كارلوس منعم.. سوري قاد الأرجنتين لنهضة اقتصادية ودفن في مقبرة المسلمين
.jpg)
رحيله لم يكن عاديا، ودفنه كان استثنائيا، وأصوله العربية كانت تسبق مسؤولياته، إنه رئيس الأرجنتين الأسبق كارلوس منعم الذي رحل في 14 فبراير/شباط 2021، عن عمر ناهز 90 عاما.
مسار منعم السياسي يفرض الوقوف عنده ودراسته، ومكان دفنه يدفع المتابع للتأمل، خاصة أن الرجل ينحدر من عائلة مسلمة مهاجرة من سوريا، وتحول إلى المسيحية الكاثوليكية ليتولى منصب رئيس الدولة وفقا للقانون الأرجنتيني.
برحيله يودع العالم رجلا سياسيا قاد بلاد "التانغو" لنهضة اقتصادية، وأزال كل الخلافات مع الجارة تشيلي، وربط علاقات صداقة قوية مع زعماء الدول الكبرى، كما لم ينس زيارة بلده الأصلي سوريا خلال فترة ولايته الرئاسية.
مهاجر طموح
في 2 يوليو/تموز 1930، ولد منعم لأبوين مهاجرين مسلمين من سوريا ويقيمان في بلدة صغيرة تقع في مقاطعة إقليم لاريوخا على بعد 1200 كلم غربي العاصمة بوينس أيرس.
التحق بالمدرسة الابتدائية والثانوية في لاريوخا، درس القانون في جامعة قرطبة الوطنية وتخرج منها عام 1955، فأصبح محاميا، والتقى بالرئيس خوان بيرون وزوجته إيفا بيرون، وأثر هذا على منعم، وفي فترة شبابه تزوج 3 مرات وأنجب 3 أبناء، أحدهم توفي في حادث مروحية في مارس/آذار 1995.
نشأ منعم مسلما، لكنه تحول لاحقا إلى الكاثوليكية الرومانية لمتابعة حياته السياسية بعد اقتحامها بانضمامه لحزب بيروني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
قاد منعم الحزب في مقاطعة لاريوخا مسقط رأسه، وانتخب حاكما عام 1973، لكن أطيح به واحتُجز خلال الانقلاب الأرجنتيني عام 1976، وسُجن لمدة 5 سنوات.
وخلال فترة سجنه وضع الشاب الطموح صاحب الأصول العربية والراغب في المجد، خططه للترشح لرئاسة الأرجنتين، وبعد خروجه من السجن انتُخب حاكما مرة أخرى عام 1983.
في 14 مايو/آيار 1989، أجريت الانتخابات الرئاسية وفاز منعم بفارق كبير، بعد حملة انتخابية ركزت على حقوق الطبقة العاملة، وكان من المقرر أن يتولى منصبه في 10 ديسمبر/كانون الأول، لكن مستويات التضخم والركود الاقتصادي الكبير أخذت منعطفا إلى الأسوأ، حيث نمت إلى تضخم مفرط، ما تسبب في أعمال شغب عامة.
في 8 يوليو/تموز استقال الرئيس المنتهية ولايته راؤول ألفونسين، وتم نقل السلطة إلى منعم في وقت مبكر، قبل 5 أشهر من الموعد الرسمي، وهي المرة الأولى التي ينقل فيها الرئيس السلطة بسلام إلى خلف المنتخب (معارضة) منذ تولى هيبوليتو يريغوين منصبه عام 1916.
وخلال فترة حكمه، قامت حكومة منعم بتخصيص قطاعات إنتاجية كثيرة مثل البريد والاتصالات والطاقة مما جذب استثمارات ورؤوس أموال أجنبية للأرجنتين وأصلح الوضع الاقتصادي، الذي كان منهارا.
نهضة واتهامات
عام 1995، فاز منعم بفترة ثانية عندما أُعيد انتخابه تثمينا لجهوده في الإصلاحات وخصخصته الشركات الحكومية المتداعية في تحول هائل للمؤسسات الأرجنتينية أوائل التسعينيات ليزدهر الاقتصاد.
خلال رئاسة منعم، ظهرت سياساته الخارجية بشكل أفضل، وتحالفت الأرجنتين مع الولايات المتحدة، وكانت علاقات منعم جيدة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب وخليفته بيل كلينتون منذ عام 1993.
دعمت الأرجنتين جميع المواقف الدولية للولايات المتحدة، وأرسلت قوات إلى حرب الخليج عام 1990، وجهود حفظ السلام بعد حرب كوسوفو عام 1998، ليتم قبول الأرجنتين كحليف رئيس من خارج "الناتو"، ولكن ليس كعضو كامل.
أعادت حكومة منعم تأسيس العلاقات مع المملكة المتحدة، التي توقفت منذ حرب الفوكلاند عام 1982، كما قام منعم بتسوية جميع القضايا الحدودية المتبقية مع تشيلي.
في عام 1991 أصبح منعم أول رئيس دولة للأرجنتين يقوم بزيارة دبلوماسية لإسرائيل، واقترح التوسط بين إسرائيل وسوريا في مفاوضاتهما حول مرتفعات الجولان.
لكن رئاسة منعم التي استمرت فترتين من 1989 حتى 1999 انهارت تحت وطأة اتهامات بالفساد، حيث ترك المنصب بادعاءات إبرام صفقات أسلحة غير مشروعة عامي 1991 و1995 مع كرواتيا والإكوادور، كما تم التحقيق معه في تهم فساد مختلفة، بما في ذلك الاتجار غير المشروع بالأسلحة وحكم عليه بالسجن 7 سنوات.
