقعة "مذيعة السامسونج" في 18 يونيو/ حزيران 2019 خلال قراءة مذيعة لتوجيهات الأمن أثناء قراءتها للأخبار.
ولاقى إعلان الشركة عن تدشين فضائية إخبارية مصرية جديدة؛ انتقادات، خاصة في ظل وجود عشرات الفضائيات الإخبارية المملوكة للدولة التي يمكن تطويرها ودعمها للقيام بنفس الدور، مثل القناة الأولى والثانية وقناة النيل للأخبار وغيرها.
كما أشار مراقبون أيضا لوجود فضائيات إخبارية مملوكة للأجهزة السيادية المصرية مثل "أون"، و"دي إم سي"، و"سي بي سي"، و"الحياة"، وغيرها، منتقدين إهدار المال العام في فضائية جديدة بينما يمكن تطوير القائم منها.
ومع ذلك نال مشروع الفضائية الجديدة اهتماما كبيرا بتدشين استديو عملاق بالمبنى رقم "19" بمدينة الإنتاج الإعلامي، بهدف إعلان رؤية مصر الإقليمية والمحلية، واستهداف المصريين والعرب، والناطقين باللغة العربية ضمن تغطية قمر "النايل سات".
إلا أنه يبدو أن هذا المشروع تعثر بسبب قلة التمويل ورصد الشركة ميزانيات ضخمة لإنتاج مسلسلات أمنية عديدة في مقدمتها "الاختيار 3"، التي ضمت كبار نجوم مصر وتكلفت مبالغ كبيرة لم يعلن عنها، لكنها سببت احتقانا شعبيا وعزوفا عن المشاهدة.
وفي 31 مايو 2022، كشف مصدر داخل "الشركة المتحدة" لموقع "مدى مصر" الإلكتروني عن توقف العمل بمشروع القناة الإخبارية لاعتبارات تمويلية.
المصدر أكد أيضا، توقف 3 برامج ترفيهية للممثلة إسعاد يونس، والإعلامية منى الشاذلي، والممثل أمير كرارة في 3 فضائيات تابعة للشركة حتى يوليو/ تموز 2022، بسبب قلة التمويل وعدم القدرة على دفع مبالغ للضيوف.
كما أكد تلقي الشركة أوامر من الجهات السيادية المشرفة على عملها، مطلع مايو/ أيار 2022، بوقف العمل بمشروع القناة رسميا قبل الانتهاء من الأعمال الإنشائية في الاستوديوهات والأبنية الداخلية.
الأسباب التمويلية التي أشار إليها المصدر نالت برامج "معكم" بقناة "سي بي سي"، و"صاحبة السعادة" في "دي إم سي" و"سهرانين" على "أون إي".
إذ جرى وقف تصوير حلقات جديدة منذ عيد الفطر وحتى منتصف يونيو/ حزيران 2022، بسبب عدم كفاية ميزانية الشركة على تحمل نفقات ظهور النجوم.
تدهور متواصل
المثير هنا هو أن توجه الشركة بوقف الفضائية التي حلم بها السيسي لمواجهة الفضائيات المعادية من وجهة نظره، يؤكد فشل إدارة الشركة الجديدة بقيادة حسن عبدالله في إدارة ملف الإعلام والدراما بشكل متوازن، تماما كما فشل سلفه طارق مرسي.
كما أن ذلك الفشل يفتح ملف الانتقادات التي نالت الرئيس الجديد للمتحدة، والاتهامات التي كشفها قرار محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر بالإطاحة بعبدالله في 30 مايو 2019، من وظيفته كنائب أول له بالبنك المركزي ومن إدارة البنك العربي الإفريقي، وفق تقرير "قطاع التفتيش والرقابة بالبنك المركزي".
حينها كانت دعوى عامر، لإقالة حسن، هي وجود فساد مالي واستيلاء على المال العام ومنح كبار العملاء تسهيلات ائتمانية، واستخدام جزء منها في سداد تسهيلات وقروض ممنوحة لهم من البنك نفسه وبنوك أخرى.
