ثورة ثقافية أم تآكل دستوري؟.. قراءة في تحولات السياسة الأميركية زمن ترامب

منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في مطلع مايو/أيار 2025، أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب جدلا واسعا بعدما شكك علنا في أحد المبادئ الدستورية الأساسية للولايات المتحدة.

ففي مقابلة مع شبكة “إن بي سي” الأميركية، صرّح بأنه لا يعرف على وجه اليقين إذا ما كان غير الأميركيين يتمتعون بالحماية التي يكفلها التعديل الخامس للبلاد، رغم أن العديد من أحكام المحكمة العليا قد أكدت ذلك.

وعندما سُئل عمّا إذا كان عليه "التمسك بالدستور"، أجاب ترامب: "لا أعرف". وهي تصريحات علقت عليها مجلة فورين بوليسي بالقول: إن الرئيس انتهك إحدى أقدم وأقدس ركائز المشروع الأميركي.

ثورة ثقافية

وتساءلت المجلة في مقال للأستاذ في كلية الصحافة بجامعة كولومبيا، هوارد دبليو. فرينش، عمّا إذا كانت الولايات المتحدة تواجه فعلا "ثورة ثقافية" على النمط الصيني، ومدى وجاهة المقارنات التي تُعقد بين ترامب والزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ.

وقال "فرينش": "يُعدّ ذلك مؤشرا على مدى التدهور الحاد الذي لحق بالثقافة السياسية الأميركية خلال مئة يوم تقريبا من تولي ترامب منصبه، لدرجة أن مثل هذا التصريح الصادم بات يبدو وكأنه من الماضي السحيق بعد أقل من أسبوع".

ولا يعود ذلك فقط -بحسب المقال- إلى أن الأميركيين يواجهون بشكل شبه يومي خروقات للأعراف والتقاليد أو للقانون، "بل لأنهم باتوا أيضا مخدَّرين".

فكل موجة جديدة من الانحرافات المتعمدة والمستفزة عن المسار السابق تؤدي إلى ما يشبه التخدير الجماعي، وتُفقد الرأي العام حساسيته تجاه التجاوزات السابقة، وفق الكاتب.

وقبل يومين فقط من تصريحه بشأن الإجراءات القانونية الواجبة، نشر ترامب صورةً له على وسائل التواصل الاجتماعي مولَّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي، يظهر فيها بزيّ بابوي كامل.

كذلك، أخبر ترامب رئيس الوزراء الكندي الجديد، مارك كارني، أن “الوقت وحده كفيل بإثبات” إذا ما كانت الولايات المتحدة قادرة على ضم جارتها رغما عنها.

وتباهى بأن واشنطن ليست بحاجة إلى أسواق الدول الأخرى، وأصرّ -من دون أي أساس- على أن الرسوم الجمركية توفّر المال للبلاد.

ومن الأمثلة الأقل حماقةً -وفق وصف الكاتب- اقتراح ترامب فرض ضريبة بنسبة 100 بالمئة على الأفلام الأجنبية، واقتراحٍ آخر يُثير الحنين إلى الماضي بإعادة فتح سجن ألكاتراز في خليج سان فرانسيسكو.

وقال الكاتب: "بعد إعادة انتخاب ترامب، حين بدأ في تعيين أشخاص لا يمتلكون الحدّ الأدنى من الكفاءة لشغل مناصب وزارية، حذّرت في أحد مقالاتي من أن ولايته الثانية تهيّئ البلاد لشيء لا يقلّ عن ثورة ثقافية على غرار ما حدث في الصين".

"آنذاك، رأى بعض القرّاء أن هذا التوصيف مبالغ فيه، لكن منذ أن تولّى الرئيس الأميركي منصبه، أخذ كثيرون آخرون يُجرون المقارنة ذاتها، بين عهد ترامب الجديد والعقد الأخير من حكم ماو تسي تونغ، من عام 1966 إلى 1976".

وقد بدأت تلك الفترة بمحاولة لإثارة الاحتجاجات ضد الدولة بهدف إزالة العوائق أمام السلطة الشخصية لماو، وسرعان ما تحوّلت إلى فوضى مدمّرة وقاتلة.