أيضا توبع منعم باختلاس أموال عامة، وحكم عليه بالسجن 4 أعوام ونصف العام، فيما حصل على البراءة في تهمتي الابتزاز والرشوة، لكن منصبه كعضو في مجلس الشيوخ أكسبه حصانة من السجن.
لكن بعد 10 سنوات بُرئت ساحته من تهم تهريب الأسلحة، لكن دون أن يتسنى له مطلقا التخلص من شبهات حامت حوله بخصوص تورطه في معاملات مريبة حتى لو لم يُدن على الإطلاق.
ريف دمشق
شكلت وفاة الرئيس الأرجنتيني الأسبق منعم مناسبة لأقاربة على منصات التواصل الاجتماعي، لاستعادة بعض الذكريات عنه في بلده الأم سوريا وتحديدا بلدته "يبرود" بريف دمشق.
زيارة منعم إلى يبرود مسقط رأس والديه عام 1994 ما زالت في ذاكرة أهالي المنطقة، ويروي أحد أقارب منعم، عبد القادر الحكيم لموقع "روسيا اليوم"، أن والد منعم وعمه كانا من أوائل المهاجرين، وأنهما كانا من أوائل العائلات التي دأبت على تقديم كل مساعدة ممكنة لأهالي البلدة.
وقال الحكيم: "منعم زار سوريا مرتين كانت الأولى في الستينيات، قضى شهرا خلالها، وتزوج من سليمة جمعة من مدينة الضمير في ريف دمشق".
ويحتفظ الحكيم بعدد من الصور، منها ما تم توثيقه في زيارة منعم الثانية إلى سوريا عام 1994 حين كان رئيسا للأرجنتين، والتقى وقتها بالرئيس الراحل حافظ الأسد قبل أن يزور يبرود.
وأوضح الحكيم أن أهالي البلدة استقبلوه بحفاوة، وكان برفقته وزير الخارجية السوري آنذاك فاروق الشرع، ومحافظ ريف دمشق علي زيود، وسفير الأرجنتين في سوريا منير منعم، وهو شقيق كارلوس.
وحول طريقة التواصل معه، قال طلال عقيل وهو ابن خال منعم إن الأخير كان يستطيع فهم اللغة العربية لكنه لم يكن يستطيع التحدث بها، وقد ازدحم المنزل وقتها بأهالي يبرود.
وعن بعض تفاصيل الزيارة يتحدث رئيس مجلس مدينة يبرود آنذاك يوسف القاصوص لـ"روسيا اليوم": "استمرت التحضيرات أياما سبقت الزيارة، وأنفقت المدينة نحو مليونين ونصف المليون من الليرات آنذاك، على مشاريع تحسين طرقات المدينة وساحاتها، خاصة التي يتوقع أن يمر فيها (الضيف الكبير)".
مات مسلما
وفي نعيه، قال الأكاديمي المغربي حمزة الكتاني: "حدث العام، هو أن الرئيس الأرجنتيني المتنصر كارلوس منعم، كان في حقيقته مسلما، ولم يتنصر قط، وأنه كان ملازما للقرآن، وخدم القضايا الإسلامية في بلاده كثيرا بطريقة مبطنة.. فرحت جدا لهذا الخبر، وقد صلي عليه اليوم ودفن في مقابر المسلمين، رحمه الله تعالى".
وأضاف في تدوينة على "فيسبوك": "هل سنشهد مستقبلا أمثلة لكارلوس منعم، رؤساء وزعماء أظهروا تنصرهم وأبطنوا الدين لخدمته، من هنا أو هناك؟ مما لا يستبعد...".
من جانبه، قال رئيس المركز الإسلامي في الأرجنتين، أنيبال بشير باكير: "فيما يتعلق بوفاة منعم، قامت عائلته بطلب المركز الإسلامي لإيفاد أحد المشايخ لحضور مراسم الدفن، وعند ذهابي إلى مبنى الكونغرس للقيام بالتعزيه، التقيت بابنة الرئيس منعم".
وأضاف باكير: "خلال الحديث معها قالت: إن منعم قضى سنواته الأخيرة قبل وفاته بسلوكه وتصرفاته على النهج الإسلامي وكان أحيانا يستمع إلى بعض الآيات من القرآن الكريم".
وأشار إلى أن "ابنته قالت إن ما تداولته بعض الأخبار عن ديانة الرئيس إنما كان يتعلق بأمور سياسية، وأكدت أن والدها قد توفي وهو على دين الاسلام. وبالتالي، أصبح للمرحوم كافة الحقوق التي تترتب على المركز الإسلامي القيام بها لأي مسلم عند الوفاة، وقد رأينا إعلام حضراتكم بهذا الموضوع".
وبوفاته أعلن الحداد الوطني لـ3 أيام، وقال الرئيس الأرجنتيني الحالي ألبرتو فرنانديز: "لقد علمت ببالغ الأسف بوفاة منعم.. انتخب في ظل نظام ديمقراطي، وشغل مناصب عدة منها، حاكما لولاية لاريوخا، ورئيسا للبلاد، وعضوا في مجلس الشيوخ"، مضيفا أن "منعم تعرض للاضطهاد والسجن في زمن الدكتاتورية".
فيما قالت ابنة منعم، زوليميتا، وهي تغادر المستشفى إثر وفاة والدها: "سوف يستريح في المقبرة الإسلامية مع أخي".