نقلة نوعية.. لماذا تفضل الدول الإفريقية استثمارات تركيا على أوروبا؟

رامي صباحي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في كلمته خلال القمة الثالثة للشراكة التركية الإفريقية، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن علاقات بلاده مع القارة السمراء وصلت إلى مستويات لم يكن من الممكن تصورها قبل 16 عاما.

وشهدت العلاقات بين تركيا وإفريقيا تطورات كبيرة خلال العقدين الأخيرين، تكللت بزيارات وقمم عديدة رفعت العلاقات بينهما إلى ما يعتبره كثيرون "شراكة إستراتيجية" مميزة عن مثيلاتها.

واستضافت مدينة إسطنبول في الفترة من 16 إلى 18 ديسمبر/كانون الأول 2021، أعمال النسخة الثالثة من قمة الشراكة التركية الإفريقية، وتخللها لقاءات جمعت أردوغان مع عديد من رؤساء ومسؤولي دول القارة.

عودة قوية

وحظيت القمة باهتمام دولي وإقليمي، نظرا لحجم المشاركة الكبير من جانب رؤساء دول وحكومات إفريقية عديدة، فضلا عن عشرات الوزراء، وممثلي مؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام.

وعقدت النسخة الأولى من قمة الشراكة التركية الإفريقية عام 2008 بمدينة إسطنبول، فيما استضافت عاصمة غينيا الاستوائية مالابو النسخة الثانية عام 2014.

وجرت أعمال القمة الثالثة تحت شعار "تعزيز الشراكة من أجل التنمية والازدهار المشترك"، بمشاركة 16 زعيما إفريقيا، و100 ووزيرين، بينهم 26 وزير خارجية.

ومن أبرز الزعماء المشاركين بالقمة، رئيس نيجيريا محمد بخاري، ورئيس الصومال محمد فرماجو، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، ورئيس إفريقيا الوسطى فاوستين أرجانغ تواديرا.

كما شارك فيها رئيس موريتانيا محمد ولد شيخ الغزواني، ورئيس جزر القمر غزالي عثماني، ورئيس رواندا بول كاغامي، ورئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله، فضلا عن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي.

وجاءت القمة في وقت يشهد فيه العالم ظروفا اقتصادية وصحية صعبة، على خلفية جائحة كورونا، وما نتج عنها من متحورات، كان آخرها "أوميكرون" الذي يعتقد أن جنوب إفريقيا كانت مهدا له.

وفق موقع وزارة الخارجية التركية، أعدت أنقرة في عام 1998 خطة الانفتاح على إفريقيا لتحقيق نقلة نوعية على صعيد العلاقات السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية مع دول القارة.

في إطار ذلك، أعدت مستشارية التجارة الخارجية في تركيا عام 2003 "إستراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية". وأعلنت الحكومة التركية 2005 "عام إفريقيا".

ومنذ ذلك التاريخ تنوعت العلاقات التركية مع القارة الإفريقية، وزاد عدد الزيارات المتبادلة الرفيعة المستوى وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية وإنشاء الآليات الثنائية الاقتصادية والسياسية بين الجانبين.

وفي 12 أبريل/ نيسان 2005، نالت أنقرة صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، وعقب نحو 3 سنوات أعلن الاتحاد تركيا في يناير/كانون الثاني 2008 "شريكا إستراتيجيا له".

ونالت تركيا في فبراير/ شباط 2008 عضوية بنك التنمية الإفريقي وصندوق التنمية الإفريقي، كما انضمت إلى منتدى الشركاء الدولي التابع للهيئة الحكومية الدولية للتنمية "إيغاد" في يونيو/ حزيران من نفس العام.

زخم متواصل

خلال مؤتمر صحفي مع زعيم الكونغو الديمقراطية، رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي فيليكس تشيسيكيدي على هامش قمة الشراكة الثالثة، قال أردوغان إن العلاقات التركية الإفريقية اكتسبت زخما متواصلا منذ عام 2005.

