"سري".. هكذا أغضبت السلطات المغربية مواطنيها بعد فاجعة طنجة
.jpg)
في الوقت الذي كان فيه المغاربة يواسون أهالي ضحايا فاجعة مصنع النسيج الأخيرة في طنجة شمالي المملكة، أصدرت السلطات المحلية بيانا صب نار الحرقة بشكل مضاعف على قلوب المواطنين.
ولقي 24 شخصا مصرعهم داخل مصنع للنسيج بمدينة طنجة، في 8 فبراير/شباط 2021، إثر تسرب مياه الأمطار في الوحدة الصناعية للنسيج بسرداب تحت الأرض في حي سكني، ما أدى إلى تضرر تجهيزات كهربائية، نتج عنه صعق لعدد من العاملين.
وقالت ولاية طنجة في بيان إن "تدخل السلطات المحلية والأمنية، ساهم في إنقاذ 10 أشخاص، نقلوا إلى المستشفى الحكومي لتلقي الإسعافات الأولية، فيما تم انتشال جثث 24 شخصا، وما زالت عمليات البحث والإنقاذ مستمرة."
وأضافت أن "مصنع النسيج الذي داهمته المياه، سرّي، وتم فتح تحقيق جنائي من قبل السلطات المختصة، تحت إشراف النيابة العامة، للكشف عن ظروف وحيثيات الحادث وتحديد المسؤوليات".
كلمة "سري" وفتح تحقيق" لم تمر على "قلوب المكلومين" سلسبيلا، بل زادتهم غصة على مصابهم الجلل، معتبرين أن السلطات لم تصل بعد لـ"سلطة مواطنة" تجيد انتقاء العبارات بعيدا عن "الاستخفاف بالعقول".
واعتبر المغاربة أن وصف "سري" بدل "غير قانوني" هو لإبعاد المحاسبة والعقاب بحق المسؤولين الحقيقيين في قاعدة وهرم الموظفين في وزارتي الداخلية والعمل، ومن ينوب عنهم، لعدم تطبيق القانون في وقته بإغلاق المصانع غير المرخصة.
البيان الذي أطلق عليه "سري" تضمن أيضا فتح التحقيق في الحادث، مما أثار الاستفزاز لدى المتابعين كون كل الحوادث السابقة التي فتحت فيها التحقيق لم تصل لنتيجة رغم مرور سنوات عليها دون أن تمحى من الذاكرة.
أوجاع المكلومين
وقال الأستاذ في جامعة القاضي عياض بمدينة مراكش، عمر إحرشان، إن "عبارة مصنع سري غير مستساغة في دولة تحصي أنفاس الجميع. سلطات طنجة سارعت لتشميع بيت بحجة عقد اجتماعات وجعله مسجدا! بالمقابل سمحت ورخصت لمعمل بصفة غير قانونية يشغل عشرات بدون مراعاة أبسط شروط السلامة".
وأضاف في تدوينة عبر "فيسبوك" إن "في دولة تحترم نفسها وتربط بين ممارسة السلطة والخضوع للمحاسبة، وأمام فضيحة بهذا الحجم، يلزم أن يقدم كل المعنيين بهذا الملف، بشكل مباشر أو غير مباشر، استقالتهم احتراما للشعب، مع الخضوع للمحاسبة والمحاكمة.. هذا إن كنا في دولة قانون وإلا فإنها دولة السيبة (الفوضى)".
موقع "الصحيفة" كشف تفاصيل تؤكد أن أنشطة مصنع "طنجة" كانت أكبر من أن تصنف في خانة "السرية" كما وصفها بيان الولاية، إذ إنه كان يُصنع ملابس معدة للتصدير، بل أيضا شارك في صناعة الكمامات قبل أشهر.
وحصل الموقع على معطيات عن خبايا مصنع طنجة قائلا إن المكان "يمارس نشاطه منذ سنوات كوحدة صناعية تعمل بنظام المناولة (من الإنتاج مرورا بالتخزين إلى نقاط البيع)، لكن دون التصريح بالعمال، حيث أن العديد من شركات النسيج الكبرى في طنجة سبق أن تعاملت معه لإنجاز طلبياتها بما فيها تلك الموجهة للتصدير".
