ترميم التاريخ بخليط فساد.. لماذا أوكل السيسي قلعة "صلاح الدين" لوزير مبارك؟
.png)
كثير من الغضب والجدل وأيضا التساؤلات، أثارها توقيع "صندوق مصر السيادي" اتفاقا مع شركة مملوكة لوزير سابق أدين بالفساد في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، بدعوى تحويل "قلعة صلاح الدين الأيوبي" التاريخية، إلى "أول منطقة إبداع متكاملة بالشرق الأوسط".
وشهد يوم 20 سبتمبر/ أيلول 2021، توقيع "الصندوق السيادي" مذكرة تفاهم مع رئيس شركة "بدايات مصر للاستثمار" الوزير الأسبق رشيد محمد رشيد (2004- 2011)؛ لتطوير منطقة باب العزب بالقلعة في قلب القاهرة الإسلامية، لتصبح بيئة لرواد الأعمال المصريين والأجانب.
وزيرة التخطيط ورئيسة مجلس إدارة الصندوق، هالة السعيد، قالت للإعلاميين بعد التوقيع، إن "مشروع باب العزب، أول استثمار للصندوق في القطاع السياحي والثقافي بهدف الحفاظ على الحرف التقليدية، وترميم وإحياء المنطقة، وإنشاء متاحف ومسارح وأماكن تسوق بها".
خطط السيطرة
وتأسس "الصندوق السيادي" عام 2018 برأسمال 200 مليار جنيه (12 مليارا و730 مليون دولار)، ويخضع للسيطرة المباشرة من رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لكن الصندوق ومنذ يونيو/حزيران 2020، بدأ خطة السيطرة على أهم المناطق التاريخية والأثرية والمسجلة بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، في القاهرة الإسلامية.
وبالاتفاق مع هيئة الآثار المصرية، حصل "الصندوق" ولمدة 49 سنة على حق انتفاع مشروع التطوير السياحي وتنمية منطقة "باب العزب" المتميزة بالعمارة العثمانية في القلعة التي ترجع للعصور الوسطى (القرن 13).
وفي هذا الإطار، أفاد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، خلال مراسم توقيع الشراكة مع شركة "بدايات"، بـ"اهتمام الدولة بالمباني الأثرية واستغلالها وتقديم أنشطة ثقافية وخدمات ذات مردود اقتصادي".
وأعلن أنه جرى عقد عدد من الشراكات مع الجهات الوطنية (السيادية) وشركات القطاع الخاص، لتقديم وتشغيل الخدمات بمنطقة أهرامات الجيزة، وقصر "البارون إمبان" بمصر الجديدة، و"قلعة صلاح الدين".
وادعى وزيري بأن "القاهرة التاريخية ومنطقة الفسطاط أحد أكبر المدن التراثية المسجلة على قائمة مواقع التراث العالمي باليونسكو، تشهد اهتماما غير مسبوق من قبل القيادة السياسية خلال الآونة الأخيرة".
ومنطقة "باب العزب" تمثل الجزء السفلي من "قلعة صلاح الدين" والمقابل لمسجد "السلطان حسن" ومسجد "الرفاعي"، وكان باب القلعة الرئيس إلى أن قام الحاكم محمد علي باشا بإنشاء آخر.
وتقع في مساحة 56 ألف متر مربع، وتضم جامع "الناصر بن قلاوون"، ومسجد "سليمان الخادم"، و"المتحف الحربي"، ومتحف "الركائب الملكية"، و"المدرسة الحربية"، و"أبراج الحداد"، و"الرملة"، و"محمد علي"، و"باب القلعة".
وأيضا، مبنى "سراي العدل"، وساحة "محكى القلعة"، ودار المحفوظات "الدفترخانة"، ومبنى قطاع الآثار الإسلامية، ومبنى "اتحاد الكتاب"، وقصر "الجوهرة".
"بدايات" رشيد
أما الشركة الوليدة "بدايات مصر" فهي إحدى شركات مجموعة "بدايات الدولية للاستثمار"، التي أسسها رجل الأعمال والوزير الأسبق رشيد محمد رشيد، وتهدف للاستثمار في الشركات المحلية العاملة بقطاع الاقتصاد الإبداعي.
