انسحاب أم مراوغة.. ما حقيقة عزوف رموز سنة لبنان عن الانتخابات؟ 

مصطفى العويك | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

منذ مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تتداول وسائل إعلام لبنانية معلومات عن إحجام عدد من أبرز الشخصيات السنية المؤثرة عن خوض غمار الانتخابات النيابية.

وبدأت تظهر تجليات هذا الوضع المأساوي للسنة بقوة مع اقتراب الانتخابات التشريعية في مارس/آذار 2021، التي يعول عليها كثيرا المجتمع الدولي، لإحداث خرق في جدار الأزمة اللبنانية.

وفي مقدمة هذه الشخصيات، رئيس الحكومة الأسبق وزعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، ورئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، ورئيسا الحكومتين السابقتين تمام سلام وفؤاد السنيورة، فيما تدور شكوك حول ترشح عدد من النواب الحاليين. 

وبينما يفسر البعض انسحاب هذه القيادات على أنه إعلان هزيمة أمام حزب الله وحلفائه، في ظل غياب الدعم السياسي العربي والخليجي خاصة، يراه البعض مناورة سياسية ستضح معالمها مستقبلا، فيما يعتبره آخرون أنه قد يكون تحييدا للنفس عن أزمات جديدة قادمة لا يريدون تحمل أوزارها.

أزمات قديمة

وتعيش الساحة السنية في لبنان حالة تخبط غير مسبوقة منذ استقلال البلاد عام 1943. 

وانحسر تأثير السنة السياسي، وفق مراقبين، بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير/ شباط 2005، تحت وطأة هيمنة حزب الله الشيعي ورئيس الجمهورية الماروني ميشال عون على قرار الدولة.

وما زاد الطين بلة، افتقاد السنة الدعم العربي الذي طالما كان سندا قويا لهم، حيث ابتعدت الدول العربية الواحدة تلو الأخرى عن دعم لبنان، ووصل الأمر إلى القطيعة الدبلوماسية بين غالبية العواصم الخليجية وبيروت، بسبب نفوذ حزب الله المتصاعد في السنوات الأخيرة.

فيما ترجع الأزمة الحالية بين الرياض وبيروت إلى تصريحات لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، قال فيها إن "الحوثيين في اليمن يدافعون عن أنفسهم ضد اعتداءات السعودية والإمارات"، الأمر الذي نددت به السعودية، وسحبت هي والإمارات والبحرين والكويت واليمن تباعا سفراءها من بيروت.

ويعاني لبنان منذ نحو عامين أزمة اقتصادية حادة تسببت بانهيار مالي، وشح في الوقود والأدوية وسلع أساسية أخرى، فضلا عن انقطاع الكهرباء عن المنازل والمؤسسات لساعات طويلة.

وكرس اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975 إلى 1990) معادلة اقتسام السلطة في البلاد على أساس الانتماءات الدينية والطائفية، لتكون الرئاسات الثلاث بواقع، الجمهورية للمسيحيين والحكومة للسنة والبرلمان للشيعة.

الحريري اللغز

منذ مغادرته لبنان بعد أيام قليلة من تشكيل حكومة ميقاتي في منتصف سبتمبر/ أيلول 2021، دخل الحريري في حالة سبات سياسي عميق، حيث اختفى بشكل تام، مكتفيا بتغريدات مقتضبة وبيانات صادرة عن مكتبه الإعلامي عند اللزوم فقط.

وهذه ليست المرة الأولى التي يغيب فيها الحريري، لكنها الأولى التي يجرى فيها الحديث بشكل جدي عن عزوفه عن خوض الانتخابات وحتى عن رغبته في اعتزال السياسية نهائيا، والعودة إلى أعماله الخاصة، التي تدهورت كثيرا، وفق تقارير مالية، منذ دخوله عالم السياسة.

لذا، يعيش تيار المستقبل، مسؤولون وقاعدة، حالة من الارتباك، في ظل أخبار نعي التيار على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية. 

في مقال بجريدة "الأخبار" اللبنانية كشفت الصحفية ميسم رزق في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن الحريري أبلغ عمته بهية (نائب عن مدينة صيدا)، وابنها أحمد (أمين عام تيار المستقبل)، رغبته في العزوف عن الترشح للانتخابات المقبلة وعدم تشكيل لوائح تحت اسم تيار المستقبل. 

