رغم استمرار العنف.. لماذا أعلنت فرنسا الانسحاب من دول الساحل الإفريقي؟

12

طباعة

مشاركة

في الماضي، كانت منطقة دول الساحل الإفريقي مستعمرة فرنسية، وفي الحاضر، ما زالت الأخيرة تعتبر الأولى مناطق منقوصة السيادة، ولباريس المسئولية التاريخية والدولية عليها، وهو ما يعتبره مراقبون "استعمارا ثانيا".

لكن بعد 9 سنوات من المواجهة المفتوحة مع حركة "ماسينا" الموالية لتنظيم القاعدة والإطاحة بحركة "أنصار الدين"، بدأت فرنسا تتحرك لسحب جنودها من دول الساحل (بوركينا فاسو، تشاد، موريتانيا، النيجر ومالي) وخصوصا جمهورية مالي.

تبنت الحكومة الفرنسية قرار الانسحاب بفعل الخسائر المتصاعدة لقواتها في مالي على وجه التحديد، إذ تشكل دول الساحل، باستثناء موريتانيا، مسرحا يوميا للعمليات العسكرية بين فرنسا والقاعدة.

انتقادات عديدة وجهت للعملية الفرنسية إثر ظهور تقارير حول تورط الجنود الباريسيين في اعتداءات جنسية على السكان المحليين، وهو أحد الأسباب الذي دفع فرنسا لإنهاء عملياتها العسكرية وسحب قواتها، حسب مراقبين.

ويشكل القرار بداية للعد التنازلي فى المواجهة المحتملة بين دول الساحل والقاعدة دون مساعدة غربية، لكن بعيدا عن الأهداف المعلنة، كان السبب الرئيس لتورط فرنسا في الأزمة، هو أنها لم تنو مطلقا التخلّي عن نفوذها في إفريقيا.

إفساح الطريق

في الأسبوع الأول من يناير/كانون الثاني 2021، أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، لصحيفة "لو بارزيان" عن تقليص قوة "برخان" الفرنسية المنتشرة في بلدان الساحل الإفريقي، خصوصًا في مالي. 

وقالت إن فرنسا ستضطر لتعديل انتشار قواتها، معتبرة أن التعزيزات التي أرسلت العام الماضي -600 جندي- كانت "إجراء مؤقتا"، فيما تنشر باريس، في إطار عملية "برخان"، التي انطلقت صيف 2014، ما لا يقل عن 5100 جندي، معززين بقوة جوية ودعم لوجيستي.

وقد يعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن القرار بشكل رسمي في القمة الفرنسية - الإفريقية التي ستضم -مبدئياً- إلى جانب ماكرون، قادة دول الساحل الخمس في عاصمة تشاد نجامينا، أواخر يناير/كانون الثاني 2021 أو بداية فبراير/شباط 2021.

واعتبرت الصحافة الفرنسية أن الانسحاب الجزئي أو "إعادة الانتشار" مقبول عسكرياً، كما أنه يستجيب للمطالب التي لا ترى أفقًا لانتهاء الانخراط العسكري الفرنسي في منطقة الساحل.

خسرت باريس حتى اليوم 50 جنديا، بينهم 20 قتلوا في انفجار عبوات ناسفة بدائية الصنع توضع على جوانب الطرقات، وتنفجر لدى مرور الدوريات الفرنسية، حيث تنشط التنظيمات المسلحة.

وفق خبراء، فإن انسحاب فرنسا، قد يكون فرصة للقوى الطامحة لترسيخ نفوذها السياسي والاقتصادي، في الدولة الغنية بالموارد، كاحتياطات ضخمة من الذهب واليورانيوم والمعادن الأخرى، وروسيا جاهزة لملء الفراغ، بدليل أن عدة مظاهرات أصبحت ترفع شعارات مؤيدة لموسكو، مقابل حرق الأعلام الفرنسية.

في 14 يناير/كانون الثاني 2021، أجرى رئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزواني، مباحثات مع الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبيرغ، في مقر الحلف في بروكسل، ركزت على قضايا الأمن والدفاع بمنطقة الساحل الإفريقي.

وذكر حلف الناتو، أن ولد الغزواني هو أول رئيس موريتاني يزور مقره، مشيرا إلى أن موريتانيا بلد شريك للحلف منذ 1995، وقال ستولتنبيرغ إن الناتو "يرحب بمساهمات موريتانيا الكبيرة في مجال الأمن الإقليمي".

وأضاف مخاطبا ولد الغزواني: "أنتم تقودون مجموعة دول الساحل الخمس، وقواتكم على الخطوط الأمامية لمحاربة الإرهاب في المنطقة، ونحن نتابع عن كثب الوضع الأمني".

وأشار الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إلى أن "الحوار المثمر" الذي أجراه مع ولد الغزواني، "يمكن أن يقود إلى تعاون أوسع ما بين الناتو وموريتانيا، خاصة في مجال تأمين الحدود".