وأضاف أنه أجرى حتى اليوم 50 زيارة إلى 30 دولة إفريقية، وارتفع عدد سفارات بلاده في القارة من 12 عام 2005 إلى 43 في 2021، و"نأمل أن يرتفع هذا العدد إلى 49 سفارة في الفترة المقبلة".

فيما زاد عدد السفارات الإفريقية في أنقرة من 10 إلى 37. وفي نفس الفترة زاد عدد مكاتب الاستشارات التجارية بين الجانبين التي تلعب دورا مهما في تطوير التجارة الثنائية من 6 إلى 38.

كما لفت إلى أن أكثر من 14 ألفا طالبا إفريقيا استفادوا من المنح الدراسية في تركيا.

وأوضح أردوغان أنهم بحثوا خلال القمة قضايا تعزيز قدرات التعليم والصحة والزراعة والموارد البشرية في القارة الإفريقية خلال السنوات الخمس المقبلة.

وتابع: "نحن نريد أن نربح وننمو معا ونرفع من رفاهية شعوبنا معا".

من جانبه، أكد تشيسيكيدي أن قمة الشراكة الثالثة ستدخل التاريخ في علاقات تركيا مع دول إفريقيا، والقارة ستتغلب على التحديات بالتعاون الثنائي مع أنقرة.

ولفت إلى أن تركيا بلد يهتم بشكل خاص بإفريقيا ويقف إلى جانبها، وأن بلاده أظهرت إرادة قائمة على أساس الربح المتبادل مع دول القارة.

رابح رابح

وعن سر هذه العلاقة بين الجانبين، قال برهان الدين دوران، رئيس مركز دراسات "سيتا" التركي (مستقل) إن إفريقيا اشتهرت في الماضي بالفقر والصراعات الداخلية والهجرة، إلا أنها أضحت واحدة من المناطق الصاعدة في القرن الحادي والعشرين.

إذ تقع 7 من بين أسرع 10 دول نموا في العالم عام 2020 في إفريقيا، وهذا ما يفسر الاهتمام الوثيق للدول الرائدة بالقارة.

وأضاف في مقال على موقع المركز في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2021 أنه إضافة إلى تركيا تهتم الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وفرنسا والإمارات والسعودية والهند بإفريقيا، غير أن رؤية أنقرة للقارة تقدم "بديلا" للسياسات الحالية للقوى الاستعمارية القديمة والجديدة.

فوفق دوران: تنتقد الدول الغربية في إفريقيا لاستمرارها في نهجها الاستعماري البائد.

فمثلا فرنسا لا يمكنها التهرب من عبء ماضيها المخزي، كما أن هناك أدلة على أن الصين تلعب دورا من شأنه أن يؤسس للتبعية (فخ الديون) من خلال “التنمية” في القارة، وفق قوله.

فيما يثير دور "مزود الأمن” الروسي مخاوف بشأن انتشار مرتزقة فاغنر في القارة.

وأردف: لهذا تجذب رؤية تركيا التي بدأت بالمساعدات الإنسانية والتي تقوم على “المساواة والمنفعة المتبادلة” المزيد من الاهتمام.

وأوضح دوران أن رؤية تركيا تستند إلى فهم إفريقيا من منظور الأفارقة ومفهوم التنمية المشتركة.

وتمتد مجالات الشراكة بين الجانبين من مساعدات التنمية إلى البنية التحتية والزراعة، ومن الصحة والاتصالات إلى الدفاع. 

ولفت إلى أن "أداء الطائرات المسيرة المسلحة التركية في حروب ليبيا وسوريا وقرة باغ بأذربيجان سبب آخر لإعجاب القادة الأفارقة بتركيا، وقد أبدت دول إفريقية مثل إثيوبيا وأنغولا والمغرب وتونس اهتماما بشرائها".

أسس إنسانية

من جانبه، أرجع المؤرخ الموريشي أسعد بوقلة في مقابلة مع وكالة الأناضول التركية في 17 ديسمبر/كانون الأول 2021 تطور العلاقات التركية الإفريقية إلى قيامها على أسس إنسانية مبنية على الأخوة والتعاون والشراكة المتبادلة.

