مالي تقترب من حافة التصفيات العرقية.. ما دور فرنسا؟

محمد العربي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

على مدار ستة أعوام متصلة، تعيش مالي في أزمات متواصلة، ولا تكاد تخرج من واحدة، حتى تجد أقدامها غارزة في أخرى، ولعل الواقعة الأخيرة التي راح ضحيتها ما يقرب من 160 مواطنا بقريتي أوجوساجو وويلنغارا، في هجوم شنه مسلحون على سكان القريتين المنتمين لقبيلة الفولاني المسلمة، طرح العديد من التساؤلات عن المغزى من وراء الحادث، وهل يمكن أن يكون في إطار ما يتم ترويجه، بأن مالي على مشارف حرب عرقية، بين القبائل ذات الأصول العربية والأخرى ذات الأصول الأفريقية.

الواضح من الحادث الأخير، أن مالي تعيش بين ثالوث قاتل، أحد أضلاعه انتشار الجماعات المسلحة التي تنتمي فكريا وتنظيميا لتنظيم القاعدة، أما الضلع الثاني فتمثله القوات الفرنسية المتواجدة هناك بحجة مواجهة هذه الجماعات، أما الضلع الثالث، فهي الحرب العرقية التي تغذيها فرنسا وغيرها من الطامعين في ثروات أفريقيا البكر، سواء كانوا من داخل مالي أو خارجها.

دلالة الحادث

حسب الشهادات المحلية لسكان قرية أوجوساجو بوسط مالي، فإن المسلحين الذين هاجموا مدينتهم كانوا يرتدون الزي التقليدي لقبائل عرقية الدونزو المعروفة بدمويتها، وارتباطها بقيادات في الجيش المالي، وحاصروا القرية قبل الهجوم عليها بعدة ساعات، وسط غياب أي تدخل حكومي يذكر.

وتشير الشهادات إلى أن الهجوم جاء ردا على إعلان "جبهة تحرير ماسينا" إحدى الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة، تبنيهم لهجوم آخر وقع قبل أسبوع من حادث الفولاني، أسفر عن مقتل 26 جنديا تابعين للحكومة المالية، بينما يرى آخرون أن الهجوم ارتبط بزيارة تقوم بها بعثة خاصة من مجلس الأمن الدولي لمالي، في إطار المساعي الدولية لوقف العنف الذي أودي بحياة مئات المدنيين خلال العام الماضي.

وأيا كان رابط الحادث، فإن تداعياته لن تقف عند حدود قرية أوجوساجو، خاصة وأن أحد أطراف الثالوث القاتل في مالي، له وجهة نظر يريد إقرارها على أرض الواقع؛ ليبرر استمرار وجوده بالبلاد، والمقصود هنا بالطبع هو الاحتلال الفرنسي.

وتقع مالي في غرب إفريقيا، ولها حدود مشتركة مع 7 دول، وهي جزء من الصحراء الكبرى، التي تربط القارة الأفريقية بأوروبا حيث يحدها من الشمال الجزائر، ومن الشرق النيجر، وفي الجنوب بوركينا فاسو وساحل العاج، أما من الجنوب الغربي فتحدها غينيا، وفي الغرب منها تقع كل من السنغال وموريتانيا.

وتبلغ مساحة مالي 1.240.000 كم²، وعدد سكانها 14.5 مليون نسمة، وقد أدت مجاورتها لسبع دول، لأن تكون أضعف الحلقات في منطقة الساحل الأفريقي والجزء الشمالي من القارة، ما جعلها الأكثر عرضة لعدم الاستقرار، إضافة لما يعانيه الشعب هناك من فقر وجهل طاحن، رغم المراعي الغنية والمعادن الهامة التي تعد مطمعا لدول القارة الأوروبية وخاصة فرنسا، التي مازالت تتعامل مع مالي باعتبارها السودان الفرنسي الذي كانت تحتله قبل عشرات السنين.