وفي مقابل احتفاء الإعلام الكبير بدور "رشيد" في المشروع السياحي والخدمي والإبداعي بالقلعة، شككت مواقع صحفية في حقيقة وضع شركة رشيد المالي والقانوني.
موقع "المنصة"، وفي تقرير له 28 سبتمبر/ أيلول 2021، قال إن الأوراق الرسمية لشركة "بدايات" التي تشارك "الصندوق السيادي" تطوير منطقة "باب العزب"، تؤكد أن مؤسسها محام إيطالي أسس 21 شركة أخرى، جميعهم يتخذون عنوانا في عقار بسويسرا، يحتله صالون حلاقة.
ظهور رشيد كشريك في مشروع مصري كبير مع "الصندوق السيادي" أغضب كثيرين كونه أحد رجال عهد مبارك، وجرت إدانته في 3 قضايا فساد مالي وإداري إثر ثورة يناير/كانون الثاني 2011، والتي هرب بعدها رشيد، إلى الإمارات قبل توقيفه.
وجرت محاكمة الوزير الأسبق في القضية المعروفة بتسهيل الحصول على"تراخيص الحديد"، والتي اتهم فيها مسؤولون آخرون، ورجل الأعمال الشهير وصاحب مصانع الحديد، أحمد عز.
كما تمت محاكمة الوزير الأسبق بتهم "الكسب غير المشروع"، و"الاستيلاء على المال العام"، فيما أدانه القضاء في القضايا الثلاثة بمجموع أحكام بلغت 35 عاما مع غرامات مالية نحو مليار و414 مليون جنيه، (906 ملايين دولار).
رشيد، عاد إلى مصر في يونيو/حزيران 2017، ليستعيد استثماراته، وذلك إثر مصالحة مع نظام السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، دفع على إثرها نحو 1.6 مليار دولار، ما جعل البعض يعتقد بأن شراكة رشيد مع "الصندوق السيادي" مكافأة من النظام له.
وأثارت شراكة رشيد و"الصندوق السيادي" التساؤلات عن حجم التسهيلات التي تمنحها إدارة الصندوق للوزير الأسبق المدان بالفساد، خاصة وأن قانون الصندوق يعفي المعاملات البينية له والكيانات المملوكة له من جميع الضرائب والرسوم.
ووفق تقرير موقع "المنصة"، فإنه بذلك "تضمن شركة (بدايات) إعفاءها من الضرائب والرسوم، إضافة للميزة الأكبر وهي الحرية في نقل أرباحها من مصر إلى الخارج".
ولذلك، فإن شراكة رشيد تلك تعد انطلاقة له بالسوق المصرية، إذ أعلنت شركته في 27 سبتمبر/أيلول 2021، أنها ستطلق أول مؤتمر في مصر لـ"الاقتصاد الإبداعي" خلال الربع الأول من 2022، بمشاركة مسؤولين ومبدعين من إيطاليا وفرنسا والمغرب وإسبانيا.
راعي الفساد الأول
وبدا الأمر واضحا أن السيسي يحتضن الفاسدين ويكافئ مسؤولا سابقا أدين بالفساد وأطاحت به "ثورة يناير 2011"، وأدانه القضاء، ولكن حاجة نظام السيسي للمال جعلته "يضرب عرض الحائط بما أحاط الرجل من عمليات فساد".
وعبر نشطاء عن غضبهم من إسناد مشروع تطوير القلعة إلى رشيد، رغم إدانته بالفساد، ورغم أنه سجل شركة وهمية في سويسرا كي يتهرب من دفع الضرائب، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب من الجباية.
ف الوقت ال الشعب بيكح تراب م الضرايب صندوق مصر السيادى ال تحت اشراف الحرامى #السيسيa> و ممنوع مسألته او الطعن فيه بيتعاقد مع المتهرب الضريبى والحرامى #رشيد_محمد_رشيدa> ع تطوير منطقه قلعه صلاح الدين والشركات المساهمه عامله شركات وهميه ف سويسرا للتهرب الضريبى .#العسكرa> رجع كل الحراميةp>— DIDO (@l0l0l0808080) September 29, 2021a>blockquote>
وفي قراءته لأسباب ودلالات استعانة السيسي بوزير فاسد من عهد مبارك ليشارك "الصندوق السيادي" في تطوير قلعة صلاح الدين، يقول الخبير الاقتصادي علي عبدالعزيز، إن "السيسي نفسه ابن لنظام مبارك".