إلا أن تلك التهم لم يتبعها أي تحقيقات أو مساءلة قضائية، بل وعلى الرغم من ذلك جرى استدعاء حسن عبدالله، لتسيير أعمال إمبراطورية الإعلام والدراما، لتبدو بعد عام نتائج أعماله بنفاد ميزانية الشركة قبل انتهاء العام المالي، وسط تكتم بشأن الخسائر التي نالت الشركة.
وعن خسائر الشركة في السنوات السابقة، قال مساعد رئيس "المتحدة"، طارق مرسي، في مؤتمر تقديم إدارة الشركة الجديدة في 30 مايو 2021، إن موسم دراما رمضان 2017 سجل خسائر بلغت 470 مليون جنيه (29 مليون دولار –سعر الدولار حينها 16 جنيها).
بينما كشف المدير التنفيذي للشركة حسام صالح، في ذات المؤتمر عن خسائر قاربت نصف مليار جنيه (31 مليون دولار) تكبدتها الشركة عام 2016.
ومن علامات فشل الإدارة الجديدة، والتي أزعجت النظام في مصر ما وقع من اختراق أمني عبر هاكرز ضرب أهم فضائيتين تابعتين للنظام "إكسترا نيوز" و"سي بي سي"، في 29 أبريل/ نيسان 2022.
إذ تم نشر خبر عن وفاة السيسي عبر صفحة الفضائيتين بتطبيق نبض الإخباري، وذلك في توقيت تكررت فيه الدعوات لرحيل السيسي والثورة عليه بفعل الأزمة الاقتصادية.
كما أن الأعمال الدرامية التي قدمتها خلال رمضان 2022، أثارت غضب الكثير من المصريين، خاصة مسلسل "الاختيار 3" الذي رأى فيه مصريون تشويها لحقائق عاشوها قبل 9 سنوات، ومسلسل "فاتن أمل حربي"، الذي أثار الجدل بنيله من الهوية الإسلامية لمصر وتشويه الدين الإسلامي وعلمائه.
وفي المقابل، تسعى الدراما بشكل لافت إلى تحويل انتباه المصريين إلى هويتهم الوطنية، مع تركيز على الانتماء للجيش والرئيس والدولة فقط، في تقزيم متعمد للهوية العربية والإسلامية.
"وثيقة الملكية"
الحديث عن وقف فضائية مصرية وتوقف 3 برامج ترفيهية يتلامس مع توجه الدولة المصرية بخفض حضورها في مجال الإنتاج الإعلامي والسينمائي، وذلك وفق مسودة "وثيقة سياسة ملكية الدولة" التي أعلنت عنها الحكومة المصرية ودعا السيسي في مارس/ آذار 2022، لإنجازها.
وفي 17 مايو/ أيار 2022، نشرت صحف محلية مسودة "وثيقة سياسة ملكية الدولة" معلنة أن الحكومة تسعى للتخلص من جميع استثماراتها وملكياتها بنحو 79 نشاطا، وكان على رأس تلك الأنشطة "إنتاج برامج التلفزيون والأفلام السينمائية".
وحينها حددت المسودة 3 مستويات لوجود الدولة في الأنشطة الاقتصادية، الأول التخارج بشكل كامل خلال 3 سنوات، والثاني الإبقاء مع تثبيت وتخفيض الاستثمارات الحكومية، والثالث الإبقاء مع تثبيت أو زيادة الاستثمارات.
وتضمنت الأنشطة التي تتخارج منها الدولة خلال 3 سنوات وفقا للمسودة، "أنشطـة نشـر وإنتاج برامج التلفزيون والإنتاج السينمائي، وأيضا صناعات الورق، مواد الطباعة والتغليف والدعاية والإعلانات المطبوعة.
لكن الدولة في المقابل ستبقي على نشاطها في البث الإذاعي والتلفزيوني، وتتجه للإبقاء مع زيادة استثماراتها في قطاعات طباعة الصحف والطباعة الرقمية والأوفست.
ومع الانقلاب العسكري منتصف 2013، توجه النظام للسيطرة على الصحف والفضائيات وشركات الإنتاج الدرامي والسينمائي وشركات التوزيع، والإذاعات، وشركات الإعلانات، والتسويق الرياضي وحقوق البث، وغيرها من الشركات المساعدة.
وذلك عبر تدشين الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التابعة للمخابرات والتي تسيطر بشكل تام على كل تلك القطاعات.
