كلمة السر في تقرير ستورا.. لماذا أصبح اعتذار فرنسا للجزائر مستبعدا؟

وهران - الاستقلال | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

النقاش بشأن مسألة تقديم باريس اعتذارا للجزائر عن فترة الاستعمار، قفز للسطح مرة أخرى تزامنا مع تقديم المؤرخ بنجامين ستورا تقريره للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن الاحتلال والحرب في الجزائر.

فمع صدور التقرير، تجدد  أمل الجزائريين في اعتذار رسمي فرنسي عن احتلال دام 132 عاما، خاصة مع إعراب ماكرون عن أمله في أن تحقق هذه المبادرات الوصول لمصالحة مع الجزائر، وأن تلفت النظر إلى جراح الماضي، مشيرا إلى أنه يرغب في أن يتم إحياء ذكرى من فقدوا حياتهم في الحرب الجزائرية من خلال فعاليات مختلفة.

لكن في الوقت نفسه، ذكرت تقارير إعلامية محلية أن ماكرون لن يعتذر للجزائر عن الأنشطة الاستعمارية، بعد أن عبّر في وقت سابق عن استعداد بلاده للاعتذار، وخطى خطوات في هذا الاتجاه، وهو ما يدفع للتساؤل: ماذا حدث حتى يغير ماكرون رأيه؟

توصيات ستورا

في تموز/يوليو 2020، كلف ماكرون، بنجامان ستورا، أحد أبرز الخبراء المتخصصين بتاريخ الجزائر الحديث، "بإعداد تقرير دقيق ومنصف حول ما أنجزته فرنسا حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر" التي وضعت أوزارها عام 1962 وما زالت حلقة مؤلمة للغاية في ذاكرة عائلات الملايين من الفرنسيين والجزائريين.

وفي 20 يناير/كانون الثاني 2021، سلّم المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، الرئيس ماكرون تقريره حول الاستعمار ( 1830 ـ 1962) وحرب الجزائر (1954-1962) الذي يحوي مقترحات ترمي لإخراج العلاقة بين البلدين من حالة الشلل بسبب قضايا الذاكرة العالقة.

ستورا المولود في 1950 بمدينة قسنطينة بالجزائر، أوصى في تقريره المكون من 150 صحيفة، بتشكيل لجنة تسمى "الذاكرة والحقيقة"، وتوثيق شهادات الناجين من حرب الاستقلال الجزائرية.

وأشار التقرير إلى ضرورة زيادة التعاون بين فرنسا والجزائر وأن يتمكن الجزائريون الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا (يعرفون باسم الحركي) خلال حرب الاستقلال الجزائرية من التنقل بسهولة بين البلدين.

التقرير اقترح إزالة عبارة "سر الدولة" الموجودة في الوثائق التي يعود تاريخها إلى عام 1970 في الأرشيف، وإنشاء أرشيف مشترك بين البلدين، مشددًا على ضرورة تقديم منح دراسية للطلاب الجزائريين لإجراء دراسات في الأرشيف الفرنسي، على أن يتم نفس الشيء أيضًا بالنسبة للطلاب الفرنسيين.

وشدد التقرير كذلك على أن المدارس في فرنسا يجب أن تدرس حرب الاستقلال الجزائرية بطريقة أفضل وأن تتوقف عن ذكر الاستعمار في الدروس، وأوصى التقرير كذلك بتنظيم أنشطة تذكارية بشأن حرب الاستقلال الجزائرية.

في 2018 اعترف ماكرون باستخدام بلاده نظاماً للتعذيب خلال حرب الجزائر التي تُعرف كذلك بالثورة الجزائرية (1954-1962)، كان من ضحاياه جزائريون وفرنسيون. وصرح قبله -عند ترّشحه للرئاسة- أن "استعمار الجزائر كان جريمة ضد الإنسانية".

لم تُخفِ الحكومة الجزائرية، آنذاك، ارتياحها لتصريحات ماكرون، مُعتبرة إياها خطوة إيجابية يجب تثمينها، وزاد ارتياح الجزائر قرار ماكرون في يونيو/حزيران 2020، قبل أيام من الذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال الجزائر، إرجاع جماجم موجودة في متحف باريسي، تعود لمقاومين جزائريين قُتلوا بداية احتلال بلادهم.

وبعد أشهر من الكشف عن وجود تلك الجماجم، أعلن ماكرون، استعداد سلطات بلاده لسن قانون يسمح بتسليم تلك الجماجم، التي تطالب السلطات الجزائرية منذ سنوات بنقلها من فرنسا.

وظلت السلطات الجزائرية تتهم باريس بتعطيل عملية نقل الجماجم إلى الجزائر، فيما تقول باريس إن الأمر يتطلب إجراءات قانونية معقدة، لضمان إخراجها من متحف باريس.