وقال إن أولئك المتشككين في وصف اللحظة الحالية بأنها ثورة ثقافية، شاركوني استغرابهم من أن الولايات المتحدة قد تكون على طريق حرب أهلية عنيفة، أو أن ترامب وأنصاره الأكثر تطرفا سيشجّعون علنا الهجمات المسلحة ضد منتقديهم، كما فعل المقربون من ماو.

وأضاف: "أجد من الصعب استبعاد أن يُقدم ترامب على المزيد من تكتيكات التمرد بعدما حدث في 6 يناير/كانون الثاني 2021 (هجوم أنصار ترامب على مبنى الكابيتول)، لكن التنبؤ بحرب أهلية أميركية لم يكن الهدف الرئيس من هذه المقارنة".

تفكيك النظام

وأوضح أن "الفكرة كانت أن الإدارة الجديدة تخوض حملة واسعة ونشطة -وإن بدت في كثير من الأحيان عشوائية- لتفكيك النظام الأميركي، وفي القلب منه الحدود الدستورية على السلطة التنفيذية، والمكانة الأساسية للمجتمع المدني، وحتى الحريات الصحفية وحرية التعبير". 

وتساءل الكاتب بالقول: اليوم، من سوى أنصار ترامب الأكثر تطرفا يشكك حقا في هذا؟

وقال: "مع تَقدُّم الولاية الثانية لترامب، تزداد حدة التناقضات، لا أوجه التشابه، بين تجربة الولايات المتحدة تحت حكمه -بما تتسم به من فوضوية فطرية، وعبث متعمد، وروح انتقامية، وثقة عمياء بالنفس- وبين معاناة الصين تحت حكم ماو".

ومن البديهي أن النظامين الأميركي والصيني كانا مختلفين جذريا منذ البداية، فالولايات المتحدة، بحكم القانون، ديمقراطية انتخابية، أما الصين، وفقا لتصميمها الذاتي واعترافها الصريح، فهي ديكتاتورية سلطوية يقودها الحزب الشيوعي، وفق قوله.

وأشار إلى أن من أبرز ما يميز تجربة الصين خلال الثورة الثقافية سرعة انهيار سلطتها المركزية التي لطالما بُجلت.

 فعلى الرغم من أن ملايين الصينيين مجّدوا ماو كأنه شبه إله، فإنه هو نفسه وجد أنه عاجز تقريبا عن السيطرة على ما أطلقه من عنف وفوضى.

واستند الكاتب إلى حديث مع أندرو والدر، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ستانفورد والمتخصص في الثورة الثقافية، عمّا إذا كان ينبغي مقارنة تلك الحقبة بالولايات المتحدة.

وقال والدر: "كانت المقاومة للثورة الثقافية الناشئة بين عامَي 1966 و1967 ضئيلة للغاية، ففي الواقع، انهار هيكل الدولة من الداخل، إذ أطاح الموظفون العاديون برؤسائهم".

وأضاف أن ما يميز الولايات المتحدة هو أنها "تمتلك التصميم السياسي الأكثر تطورا في العالم من القرن الثامن عشر، فلقد وضع المؤسسون العقبات في كل مفصل من مفاصل النظام، وكان ذلك فعالا للغاية (في منع تغوّل السلطة التنفيذية)".

وقد أظهرت الأسابيع الأخيرة العديد من المؤشرات على ذلك. فقد تحدّت حاكمة ولاية مين، جانيت ميلز، سياسات ترامب بشأن الرياضيين المتحولين جنسيا، ونجحت في صدّ محاولات إدارته الانتقامية لخفض تمويل التعليم في ولايتها.

كما منع قاضٍ فيدرالي ترامب من معاقبة شركة محاماة كبيرة بسبب تمثيلها لأشخاص وقضايا يعارضها. 

وحتى بعض القضاة المحافظين أصدروا أحكاما تدين استخدام ترامب لقانون "الأعداء الأجانب" لترحيل المهاجرين.