عمق إستراتيجي

تقع مالي في العمق الإستراتيجي للدول المغاربية، وذلك فإن سيطرة فرنسا عليها يحقق لها قدرا من الأمن والحماية لأهدافها ولمصالحها المتنوعة في تلك الدول، إضافة لمجموعة الدول الفرانكفونية الأخرى المجاورة لمالي. ومن ثم يصبح التدخل في مالي مسألة منطقية ضمن حسابات المصالح المتنوعة لفرنسا.

كما تأتي أهمية مالي "الجيو اقتصادية"، ضمن حسابات فرنسا، حيث يتميز هذا البلد بمجموعة من الموارد الاقتصادية المهمة والتي زادت من أهمية تلك المنطقة.

مالي تزخر بالعديد من المعادن والثروات من الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس المنجنيز، الفوسفات والملح، ومعادن أخرى إستراتيجية، ويعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذْ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في القارة بعد جنوب إفريقيا وغانا.

لكن البلاد شهدت مظاهرات عديدة منددة بالوجود العسكري الفرنسي بمالي، كما واجهت قوات برخان مزيدا من الخسائر البشرية والمادية في مواجهة التنظيمات المسلحة.

في الأسبوع الأول من مطلع 2021، قتل 5 جنود بينهم امرأة، في هجومين بعبوات ناسفة، تبنتهما جماعة موالية للقاعدة، وارتفعت بذلك حصيلة الجنود الفرنسيين الذين قتلوا في منطقة الساحل منذ 2013 إلى 50 جنديا، بحسب قيادة الأركان الفرنسية.

دفعت هذه الخسائر الرأي العام الفرنسي ذاته إلى المطالبة بسحب جنودهم من الساحل، خصوصا وأن القتال في المنطقة تحول إلى حرب استنزاف مفتوحة في أوساط معادية.

وأمام الضغوط الشعبية سواء في فرنسا أو في مالي، قررت باريس تقليص عدد قواتها في منطقة الساحل، بالتزامن مع قرار أميركي آخر بتخفيض عدد جنودها في إفريقيا، لكن الانسحاب كاملا للقوات الفرنسية من مالي سيعني اعترافا بالهزيمة.

الدكتور إدريس عطية، الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية بجامعة تبسة الجزائرية، والباحث المتخصص في الشؤون الإفريقية والدراسات الإستراتيجية والأمنية، ذهب إلى القول إن إرهاب منطقة الساحل "يخدم فرنسا، ويخلق لها الدوافع والمسبّبات لإعادة إحياء مفهوم التدخل بدعوى مكافحة الإرهاب".

وأضاف لصحيفة "الشعب" الجزائرية، أن هذا ما يضمن استدامة الوجود الفرنسي في المنطقة من أجل سرقة مقدرات أزيد من 100 مليون نسمة تعيش في دول الساحل الإفريقي، سواء يورانيوم مالي، أو بترول النيجر، أو غاز تشاد، أو فوسفات موريتانيا.

التنظيمات المسلحة

بروفيسور العلوم السياسية، قال: "عملية سيرفال الفرنسية في مالي، قبل عملية برخان، كانت بالأساس مرتبطة بحماية نفوذ فرنسا في المنطقة، وليست مرتبطة بمكافحة الإرهاب وغير مرتبطة بتحقيق الاستقرار والأمن في منطقة الساحل".

فشل عملية "برخان"، وفق عطية "هو الفشل الثاني وليس الأول بالنسبة لفرنسا، وهذا يرتبط بعدّة مسبّبات، أولا أنّ فرنسا أصبحت مرفوضة من قبل شباب دول الساحل الإفريقي، كما أنّها لم تحقّق نتائج تذكر في مجال مكافحة العنف".

وذهب عطية إلى حد القول، إن فرنسا "كانت ولا زالت تتفاوض وتتعامل مع التنظيمات المسلحة، بل وتتبادل معهم الأسرى وتقدّم لهم الفدية ضاربة عرض الحائط بكل اللوائح الدولية".

وتابع خبير الشؤون الإفريقية: يزيد مجموع ملايين اليوروهات التي قدّمتها فرنسا للإرهابيين مقابل إطلاق سراح رهائن فرنسية على 350 مليون يورو من 2003 إلى نهاية 2020.

مضيفا: "وهنا يمكن القول، إنّ فرنسا تساهم في صناعة الإرهاب لأنها مستفيدة منه ماديا وإستراتيجيا، فهي تنظر لمنطقة الساحل كمجال حيوي حكر لها وحدها".

لذلك فهي تدفع الفديات لرهائن مفبركة ومسلحين مأجورين، وفق عطية، وهذا ما يغذّي هذه التنظيمات ويدعّم استمرارها، والأمر لا يتعلق بتقديم الفدية وإنما يتعدى ذلك إلى تقديم الأسلحة، فأغلب الأسلحة والمعدات الموجودة لدى هذه التنظيمات في منطقة الساحل هي من صنع فرنسي بالأساس.