ويضيف لـ"الاستقلال"، أنه "شريك أساسي بإدارة مرحلة ما بعد ثورة يناير 2011، وهو صاحب الانقلاب على الثورة ومطالبها، وهو من أصدر قوانين وقرارات تحمي الفاسدين وتعاقب محاربي الفساد".
"وليس بعد عزل وحبس المستشار هشام جنينة بعد تصريحه بتراكم الفساد المالي في مصر خلال 4 سنوات ووصوله إلى 67.6 مليار دولار، دليل"، يتابع الأستاذ المساعد بكلية التجارة في جامعة الأزهر.
ويؤكد أن "السيسي حليف لكل فاسد في نظام مبارك، وحليف لكل فاسد في عهده، بل هو راعي الفساد الأول في مصر؛ وقرارات الأمر المباشر دليل إضافي على فساد ربما يصل إلى 300 مليار جنيه سنويا".
ويتابع عبدالعزيز: "في ظل ما سبق فإن تعاون صندوق مصر السيادي مع شركة تابعة لرشيد محمد رشيد شيء عادي".
ويرى أن "استفادة محمد رشيد كبيرة مما يتيحه الصندوق السيادي من إعفاءات ومميزات، وهي فوائد ليست مادية فقط ربما تصل مليارات الجنيهات، بل أيضا هناك مصالح وتسهيلات سيحصل عليها بمناطق نفوذ أخرى اقتصادية وسياسية".
تجاهل ورعاية الفساد
عودة رشيد، لموقعه السابق من الدولة العميقة، سبقها خروج رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى من السجن والعودة لموقعه السابق في عهد مبارك بمجال الاستثمار، في صفقة تبرع فيها لـ"صندوق مصر السيادي"، وسط انتقادات المعارضة للنظام.
وفي 23 يونيو/حزيران 2017، أصدر السيسي، قرارا جمهوريا بالعفو الصحي عن طلعت مصطفى المحكوم عليه بالسجن 15 عاما قضى منها 9 سنوات، وذلك بعد إدانته بجريمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم في دبي عام 2008.
وتماما كما يفعل محمد رشيد الآن، انطلق طلعت مصطفى لمباشرة أعماله بمدينة "مدينتي"، مع ما جرى إسناده لشركاته من مشروعات بالعاصمة الإدارية، وتدشين مدينة "نور" في 6 يونيو/ حزيران 2021، بمساحة 5 آلاف فدان كأول مدينة ذكية خضراء.
كما تأتي قصة شراكة محمد رشيد مع النظام رغم إدانته بالفساد، في ظل جدل أثاره الأكاديمي بكلية الإعلام أيمن ندا، عن فساد مالي وإداري بجامعة القاهرة تجاهلته السلطات، ليجري القبض على ندا، وحبسه دون مساءلة رئيس الجامعة عثمان الخشت.
ندا، تقدم يوم 19 سبتمبر/ أيلول 2021، إلى مباحث الأموال العامة، لتقديم مستندات بعض القضايا التي لم يكشف عنها، ما اعتبره البعض بداية لتفجير "قضية فساد كبيرة" بجامعة القاهرة.
ولكن على العكس من ذلك، قررت محكمة القاهرة الجديدة في 28 سبتمبر/ أيلول 2021 حبس ندا، 15 يوما على ذمة التحقيقات، بتهم سب وقذف رئيس جامعة القاهرة وبعض الإعلاميين والترويج لمنع إحدى مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها.
وعلى غرار قضية ندا وتجاهل النظام للفساد، جرى حبس الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة في يونيو/حزيران 2016، لمدة عام بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، بعد تصريحات صحفية عام 2015، أكد فيها أن حجم الفساد المالي في مصر بلغ 67.6 مليار دولار في 4 سنوات.