وعلى هذا، يقول الكاتب: "لا تكفي السلطة القضائية الأميركية وحدها لمنع ترامب من إلحاق ضرر بالغ وجذري بالنظام السياسي في البلاد. فالرجل لا يزال في بداية ولايته، ولا يبدو عليه أنه تعلّم شيئا من التجارب السابقة".

وأوضح: "رغم أنني قد لا أشارك والدر تفاؤله الكبير بشأن قدرة الديمقراطية الأميركية على الصمود، فإنني لست متشائما إلى الحد الذي يجعلني أعتقد أن كل شيء سينهار في الولايات المتحدة كما حدث في الصين خلال الثورة الثقافية".

وتابع: "القول إن الكثير يتوقف على الحزب الجمهوري لا يعني الانحياز الحزبي؛ هو حقيقة موضوعية، إذ إن قلّة فقط من الجمهوريين في الكونغرس -أو حتى في الحزب نفسه- أبدوا رغبة حقيقية في الدفاع عن الأعراف السياسية الراسخة التي هاجمها ترامب، فضلا عن انتقاده مباشرة".

وأكد أنه "من دون كونغرس مستعد لأداء دور نشط في كبح سلطات الرئيس، فإن السلطة القضائية، مع مرور الوقت، ستغدو على الأرجح أضعف من أن تحمي النظام الدستوري في واشنطن والحكم الديمقراطي الذي يقوم عليه".

سيناريو قاتم

وأشار الكاتب إلى أن كثيرا من الأميركيين لا يزالون يعوّلون على أن تؤدي نجاحات الحزب الديمقراطي في انتخابات منتصف الولاية لعام 2026 إلى كبح جماح ترامب بفعالية.

لكن ذلك ليس أمرا محسوما، فنتائج الانتخابات، كما هو الحال دائما، لا يمكن ضمانها، ومع مزاعم ترامب الكاذبة بشأن العملية الديمقراطية السابقة، يصعب استبعاد حتى أكثر السيناريوهات قتامة.

هل ستُجرى الانتخابات أصلا؟ وإن جرت، فهل ستكون حرة ونزيهة؟ وهل سيحترم ترامب، الذي أظهر ميلا لتجاهل قرارات المحاكم، إرادة كونغرس تقوده المعارضة؟

وقال الكاتب: إن "الأميركيين غير معتادين على مثل هذه الشكوك الجذرية بشأن نظامهم، لكن من الحكمة أن يأخذوها في الحسبان".

ومع ذلك، يرى أن والدر كان محقا في حديثه عن "وضع الرمال في التروس" كجزء من تصميم الآباء المؤسسين.

ويمكن تلمّس ذلك في طريقة عمل الولايات، التي تحتفظ بهامش واسع من الاستقلالية، وتمتلك موارد خاصة بها تمكّنها من الدفاع عن الحياة الديمقراطية ومقاومة نزعات الاستبداد الصادرة من البيت الأبيض، وفق الكاتب.

ومع ذلك، يعتقد أن "الدرع الأخير، قد يكون الرأي العام، وهذا أمر كان أقل أهمية في الصين الماوية أو حتى في بكين الحالية؛ لأن الدولة تُحكم قبضتها على المعلومات، ولا تُتيح للجمهور سوى فرصة ضئيلة للتشكيك علنا في السياسات الرسمية".

ووفقا لاستطلاعات الرأي، يحظى ترامب حاليا بأدنى دعم شعبي بين أي زعيم أميركي في الثمانين عاما الماضية، وتميل نسب التأييد إلى الانخفاض، لا الارتفاع، بعد فترة شهر العسل التي تلي التنصيب.

"وفي النهاية، سيكون الأمر متروكا للشعب الأميركي ليقرر مدى اعتزازه بالديمقراطية التي بناها على مر الأجيال"، وفق الكاتب.

وأردف: "رغم ما يدعو للقلق في أن نحو 40 بالمئة من السكان لا يزالون يلتفون حول ترامب رغم تجاهله المتكرر للنظام الذي صممه مؤسسو البلاد، فإن هذه النسبة تشير إلى أن عددا أكبر من الأميركيين ما زال يهتم بالحفاظ عليه".