حرب عرقية

ورغم أن أي جهة لم تعلن مسئوليتها عن الحادثة الأخيرة، إلا أن وقوعها في أحد فروع قبيلة الفولاني، له دلالات اقتصادية، وسياسية وعرقية، وحول الأخيرة تحدثت الصحافة الفرنسية عن المصير الذي ينتظر مالي، بعد الحادث الأخير، وحسب مقالين منفصلين في صحيفتي "لوموند" و"لوفيغارو" الفرنسيتين، فإن مشاهد الدمار وآثار العنف من الجثث المحترقة مقطوعة الرؤوس والأشلاء وبقايا المنازل المدمرة، تشير إلى مدى الكارثة، حيث لم يدخر المهاجمون جهدا في قتل الأطفال والنساء وكبار السن، وحسب شاهد عيان، فإن المهاجمين أحرقوا كل شيء بالبنزين وقتلوا كل شيء يتحرك بالأسلحة.

وتحدثت "لوفيغارو"، على أن هذا الحادث ليس الأول الذي يحدث لقبيلة الفولاني منذ الانقلاب العسكري بمالي عام 2012، حيث سبقه حادث شهير في بداية يناير/ كانون الثاني الماضي بقرية كولوغون، أودى بحياة 37 فولانيا.

وبحسب مصادر تحدثت للصحيفة، فإن التغيرات التي أجراها الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، بعد أربع وعشرين ساعة من الهجوم، على الحكومة، بفصل عدد من الوزراء، واستبدال ثمانية مسؤولين كبار، من بينهم رئيس الأركان العامة للجيش الوطني بمالي، وحل الرابطة الرئيسية للصيادين، فإن كل ذلك يشير إلى تورط قيادات بالجيش في المذبحة، أو وفقا لوصف "الصحيفة" فإنه "نصف اعتراف بمسؤولية الجيش في اندلاع العنف"، مستدلين بتأخر الجنود في التدخل لإيقاف المذبحة رغم وجود قاعدة عسكرية صغيرة تبعد أقل من عشرين كيلومترا عن القرية، ولكن الأمر استغرق ما يقرب من أربع ساعات لوصول الجنود.

وتشير مصادر أخري لوجود علاقات قوية بين الجيش ومليشيات دوغون دان نا أمباساغو، الذي نفذت المذبحة، ردا على هجوم تبنته "جبهة تحرير ماسينا" في 17 مارس/ آذار الجاري، ضد قاعدة عسكرية تتبع الجيش الوطني المالي الموالي لفرنسا، ما أودى بحياة 26 جنديا، وباعتبار أن قبيلة الفولاني تمثل القوام الأساسي لجبهة تحرير ماسينا الإسلامية، فقد جاء الرد في أحد معاقل القبيلة بوسط مالي.

ووفقا لتأكيدات الأمم المتحدة فإن ميلشيا دوغون، تمتلك نفس الأسلحة والذخيرة الموجودة لدى الجيش المالي، وهو ما يدعم وجود قيادات في الجيش، تريد إشعال الموقف وجر البلاد لحرب أهلية، وإشعال الفتن بشكل مستمر، لخدمة أهداف ومصالح خارجية.

وتختم "لوفيغارو"، بالقول: إن هذه المذبحة تشير إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار المبرم بين الفولاني ودوغون الذي تم توقيعه في سبتمبر/ أيلول الماضي قد عفا عليه الزمن؛ ما يعني فشل إستراتيجية رئيس الوزراء لإنهاء العنف بين الجانبين.

ماذا تريد فرنسا؟

وبحسب المحليين، فإنه رغم أن التناول الإعلامي والسياسي للمذبحة الأخيرة، لم يشر من قريب أو بعيد لوجود دور فرنسي بالأحداث، إلا أن قاعدة "فتش عن المستفيد" تدفع الأمور باتجاه باريس، خاصة وأن تورط قيادات في الجيش، من بينهم رئيس الأركان المقال في الحادثة، يؤكد تورطهم في الحادثة، وأن تنسيقا جرى بينهم وبين القوات الفرنسية المسيطرة على الأوضاع السياسية والعسكرية هناك.