ولفتت رزق إلى أن الحريري قد يكون يقوم بمناورة للوصول إلى اتفاق مع الرياض، والفوز بتمويل انتخابي يكفي لإعادة إطلاق العمل السياسي والإعلامي والاجتماعي.

 لكنها في المقابل أشارت إلى معلومات واردة من باريس عن أن الحريري قرر أن يستريح لفترة، على أن يكون له في الفترة المقبلة مواقف تصعيدية ضد حزب الله.

في حين كتبت الصحفية راكيل عتيّق، في جريدة "الجمهورية" المحلية، في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، نقلا عن مصادر قيادية في تيار المستقبل أن صمت الحريري حتى الآن مريب، وعليه أن يحسم أمره.

وترى عتيق أن تأخره في العودة إلى بيروت وإعلان قراره، مرده إلى أن الأمور لم تنضج بعد، فهو ما زال يدرس خياراته، والتي حتما هي عرضة للتأثر بالتطورات الإقليمية والدولية.

واعتبرت أن الأسباب التي قد تدفع الحريري الى إنهاء وجوده السياسي كثيرة، في مقدمتها تخلي السعودية عن دعمه سياسيا، وفشل التسوية التي أبرمها مع الرئيس عون لتشكيل حكومة مستقلة.

فضلا عن أزمة الخطاب السياسي الذي سيخوض به الانتخابات، والتعثر المالي الشخصي وانعكاسه على مؤسسات التيار، والمعطيات التي تشير الى تغيير إقليمي كبير في السنة المقبلة.

في المقابل، يرى مصطفى علوش، نائب رئيس تيار المستقبل، أن هناك فراغات سياسية كبرى، خاصة على الساحة السنية، بسبب غياب الحريري. 

ويقول في حديث لـ"الاستقلال": "نحن كتيار نؤكد أن مسألة العلاقة مع دول الخليج مسألة حيوية في لبنان، خاصة أن هناك مئات الآلاف من العاملين اللبنانيين في دول الخليج، يساهمون في تخفيف معاناة عائلاتهم.

"إضافة إلى الفراغ الذي يحدثه غياب تيارنا في هذا التوقيت الحساس، لذلك سنبقى على قناعة لحث الرئيس الحريري على العودة بأسرع وقت ممكن"، يضيف علوش. 

عدوى العزوف

امتناع الحريري عن خوض الانتخابات يبدو أنه بمثابة عدوى تفشت في الساحة السنية، فظهرت أنباء كثيرة تتحدث عن "ميل" رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي أيضا إلى العزوف عن الترشح للانتخابات النيابية.

وميقاتي يعد وفق مراقبين مراوغا بارعا، وعندما سئل في مقابلة تلفزيونية في سبتمبر/ أيلول 2021، بعد أيام على تشكيلة الحكومة، عن موقفه من الترشح للانتخابات، رد بشكل مبهم: "لم أتخذ قراري بعد، وسأعلنه قبل ساعات من إقفال باب الترشح"، الأمر الذي أبقى الباب مفتوحا على مصراعيه أمام تكهنات مختلفة.

وفي مقالة بصحيفة "المدن" المحلية، في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، قالت الصحفية جنى الدهيبي، أن ميقاتي لم يُطلق ماكينته الانتخابية، لأنه لم يحسم مسألة ترشحه، المرتبط بالإنجازات التي يمكن أن تحققها حكومته.

فيما أورد الصحفي عبد الكافي الصمد، أن من بين الخيارات التي يدرسها ميقاتي الامتناع عن خوض الانتخابات، على أن يدعم لائحة من المرشحين المحسوبين عليه ومن الحلفاء، بهدف الفوز بكتلة نيابية تعبر عن حيثياته السياسية في طرابلس والشمال.

 وعن مقربين من ميقاتي نقل الصمد في تقرير بموقع "أحوال ميديا" المحلي في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قولهم: "لدى الرئيس نية في البقاء على رأس الحكومة حتى نهاية عهد رئيس الجمهورية، والاستمرار مع الرئيس الذي سيخلفه". 