وجزم البروفيسور، بأن فرنسا لا تريد استقرار المنطقة ولا ترغب في مكافحة الإرهاب، لذلك فهي تتماطل في ذلك وتفكّر فقط في نهب الثروات، لأن عدم الاستقرار يخدمها، كما أنها عندما خرجت من منطقة الساحل سنة 1960 تحت طائلة منح استقلال هذه الدول تركت مسبّبات عودتها، وهي حتى الآن تعمل على صناعة نخب إفريقية موالية لها وخائنة لشعوبها.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، أعلنت الرئاسة في مالي تحرير 4 رهائن، وأفادت تقارير إعلامية متطابقة بأن العملية تمت بصفقة مبادلة بين زعيم تنظيم تابع للقاعدة يدعى إياد آغ غالي، وفرنسا ومالي، تم على إثرها إطلاق سراح 207 إرهابيين مع دفع مبلغ مالي تراوح بين 6 ملايين يورو (7.3 ملايين دولار) و30 مليون يورو (36.3 مليون دولار).

سد الفراغ

الدكتور ديدي ولد السالك، رئيس المركز المغاربي للدراسات، قال إن فرنسا لن تسحب كل جنودها، لكن أغلبهم، باعتبار أنها في منافسة مع الولايات المتحدة الأميركية والصين، ما يحتم عليها البقاء في المنطقة.

ولد السالك أضاف لـ"الاستقلال": "لكنها ستخفف من وجودها لعدة أسباب، أولها هو الكلفة المادية والبشرية، كما أنها فشلت في العديد من العمليات، والفرنسيون لا يتحملون هذه الخسائر المتتالية".

السبب الثاني، وفق ولد السالك لـ"الاستقلال"، هو أن "فرنسا تواجه نقدا متزايدا في أوساط النخبة بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، بسبب سياساتها في كل مستعمراتها السابقة والخاضعة لنفوذها، والتي تسببت في مشاكل معقدة أبرزها: الهوية والفساد والاستبداد وتعطيل التنمية".

لا يرى خبير العلاقات الدولية، أن "المشكل في منطقة الساحل، سيحل بمعالجة أمنية، لأنه في الأساس مشكل سياسي وثقافي، فهذه الدول عاشت مظلمات تاريخية مثل أزمة الطوارق في شمال مالي والنيجر والصراعات العرقية، وبالتالي فالوجود الفرنسي لم يسمح بتحقيق كيان مندمج، لأنها من مخلفات الاستعمار، ولم تراع فرنسا البعد الجغرافي والبشري".

وخلص ولد السالك إلى القول: "ما لم تعالج أسباب هذه الأزمات المتفاقمة، فأي وجود لأي قوات أجنبية سيدخل في مواجهات دون تحييد أساس المشكل".

وذهب دكتور العلاقات الدولية، إلى أن "انسحاب القوات الفرنسية، سيترك فراغا، لكن هذا الفراغ سيتم سده من خلال قوات دول الساحل نفسها، باعتبار أنها بدأت تشكل قوات مشتركة من خلال وجود الصين وأميركا وروسيا وتركيا في المنطقة، واهتمام المجتمع الدولي بتنمية المنطقة من خلال شراكات تنموية".

وأرجع الخبير اهتمام التكتلات الدولية، بما فيها الاتحاد الأوروبي، بدول منطقة الساحل الإفريقي، إلى كونها أصبحت "خاصرة العالم الرخوة"، وتركها لأزماتها سيزيد من مشاكل العالم على مستوى الهجرة والإرهاب والتهريب، وكل أنواع الجريمة المنظمة.

إلى جانب التهديدات الأمنية، أبرز الدكتور، "توفر المنطقة على الكثير من الثروات من الغاز والذهب واليورانيوم، حيث يمكن صناعة مستقبل تنمية العالم، وهو ما تدركه فرنسا وما جعل خروجها صعبا".

وتعليقا على زيارة ولد الغزواني لمقر حلف الناتو، قال ديدي ولد السالك: "الاهتمام الأوروبي بموريتانيا نابع من عدة اعتبارات، أولها أنها بوابة منطقة الساحل والصحراء على أوروبا لقربها من جزر الكناري وإسبانيا وشمال إفريقيا، ما جعل موقعها إستراتيجيا".

وذهب المتحدث إلى البعد الثاني، قائلا: "موريتانيا تتوفر على عدد كبير من الثروات سواء السمكية أو المعدنية والغازية، وكلها محل اهتمام عالمي، أما البعد الثالث فهو أن موريتانيا حققت مكاسب في محاربة الإرهاب وقد تعتبر نموذجا لدول المنطقة".