وأشار بوقلة إلى أن العلاقات مع تركيا تختلف عن الدول الأخرى ذات التاريخ الاستعماري في إفريقيا، من حيث الأسس والمغزى، فأنقرة لا تفرض أجندتها كما تفعل القوى الغربية التي استغلت موارد القارة لتمكين سيطرتها على مفاصل الحكم.

وبين أن تركيا تسعى إلى تنمية الشعوب الإفريقية، وتمكينها من استخدام مواردها الخاصة.

وذكرت وكالة الأناضول في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أن الوكالة التركية للتعاون والتنسيق "تيكا"، ومعهد يونس إمره، ووقف المعارف التابع لوزارة التربية، هي أبرز المؤسسات الحكومية التي تنشط بمشاريع تنموية في إفريقيا.

وتعرف المؤسسات الثلاث بأنها القوة الناعمة للسياسات الخارجية التركية، حيث تساهم بدور كبير في الدبلوماسية الإنسانية وتعزيز أواصر التعاون بين تركيا والبلدان التي تنشط فيها.

وافتتحت "تيكا" أول مكاتبها في إفريقيا، عام 2005 بإثيوبيا، واليوم تمتلك مكاتب في 22 بلدا إفريقيا، ونفذت 7 آلاف مشروع في مختلف المجالات، أبرزها التعليم، والصحة، والزراعة، وشق آبار المياه، إلى جانب تطوير البنى التحتية.

فيما يبرم معهد يونس إمره بروتوكولات تعاون مع مدارس وجامعات وجمعيات إفريقية عديدة لتقديم دروس في اللغة والثقافة التركية.

كما تقدم مدارس وقف المعارف أنشطة تعليمية وثقافية واجتماعية في تلك الدول، من أجل رفع جودة التعليم فيها وتعزيز العلاقات مع تركيا.

خلال كلمة على هامش القمة، أعرب أردوغان عن ثقته بإمكانية رفع حجم التبادل التجاري مع قارة إفريقيا إلى 50 مليار دولار كخطوة أولى ثم إلى 75 مليار دولار، بعدما تجاوز 25.3 مليار دولار في 2020.

وأوضح أن حجم التبادل التجاري خلال الأشهر الـ11 الأولى من 2021 وصل إلى 30 مليار دولار، وقيمة الاستثمارات التركية على مستوى القارة بلغت 6 مليارات دولار.

وقال إن الشركات التركية تتولى أكثر من 1150 مشروعا في القارة الإفريقية بقيمة 70 مليار دولار تقريبا.

وكشف أردوغان أن حكومته تخطط لإرسال 15 مليون جرعة لقاح كورونا إلى إفريقيا في الفترة المقبلة، في ظل غياب العدالة العالمية في عملية توزيع اللقاحات.

فيما قالت مجلة "فاينانشال أفريك" الصادرة بالفرنسية (مقرها السنغال) في تقرير لها في 9 ديسمبر/كانون الأول 2021 أن الوجود التركي في القارة يلقى استحسان الشباب الإفريقي المتعطش لرؤية دول قارتهم تنوع علاقاتها الدولية.

وأضافت أن تركيا أثبتت في مجال الإنجازات الاقتصادية للأفارقة قدراتها الفنية، وصرامتها في احترام المواعيد النهائية المتفق عليها، والتزامها باحترام الشركاء المحليين دون أي روح تفوق غير مرحب بها.

ولفتت إلى أن تركيا نفذت عديدا من البرامج الإنسانية، وطورت كثيرا من الأعمال الخيرية، وبنت مساجد كثيرة في إفريقيا، أبرزها مسجد "الأمة" في غانا غربي القارة.

قوة خشنة

على الجهة المقابلة، رأت قناة فرانس 24 الفرنسية أنه لا يكاد يمر عام إلا ويجري الرئيس أردوغان زيارة واحدة على الأقل لدول القارة الإفريقية، آخرها جولة ثلاثية شملت أنغولا وتوغو ونيجيريا في الفترة بين 17 و20 أكتوبر 2021.