تصريحات انتخابية

عقب صدور التقرير، قالت الرئاسة الفرنسية إن رئيس الدولة "سيتحدث في الوقت المناسب" بشأن توصيات هذا التقرير واللجنة التي ستكون مسؤولة عن دراستها. 

وأكدت أنه "ستكون هناك أقوال وأفعال للرئيس في الأشهر المقبلة"، مضيفة أن "فترة المشاورات بدأت"، وأكد الإليزيه أن الأمر يتعلق بـ"النظر إلى التاريخ وجهاً لوجه بطريقة هادئة وسلمية من أجل بناء ذاكرة اندماج".

وذكرت وسائل إعلام دولية، نقلا عن مصادر في الإليزيه أنها "عملية اعتراف" لكن "الندم وتقديم الاعتذارات غير وارد"، وذلك استنادا إلى رأي أدلى به ستورا الذي ذكر أمثلة اعتذارات قدمتها اليابان إلى كوريا الجنوبية، والصين عن الحرب العالمية الثانية ولم تسمح "بمصالحة" هذه الدول.

وبين الخطوات التي سيتم القيام بها، نقل رفات المحامية المناهضة للاستعمار جيزيل حليمي، التي توفيت في 28 تموز/يوليو 2020، إلى البانثيون الذي يضم بقايا أبطال التاريخ الفرنسي، وقبل ذلك، ستقام مراسم تكريم لها في قصر الأنفاليد في الربيع "عندما تسمح الظروف الصحية بذلك".

وشدد الإليزيه أيضا على أن إيمانويل ماكرون "ليس نادما" على تصريحاته التي أدلى بها في العاصمة الجزائرية في 2017 وندد فيها بالاستعمار باعتباره "جريمة ضد الإنسانية".

وتساءل الإليزيه "ماذا كان يمكنه أن يقول أكثر من ذلك؟ لا يوجد شيء آخر يمكن قوله، لكن في المقابل هناك الكثير يجب القيام به".

وفي 2015، قدّر المعهد الوطني للإحصائيات والدراسات الاقتصادية الجزائري، عدد المهاجرين الجزائريين في فرنسا بـ5.5 ملايين مغترب، محتلين بذلك المركز الأول بين الأجانب الآخرين القاطنين في هذا البلد.

حمل ماكرون المرشح في 2017،  "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب 6 بالمئة من أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، وغازل الناخبين المسلمين الجزائريين بقوله إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية".

لكن قبيل انتخابات فبراير/شباط 2022، اقتنع ماكرون بخسارة أصوات المسلمين، لذلك يحاول المزايدة على اليمين المتطرف لتعويض خسائره الانتخابية المقبلة، خاصة وأن شعبيته تتراجع.

إذ أظهرت استطلاعات الرأي، أجريت في سبتمبر/أيلول 2020، أن شعبية الرئيس الفرنسي تراجعت من 41 بالمئة إلى 38.7 بالمئة خلال شهر واحد فقط.

"لن تعتذر"

في تقرير لها عقب صدور تقرير ستورا، جزمت صحيفة "الباييس" الإسبانية، أن "فرنسا لن تعتذر أو تعلن عن ندمها بشأن الحرب في الجزائر"، وأضافت أنها ستعزز في المقابل الأعمال الرمزية للمصالحة، وتكريم الضحايا الذين أصبحوا في طي النسيان، واتخاذ تدابير على ضفتي المتوسط ​​لتعزيز فهم أفضل للماضي.

تحدث ماكرون مرارا وتكرارا عن الحاجة إلى المصالحة بين ذكريات الشعبين، التي لا تزال متعارضة إلى اليوم بعد 60 سنة من نهاية الصراع والاستقلال، ونوهت الصحيفة بأن "سرد تاريخ الاستعمار والحرب مختلف وبدرجة كبيرة بين الجزائر وباريس، لكن حتى داخل فرنسا، لا يوجد وصف موحد لما تعنيه تلك الفترة".

وأضافت "كما أن ابن أو حفيد المهاجرين الجزائريين الذين جاؤوا إلى أوروبا بعد الاستقلال لا يفكرون بنفس الطريقة التي يفكر بها أفراد عائلة الحركيين الذين قاتلوا ضد الاستقلال واضطروا للذهاب إلى المنفى". 

في نفس السياق، تعتبر رؤية أبناء "الأقدام السوداء" مختلفة عن سابقتها، ومصطلح "الأقدام السوداء" يرمز إلى العائلات من أصل أوروبي، وكثير منهم إسبان، قضوا عقودا أو أكثر من قرن في شمال إفريقيا، واضطروا للهجرة إلى فرنسا عام 1962، حيث لم يستقبلوا دائما بأذرع مفتوحة.