وعن هذا الوضع يقول الأكاديمي المصري علي عبدالعزيز، إن "عمليات فساد واسعة خلف الإسناد المباشر لعمليات التنفيذ والشراء والشراكات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والعسكرية نيابة عن الوزارات والمؤسسات المدنية".
ويضيف: "ولا ننسى أن احتكار السلطات التنفيذية والتشريعية والرقابية تحت يد السيسي وأيدي أجهزته الأمنية؛ هو عين الفساد".
ويتوقع عبدالعزيز، "ألا يستمر الاقتصاد المصري طويلا بشكل مستقر، بل ستحدث تقلبات يعقبها تقلبات وانهيارات على مراحل متفاوتة".
فساد للركب
ولا ينسى المصريون حديث رئيس ديوان حسني مبارك، زكريا عزمي داخل البرلمان عام 2008، وقوله إن "الفساد للركب"، ولكنهم يدركون الآن وبأنفسهم أن دولة السيسي وصلت حد القاع في الفساد.
وتمكن الفساد الحكومي من قطاعات عديدة من الجهاز الإداري للدولة، ورغم أن السيسي منح "هيئة الرقابة الإدارية" صلاحيات واسعة تخطت "الجهاز المركزي للمحاسبات"، وعين نجله مصطفى في الهيئة التي حققت عدة ضربات ضد الفساد في شكل دعائي.
وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد 9 ديسمبر/ كانون الأول 2020، زعم السيسي "تمسك الدولة بسيادة القانون وترسيخ قيم النزاهة ورفض ممارسات الفساد"، فيما قال في 7 سبتمبر/أيلول 2021، إن "مواجهة الفساد تتطلب معاملة الماكينات مع البشر دون تدخلهم في التعاملات".
إلا أنه ومع ذلك، فإن الفساد ينخر في كيان الدولة المصرية من القمة إلى القاع مع ضعف رواتب الموظفين الحكوميين وغياب الشفافية في الأعمال الحكومية وقصرها على عدد من المسؤولين.
ففي قطاع المحليات، يقول المحامي عبدالسلام محمد، إنه "بمجرد إقرار البرلمان لأي قانون يجري فتح أبواب عديدة للفساد إذ يتحايل الموظفون على تلك القوانين ويفرضون إتاوات على المواطنين مقابل تمرير خدمات لهم وخاصة بملف البناء والتشييد".
ويؤكد لـ"الاستقلال"، أن "هناك تسعيرة معروفة لكل دور بناء يجري تعليته في الريف من 5 إلى 10 آلاف جنيه، وفي المدن يتضاعف الرقم"، مشيرا إلى وجود "وسطاء وسماسرة بين الأهالي والموظفين".
ويحكي المقاول (ر. د) لـ"الاستقلال"، أنه "لكي أحصل على مقاولة من الباطن (بشكل غير رسمي) لعملية بناء مساكن مسندة للجيش طلب مني رشوة مالية بلغت 500 ألف جنيه، وحينما رفضت قيل لي إن أي أعمال تنفذ من الباطن لا بد من الدفع كي يوافق عليها من بيده القرار".
ورغم وقف التعيينات في القطاعات الحكومية طوال عهد السيسي، إلا أن أعضاء البرلمان وشخصيات نافذة وذات صلات بالأمن والأجهزة السيادية يقومون بتحصيل مبالغ مالية تصل إلى 100 ألف جنيه وأكثر مقابل التعيين في جهات حكومية أو القبول في الكليات العسكرية.
وفي يناير/كانون الثاني 2021، كشف مؤشر مدركات الفساد لعام 2020 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية تراجع مصر 11 موقعا بترتيب الدول الأكثر فسادا، لتحل القاهرة رقم 117 من 179 دولة، بعلامة 33 في الاتجاه نحو الأكثر فسادا.
ويقول الخبير الاقتصادي عبد العزيز إن "قلة المعلومات وغياب الرقابة والمحاسبة عن نظام السيسي تجعله وأفراد أجهزته الأمنية بؤرا للفساد".
ويختم مؤكدا أنهم "أينما وضعوا أقدامهم استغلوا نفوذهم للسرقة والنهب، ومصير من يعترض ويكشف فسادهم لن يختلف كثيرا عن مصير المستشار جنينة".