وأفاد بأن المعمل "سبق أن تولى تصنيع ملابس لصالح علامات تجارية كبيرة في إسبانيا، وهي العملية التي كانت تتم في وضح النهار وأمام أعين الجميع، والعاملون بالمصنع كانوا يأتون إليه على متن حافلات لنقل العمال مقسمين إلى أفواج طيلة أيام العمل الأسبوعية، وأهالي المنطقة يعلمون بوجوده".
وأشار الموقع إلى أن "ظروف العمل المزرية ساعدت في ارتفاع حصيلة ضحايا الفاجعة، فالأمر يتعلق بفضاء للعمل موزع على مستويين تحت الأرض كان في الأصل مرآبا للسيارات أسفل فيلا تقع في حي سكني لا صناعي، وبسبب افتقار المكان لمخارج الإغاثة وحتى للنوافذ العادية وجد الضحايا أنفسهم محاصرين وسط المياه وعاجزين عن إيجاد سبيل للخروج".
تواطؤ رسمي
هذه المعطيات لم تكن وليدة اللحظة إثر حادث طنجة، بل بثت قناة "ميدي 1" شبه الرسمية، قبل ذلك تحقيقا عبر برنامجها الشهير "45 دقيقة" يسلط الضوء على المصانع السرية، دون تدخل للسلطات المعنية لتطبيق القانون.
وضمن تحقيق "القناة"، قال رشيد الناجم، رئيس جمعية وصناع منطقة القريعة بمدية الدارالبيضاء، وصاحب مصنع، إن "شركات التصدير بصفة عامة يتعاملون مع أصحاب المصانع المحلية، 90 بالمائة من هذه المصانع يشتغلون بطريقة قانونية، يؤجرون مآرب 120 مترا، ويضعون فيها مابين 20 إلى 30 آلة خياطة".
وتابع: "في هذه المصانع يشتغل معه 40 عاملا، دون توفر لشروط السلامة الصحية، دون تأمين صحي، وحين تناقشه يجيب بصعوبة تأسيس شركة قانونية ودفع حقوق العمال، والضرائب وغيرها من الشروط الصعبة، وفي الأخير أبيع البضاعة بثمن ينافس السلع القادمة من الصين".
يقول متابعون إن الكثير من الأحياء الشعبية تعج منذ ثمانينيات القرن الماضي بـ"ورشات فوضوية" تغيب فيها أبسط الشروط الإنسانية وتستغل بين جدرانها اليد العاملة للقاصرين، فيما تتذرع "هيئة مراقبة الشغل" بقلة إمكاناتها أمام العدد الضخم من القضايا المعروضة أمامها.
أما الجهات الوصية فتغض الطرف عن هذه الورشات لأنها "توفر سلما اجتماعيا" ووظائف لكل من قاده حظه العاثر إلى أبوابها، فيما الشركات العالمية تجني أرباحا خيالية، وفي المقابل "يفقد الوطن أبناءه".
وفي السياق، قال الناشط الحقوقي خالد البكاري: "ليست هذه الوحدات الصناعية هي السرية، حين يدخل أزيد من 30 شخصا إلى مصنع ببيت للاشتغال يوميا وسط حي مأهول بالسكان، فهذا معناه تواطؤ مسؤولي (وزارتي) الداخلية والتشغيل.. هذا معناه رشاوي لسنوات (بالصمت عن هذه المصانع)".
وأضاف في تدوينة على فيسبوك "في المغرب يتم تفكيك خلايا إرهابية وهي ما زالت في طور التخطيط، ويتم التوصل إلى أصحاب التدوينات حتى وهم يكتبونها بأسماء مستعارة، لكن يتعذر الانتباه لمعمل (سري) وسط حي سكني مأهول، وهو يشتغل لسنوات.. الفساد لا ندفع ثمنه تأخرا في التنمية فقط، بل كذلك ندفعه أرواح مواطنين فقراء".