ويواجه العمل الصحفي والإعلامي قيودا أمنية وإدارية وقانونية، وجرى اعتقال العديد من الصحفيين بتهم تتعلق بعملهم أو إبداء آرائهم، فيما قام النظام بحجب أكثر من 600 موقع يبث من مصر وخارجها، ما حرم آلاف الصحفيين من مصادر دخل والتعبير عن آرائهم.
وفي 5 مايو 2022، حلت مصر بالمركز 168 من بين 180 دولة في المؤشر السنوي لحرية الصحافة العالمي لعام 2022، وفق منظمة "مراسلون بلا حدود".

وفي رؤيته لمدى تلاقي أنباء توقف الفضائية الإخبارية المصرية مع ما أعلن في مسودة وثيقة سياسة ملكية الدولة، قال الصحفي والإعلامي قطب العربي: "ما يحدث بقطاع الإعلام الآن يتسق شخصيا مع رؤية السيسي وخلفه القطاع العسكري من ضرورة أن يكون الإعلام تابعا للدولة ويكون أذرعا ومنابر تعبر عن سياسات النظام وتسوق لها".
"رئيس المرصد العربي للإعلام"، أضاف لـ"الاستقلال": "كما أن ما يحدث يستهدف تقليل الخسائر والمديونيات الكبيرة لقطاع الإعلام والتي تتجاوز 60 مليار جنيه (3.22 مليارات دولار)، 20 مليار جنيه منها للصحف القومية و40 مليار جنيه للتلفزيون الرسمي (ماسبيرو)".
وتابع: "ناهيك عن أن الشركة المتحدة نفسها تعرضت لخسائر كبيرة جدا، والأرقام ليست معلومة، ربما بسبب ضخامة الأعمال التي قدمتها بدون مردود حقيقي إذ أنتجت وأنفقت مليارات الجنيهات على أعمال فنية ولم تتحصل على إعلانات ومردود مالي مواز لهذا الإنفاق".
العربي، مساعد رئيس "المجلس الأعلى للصحافة" الأسبق، يرى أن "الهدف الأساسي الظاهر من وقف الفضائية وتجميد عمل البرامج الثلاثة هو تقليص ما تمتلكه الشركة من قنوات وصحف ومواقع وتقليص ما تنفقه على الإنتاج الدرامي والإعلامي، وهي المرحلة الثانية الجديدة".
وأكد أن "المرحلة الأولى كانت بهيمنة النظام على وسائل الإعلام التي كانت من وجهة نظره ضرورية لضبط الحالة الإعلامية وفقا لهواه، كما أنه كان مقتنعا بأن حرية الإعلام كانت السبب في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، وبالتالي وضع يده على الإعلام حتى لا تتكرر الثورة".
ويعتقد العربي، أن "المرحلة الأولى انتهت بالفعل؛ وهم يلمحون إلى انتهاء السنوات السبع العجاف ويدخل المرحلة الثانية وهي تقليص الإعلام، وهي القناعة الرئيسة للسيسي بأنه لا يحتاج إلى إعلام كثير، بل إعلام يكون مواكبا له فقط".
ولفت إلى "انتقاد السيسي السابق للبرامج الحوارية والتوك شو التي تبث 3 ساعات في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وبالتالي أصبح هناك توجيه بتخفيض عدد البرامج وساعات بثها أيضا، وهذا عندما نمد الخيط إلى نهايته ينطبق على المنظومة ككل بتقليصها كاملة".
ويرى الصحفي والإعلامي المعارض، أن "السيسي، يكفيه فقط صحيفتان أو ثلاثة يوميا، وفضائيتان أو ثلاثة، والباقي لا فائدة منه، لأن السيسي، من الأساس لا يؤمن بحرية الصحافة والإعلام".
وفي نهاية حديثه أكد العربي، أن "توقف قناة الأخبار التي وعد بها السيسي لسبب مالي حيث لا يستطيع منافسة الجزيرة وغيرها ماليا، والسبب الثاني أن الفضائية تحتاج حريات أوسع حتى يمكنها المنافسة، وهذا غير متاح والنظام لا يريده، ولو حدثت سيكون ثغرة بجدار الإعلام ويمكن أن تتسبب له في متاعب".