ولفتت بتقرير لها في 20 أكتوبر 2021 إلى أن المسائل المتعلقة بالأمن والدفاع لا تغيب عن جدول أعمال أردوغان، فغياب الاستقرار الأمني والتهديدات التي يمثلها الإرهاب في دول الساحل وجنوب الصحراء تشكل لأنقرة فرصة ذهبية لإقامة شراكات إستراتيجية مع هذه البلدان.

وأضافت أن تركيا تنتج كثيرا من المعدات العسكرية، من الفرقاطات والمصفحات والصواريخ وصولا إلى المسيرات، التي "تعد لؤلؤة وفخر الصناعات العسكرية التركية".

وتابعت: "المسيرة تي.بي2 على سبيل المثال، أرخص بعشرين مرة من الطائرات المقاتلة وجديرة بالثقة. وأثبتت فعاليتها على أربع جبهات في السنوات الأخيرة. كما أنها تعد سلاحا مهما للبلدان المتصارعة مع جيرانها أو تلك التي تنتشر فيها التمردات المسلحة.

و"إضافة لتجارة الأسلحة، فإن تركيا تتمتع بوجود عسكري مهم على أراضي القارة بأكبر قاعدة حربية خارج أراضيها في الصومال".

كما وقعت أنقرة اتفاقية أمنية، لا تزال بنودها سرية، مع النيجر عام 2020، تشمل إرسال جنود أتراك إلى نيامي من أجل تدريب ودعم قواتها في حربها ضد تنظيم بوكو حرام الإرهابي، تضيف القناة الفرنسية.

الأمر نفسه أكده موقع "ميدل إيست آي" البريطاني خلال تقرير في 21 أكتوبر 2021 بالقول إن تركيا تجاوزت مقاربتها عبر القوة الناعمة لتصبح فاعلا مغيرا لقواعد اللعبة في السياسة الإفريقية، من خلال مبيعات الطائرات المسيرة.

وأضاف أن "تركيا لديها اليد العليا في مواجهة القوى الأوروبية داخل القارة؛ لأنها لا تحمل إرثا استعماريا. ولم تتبن يوما سياسة في إفريقيا مفادها افعل ولا تفعل".

مقاربة مميزة

من جانبه، اعتبر "كان ديفيجي أوغلو"، الباحث في الشؤون الإفريقية بمركز دراسات الشرق الأوسط التركي أن أنقرة تحرص في علاقتها مع إفريقيا على مراعاة حساسيات واحتياجات دول القارة ومن ثم تمضي قدما بخطوات حذرة وواثقة.

وهي تعي قدرات واحتياجات تلك الدول من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وتسخر أجهزتها الحكومية والخاصة في هذا الطريق.

وأضاف لـ"الاستقلال" أن تركيا تقدم مساهمات مهمة في تنمية البلدان الإفريقية عبر إعطاء الأولوية للمصالح المشتركة وليس الأحادية فقط.

ولفت إلى أن تركيا تفرض وجودها في السوق الإفريقية الضخمة وفق مقاربة تتجاوز كافة أنشطة الدول الفاعلة الأخرى بالقارة كالصين أو الدول الأوروبية أو بلدان الخليج، ومن الواضح أن هذه المقاربة أدت إلى زيادة حجم التجارة والتعاون بين الجانبين.

 لذا يمكن القول إن تركيا عبر مواصلة نفس مقاربتها وإستراتيجياتها الحالية مرشحة لتتجاوز الدول ذات النفوذ والعلاقات التجارية الكبرى في ذلك السوق.

وأشار ديفيجي أوغلو إلى أن حجم المشاركة الكبير في قمة الشراكة الثالثة هو دليل حقيقي على أن إفريقيا تثق في تركيا. وهذه الثقة بالتأكيد لم تكن وليدة اليوم.

كما لفت إلى أن لدى المواطن الإفريقي العادي عاطفة عميقة تجاه تركيا، ويرجع الفضل في ذلك إلى عدم وجود ماض استعماري لها في القارة.

وبين أن تركيا تتبنى دبلوماسية إنسانية في القارة، ومع ذلك لا تزال هناك خطوات عديدة يجب اتخاذها لتعميق التعاون بين الجانبين.