وتشير الدلائل السابقة إلى أن فرنسا تستخدم الأحداث المسلحة، سواء التي تقوم بها الجماعات المسلحة، أو الأخرى التي تقوم بها الميلشيات العرقية المسلحة، التي لم يعد خافيا ارتباطها بالجيش المالي، وبالتبعية للقوات الفرنسية، فإنها تستخدمها مبررا لاستمرار وجودها بحجة مقاومة ومكافحة الإرهاب، وللتغطية على المشروع الاستعماري الذي تصر فرنسا على المضي فيه، ليس في مالي فقط، وإنما في كل مستعمراتها السابقة بأفريقيا.

ورغم أن فرنسا رفعت منذ بداية تدخلها بالأزمة المالية، شعارات حماية الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، إلا أن الأحداث على أرض الواقع، تشير لمقتل الآلاف طوال السنوات الست الماضية من أبناء الشعب المالي، سواء من العرقيات العربية مسلمة، أو العرقيات الأخرى.

وتشير دراسات بحثية عديدة إلى أن مالي تعتبر إحدى الدول الغنية من حيث الثّروات الطّبيعية، وهذه الأهميّة الجيوبوليتيكية هي التي زادت من حدّة تنافس القوى الغربية عليها، حيث تعتبرها فرنسا منطقة نفوذ حيوي، باعتبارها مستعمرة سابقة لها، إضافة لموقعها الإستراتيجي، حيث تحاذي العديد من الدول الغنية بالثروات المعدنية، مثل: الجزائر، موريتانيا، النيجر.

ووفقا لما سبق فقد اتخذت فرنسا من الانقلاب العسكري الذي جرى بمالي عام 2012، وفشل الجهود الإقليمية، والدولية لتسوية النزاع، ذريعة لتضخيم الأحداث، وتصويرها على أنها إرهاب، يتطلب التدخل الفرنسي لإعادة سيطرة النظام الحاكم، إلا أن الواقع يشير إلى أن الدافع الرئيسي لفرنسا هو المحافظة والإبقاء على مصالحها، والسعي لاسترجاع نفوذها ومكانتها وهيمنتها السابقة خلال الحقبة الاستعمارية في القارة الأفريقية، والسيطرة على ما تملكه الدولة المالية وتزخر به من ثروات وموارد أولية هامة.

وتشير الدراسة السابقة نفسها إلى أن الوضع الجيوبولوتيكي للدولة المالية، يجعل هناك منظومة من المصالح السياسية والاقتصادية لفرنسا، تحفزها على التدخل لحماية تلك المنظومة، ومن أهمها أن مالي دولة إسلامية أفريقية، وتحتل المرتبة 24 عالميا من حيث المساحة.

ويضاف إلى ذلك، أن مالي تقع في العمق الإستراتيجي للدول المغاربية، وذلك فإن سيطرة فرنسا عليها يحقق لها قدرا من الأمن والحماية لأهدافها ولمصالحها المتنوعة في تلك الدول، إضافة لمجموعة الدول الفرانكفونية الأخرى المجاورة لمالي. ومن ثَم يصبح التدخل في مالي مسألة منطقية ضمن حسابات المصالح المتنوعة للدولة الفرنسية.

كما تأتي أهمية مالي "الجيو اقتصادية"، ضمن حسابات فرنسا، حيث يتميز هذا البلد بمجموعة من الموارد الاقتصادية المهمة والتي زادت من أهمية تلك المنطقة، فهي تزخر بالعديد من المعادن والثروات من الذهب، والبوكسيت، واليورانيوم، والحديد، والنحاس، واللتيوم، والمنجنيز والفوسفات والملح، ومعادن أخرى إستراتيجية. كما يعتبر الذهب أهم المصادر المعدنية للاقتصاد المالي، إذْ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا.