وأضافت الصحيفة أنه "من الصعب تفسير فرنسا اليوم دون التفكير في الماضي، وعلى وجه الخصوص، تأسست الجمهورية الخامسة، والنظام الرئاسي الحالي، عام 1958، في خضم الحرب وعلى خلفية أزمة مستعمرة الجزائر".

ونقلت الصحيفة عن ستورا أن "ماكرون يعتبر الماضي الاستعماري مسألة تتعلق بالماضي الفرنسي لم تحلّ بعد، ولم يرغب أحد حقا في مواجهتها أو النظر إليها وجها لوجه".

وفي حواره مع "الباييس"، عبّر ستورا عن مخاوفه من أن "يحدد السرد التاريخي للماضي وحقائق فترة الاستعمار الهويات، وينتهي بهم الأمر إلى مواجهة بعضهم البعض، بحيث تلغى إمكانية مد الجسور، التي تعتبر أحد أهداف التقرير".

وبحسب ستورا، فإن "اعتذار فرنسا أو تعبيرها عن الندم عن الاستعمار ليس حلا لمد هذه الجسور، بل اتخاذ إجراءات ملموسة للتحقيق في المحفوظات، والتحقيق في التجارب النووية الفرنسية على الأراضي الجزائرية أو استخدام النابالم (سائل قابل للاشتعال)، وتحديد أماكن الرفات المفقودة، والاعتراف بالضحايا من جميع الأطراف؛ يمكن أن يكون أكثر فائدة من الخطب المفجعة".

وفي الختام، تساءل المؤرخ قائلا: "يمكنك إلقاء خطاب اعتذار، لكن ألا توجد إمكانية أخرى؟ ألا نجازف بترك سلسلة من القضايا معلقة والوقوع في فخ اليمين المتطرف أو الأصوليين الذين لا يريدون معالجة أي ملف حقيقي؟".

ليس تصعيدا

يعتقد أستاذ العلاقات الدولية بالجزائر، البروفيسور عمر بغزوز، أن سياسة فرنسا إزاء الجزائر، وبالتحديد من مسألة الذاكرة، لازالت ثابتة منذ صعود إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم في 2017.

مضيفا في حديثه مع "الاستقلال": "ماكرون صرح آنذاك بأن الاستعمار الفرنسي كان جريمة ضد الإنسانية، لكنه لم يعلن أبدا أنه سيعتذر للجزائر عن جرائم الجيش الفرنسي فيها خلال حقبة الاستعمار (1830-1962)".

وزاد الخبير، أن ماكرون هو أول رئيس فرنسي يولد بعد الحرب التحريرية الجزائرية، وقد أبدى رغبته في فتح ملف الذاكرة من أجل تهدئة العلاقات المتقلبة منذ عقود.

وذهب البروفيسور إلى أن الجزائر علقت آمالا كبيرة في أن يتجسد الاعتذار في إجراءات ملموسة وأن تتوج باعتذار رسمي من السلطات الفرنسية.

واستطرد قائلا: "لكن يبدو أن الرئيس الفرنسي ليس حرا تماما في مثل هذه القرارات الحساسة، بحيث عليه مراعاة الضغوط الكبيرة التي تمارسها القوى واللوبيات داخل فرنسا".

وأشار بغزوز، إلى أن "المقاربة الفرنسية للمصالحة بين البلدين وبالتحديد بين الذاكرتين، لا تجعل من الاعتذار أولوية وإنما تركز على بناء جسور حول مواضيع حساسة، كمفقودي الحرب وآثار التجارب النووية، والأرشيف".

وخلص خبير العلاقات الدولية، إلى أنه بما أن الأسلوب المنتهج من طرف فرنسا ليس جديدا في هذه المسألة، فلا يمكن الحديث عن أي تصعيد، موضحا أن فرنسا تريد تمرير مقاربتها للمصالحة بين البلدين، حتى وإن كان ذلك عبر إيهام الجزائريين أنهم يشاركون على قدم المساواة في عمل الذاكرة.

واعتبر البروفيسور، أن التقرير الذي قدمه ستورا، يجسد إلى حد بعيد المنهج الفرنسي الرسمي لتطبيع العلاقات الثنائية. وفي تقدير بغزوز، "لا يؤثر كل هذا على المصالح الاقتصادية لفرنسا مع الجزائر على المدى القريب والمتوسط، لا سيما وأن المصالح مشتركة بين البلدين".

وختم بغزوز حديثه بالقول: "غير أن الجزائر تعمل على المدى البعيد على تجنب "الوجه لوجه" في تجارتها الخارجية مع فرنسا، وذلك عن طريق تنويع الشركاء والتوجه أكثر فأكثر نحو الصين وروسيا وتركيا، وغيرها من شركاء صاعدين في الاقتصاد العالمي".