والحال نفسه أيضا مع رئيس الحكومة الأسبق ونائب بيروت تمام سلام، حيث ذكرت الصحفية غادة حلاوي في مقالة في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 بصحيفة "نداء الوطن" المحلية، أنه من المرجح عزوف سلام عن الترشح.

 ما يعني إقفال بيت عائلة بيروتية عريقة، فوالده كان زعيما سنيا بارزا ورئيسا للحكومة عدة مرات، وجده كان زعيما بيروتيا أيضا. 

كما توقعت حلاوي غياب شخصيات كثيرة عن تمثيل بيروت في هذه الدورة، مسيحية وسنية على وجه الخصوص، بسبب اختلاف الظروف، وتعقيدات الوضع الاقتصادي.

وإلى جانب سلام، كان رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة أكد وبشكل قاطع أمام عدد من الصحفيين في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 عدم خوضه للانتخابات النيابية. 

 وفي سياق متصل، أورد موقع "ليبانون فايلز" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 أن نائب بيروت، وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق يميل إلى عدم خوض الانتخابات النيابية. 

وكان المشنوق انفصل عن كتلة المستقبل بعد الانتخابات الماضية مباشرة، واتخذ مسارا سياسيا منفصلا عن الرئيس سعد الحريري، ولم تعرف الدوافع الكامنة وراء عزوفه.

وفي طرابلس، عاصمة السنة في لبنان، كان وزير العدل الأسبق أشرف ريفي، الخارج من صفوف تيار المستقبل أعلن في مقابلة متلفزة، في مايو/ أيار 2020، عدم ترشحه إلى الانتخابات.

والى جانب ريفي، هناك نائب طرابلس في كتلة المستقبل سمير الجسر، الذي قرر اعتزال العمل السياسي، نظرا للأوضاع السياسية المعقدة، ومن المعروف عن الجسر أنه مشرع بارز، ولا يهوى الخطابات الشعبوية والتعبوية ذات النفس الطائفي أو المناطقي.

تداعيات متوقعة

وتعليقا على هذه المواقف، رأى المحلل السياسي اللبناني أحمد الأيوبي أن "خطوة بحجم عزوف قيادات السنة عن خوض الانتخابات النيابية المقبلة، في حال تجسدت رسميا، لن تكون، مهما جاءت تفسيراتها، خطوة عابرة، بل سوف تترك تداعيات كثيرة على كل المستويات".

وأضاف لـ"الاستقلال": هذه الخطوة ستزيد من عزل السنة في لبنان، وتسهم في رفع نسب الخلل في التوازن الوطني، وهي تخدم حزب الله في الأساس، وإن كان هؤلاء جميعا لم يواجهوا الحزب كما يجب".

واعتبر الأيوبي أن الإقدام على هذه الخطوة دون دراسة مفصلة ودقيقة لمجريات ومآلات الأمور على المستويين الوطني والإسلامي، "ستضع أبناء المجتمع السني أمام خيارات ليست في مصلحته، كخيار التشدد الإسلامي، الذي سيكون مكلفا جدا على أصحابه وعلى صورة ودور السنة في لبنان".

وأشار إلى ضرورة خروج هؤلاء من الواجهة السياسية لكن وفقا لخطة ممنهجة، على اعتبار أنهم فرطوا كثيرا بحقوق السنة ودورها، إلا أن هذا الخروج يجب أن يكون آمنا، بمعنى أن يكون البديل عنهم جاهزا، بدأ ببلورة خطابه السياسي وحضوره الشعبي، حتى لا تتسلل الفوضى إلى المجتمع اللبناني.

كما لفت المحلل اللبناني إلى أن "هذا العزوف لا يمكن لهؤلاء اتخاذه دون اتصالات تجرى على مستوى الإقليم والدول صاحبة النفوذ في لبنان"، وبالتالي إذا تم فهذا يعني أن الدول الغربية والعربية تؤيده إن لم تكن تتبناه، وهذا سيؤكد أن البلاد قادمة على تحولات سياسية كبيرة وتطورات دراماتيكية تترافق مع ما يجرى إقليما من مستجدات.