كيفية السيطرة؟

تعتمد سياسة فرنسا في السيطرة على مالي، على نفس السياسات الأخرى التي تتبعها مع مستعمراتها السابقة، وكما جرى في دولة أفريقيا الوسطى منذ سنوات، نفذت فرنسا الأسلوب مع مالي نفسه، من خلال فرض مسؤولين يدينون بالولاء لفرنسا، بما يضمن مصالحهم المشتركة، وتدعم ذلك بعدد من القواعد العسكرية، التي تجعلها الأسرع بين دول العالم في التدخل السريع، داخل الدول الأفريقية، سواء كان هذا التدخل بدعم أممي ودولي، أم من خلال تحرك فردي فرنسي، وهو الغالب في كثير من الأحيان، وهو ما يبرر وجود 5 قواعد عسكرية لفرنسا في مختلف أرجاء القارة الأفريقية.

 

وفي الحالة المالية، اعتمدت فرنسا على توقيع اتفاقية دفاع عسكري مشترك، تتفرع منها اتفاقيات ثنائية تشمل العديد من مجالات المساعدات العسكرية والفنية، المباشرة لجيوش وأجهزة الشرطة، إضافة للمنح الدراسية العسكرية، وبرامج التدريب في أكاديمياتها المنتشرة بالقارة تحت شعار عمليات حفظ السلام.

وتقدم فرنسا العديد من الأسباب لتبرير تدخلها العسكري بمالي، من أهمها: التصدي لقوة الجماعات المسلحة، والحفاظ على وجود حكومة مالي مستقلة، واستعادة وحدة أراضيها وسيادتها الكاملة، وأخيرا التحضير لنشر قوة التدخل الأفريقية المرخَص لها بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي.

خريطة الجماعات المسلحة

في مقابل الوجود الفرنسي فإن مالي، تعد إحدى الدول الأفريقية الهامة لجماعات "الجهاد الإسلامي" المسلح، وخاصة تنظيم القاعدة، وهو ما مكن هذه الجماعات من السيطرة على المناطق الشمالية بالبلاد، وإعلان دولتهم المستقلة بإقليم أزواد، بعد تحالف حركة تحرير أزواد العلمانية، مع جماعة أنصار الدين، التي قامت الأخيرة بالسيطرة الكاملة بعد ذلك على الإقليم نتيجة الخلافات الدموية التي حدثت مع حليفتها العلمانية التي كان يشكل معظم قواتها مقاتلي الطوارق الذين خدموا لصالح معمر القذافي في الجيش الليبي.
وقد استطاعت جماعة "أنصار الدين"، مع حلفائها من حركة "التوحيد والجهاد" في غرب أفريقيا، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وكتيبتي "أنصار الشريعة" و"الملثمين"، من السيطرة على مناطق شمال مالي ومدنها الكبرى (تمبكتو وغاو وكيدال)، والتي تمثل مجتمعة أكثر من نصف مساحة البلاد، قبل أن تتدخل فرنسا في 2013 لتغير الوضع، لصالح الحكومة المالية، ولكنها فتحت على نفسها حروبا أخرى متعددة مع هذه الجماعات.

ورغم أن مالي عرفت ما لا يقل عن 15 جماعة سلفية مسلحة، انتشرت في طول البلاد وعرضها، وخاصة في المناطق الشمالية، إلا أن عددا كبيرا من هذه الجماعات أعلنت الاندماج في جماعة واحدة أطلقت على نفسها اسم ""جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"،

واختارت قائد جماعة أنصار الدين إياد أغ غالي زعيما لها، وتعد جماعات إمارة منطقة الصحراء، والمرابطون، وأنصار الدين، وكتائب ماسينا، أبرز مكونات الجماعة الجديدة، التي أعلنت بيعتها لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، وبيعتها لقائد فرع التنظيم في المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وزعيم حركة طالبان الأفغانية الملا هيبة الله. وقد مثّل هذا الاندماج الذي جرى في مارس/ آذار 2017، نقطة تحول في عمل هذه الجماعات، ضد القوات الفرنسية من جانب، والجيش المالي من جانب آخر والمليشيات العرقية المسلحة في جانب ثالث.