مجموعة مما يسمى معامل سرية تشغل آلافا من اليد العاملة في القطاع غير المهيكل (غير القانوني)، وعوضا عن أن تسهل الدولة قوانين تحويلها للقطاع المهيكل (القانوني)، تتم عرقلة أي مخطط لإعادة تنظيمها".
وأرجع البكاري ذلك إلى أن "وضعها الحالي تستفيد منه لوبيات متعددة تعيش من الفساد والرشوة، فالمشكل الأساس ليس في أصحاب هذه الوحدات (الذين سيتحول بعضهم لأكباش فداء)، بل في بنية ومافيا الفساد التي ترعى هذا الخراب.. إذا كان الفقر كاد أن يكون كفرا، فالفساد هو الكفر عينه".
فواجع راسخة
بيان ولاية طنجة عن فتح تحقيق في الحادث، فتح جراح فواجع لا تزال راسخة في ذاكرة المغاربة رغم مرور السنين، أسوؤها حادث "حافلة تيشكا" التي راح ضحيتها 42 شخصا، بعد انقلاب حافلة لنقل المسافرين بين مدينتي زاكورة ومراكش.
وقال عثمان البوني: "عن أي تحقيق تتحدثون؟ هل مثل التحقيق الذي فتح في فاجعة الممر الجبلي المعروف بـتيشكا (عام 2012، 42 ضحية)، أو فاجعة مدينة طانطان (عام 2015، 33 ضحية)، أو فاجعة مدينة الصويرة (2017، 15 ضحية)، وأين تحقيق فاجعة قطار بوقنادل، فاجعة منجم جرادة.. وقس على ذلك".
وتابع عبر "فيسبوك": "بالمناسبة هل لا تزال هذه التحقيقات مفتوحة؟ في النهاية سيفتحون تحقيقا ولن يغلقوه، نحن مختصون فقط في فتح الأشياء، لن يحاسب أحد، ولن نسمع عن التحقيق ومآله.. أرواح الناس مقدسة جدا، وبين مسؤول غير مبال (فاسد)، ورب عمل جشع، تضيع تلك الأرواح البريئة".
الكاتب مصطفى شاكري، لفت إلى أن "فواجع إنسانية كثيرة أثارت جدلا وطنيا طيلة العقدين الماضيين دون أن تفضي إلى محاسبة المسؤولين عنها، ففي كل مرة تفتح السلطات تحقيقا رسميا لتحديد ظروف وملابسات الحادث؛ غير أن حيثياته تظلّ طيّ الكتمان، ويتم إغلاق ملف التحقيق بعد هدوء الرأي العام".
وأكد في مقال نشره بموقع "هسبريس"، في 10 فبراير/شباط 2021، أنه "بمجرد فتح أي تحقيق حيال قضية معينة، يُسارع المغاربة إلى التأفف من مخرجاته، بالنظر إلى التجارب السابقة التي أثبتت أن التحقيق يبقى وسيلة لإخماد غضب المواطنين فقط؛ فيما لا يتم تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الذي أصبح إحدى ركائز الدولة الديمقراطية".
بدوره، قال الخبير الاجتماعي، إبراهيم الخراز، لصحيفة "الاستقلال"، إن "المواطن يظل الحلقة الأضعف في كل أزمة يتعرض لها المغرب، لغياب سلطة قريبة من المواطن، تزن وتنتقي عباراتها في الوقت والمكان المناسب، وتشارك أحزان الشعب بصدق لا تتهرب من المسؤولية الملقاة على عاتقها".
وأضاف "نزيف الحوادث الأليمة سيتواصل، وسيدفنها إعلانات فتح التحقيق وإيفاد اللجان، وفي الأخير الحقيقة سيطويها النسيان، دون تحديد المسؤولين، وهذا جرم في حد ذاته يشجع على ما يمكن قوله بأنه إجرام في حق المواطن".
وأشار الخراز إلى أن "الملاحظ دائما غياب واختفاء المسؤولين عقب كل حادث أليم تشهده البلاد، ومع فاجعة طنجة لم يكلف الوزراء المعنيون أنفسهم التعليق على الحادث أو الانتقال إلى عين المكان، فما أداراك بمحاسبة المسؤول الحقيقي".