"نموذج فعلي".. ما مدى نجاح المبادرات المجتمعية في دفع عجلة التنمية في سوريا؟

"هذه المبادرة المجتمعية قادرة على تغطية الجزء العاجل من إعادة الإعمار"
مع رغبة السوريين في إعادة الحياة إلى مدنهم المدمرة وتسريع عملية التعافي المبكر، تبدو المبادرات المجتمعية لدعم المشاريع التنموية بالمدن خطوة فاعلة لتحريك عملية إعادة الإعمار الضخمة والطويلة.
فبينما تزال جهود إطلاق عملية إعادة الإعمار مرهونة بحسابات دولية رغم حاجة البلاد إليها بشدة، وجد السوريون أن تحسين جودة الخدمات في مدنهم حاجة ملحة، وأن مبادرات جمع الأموال الأهلية هي الحامل الأساسي لها.
مبادرات مجتمعية
وورثت الحكومة السورية الجديدة تركة اقتصادية منهارة بعد أكثر من خمسة عقود من الحكم الاستبدادي تخللها أربعة عشر عاما من التدمير الممنهج للمدن.
وأمام ضعف ميزانية الحكومة الجديدة، تجد المجتمعات المحلية أنها مضطرة لتحديد الاحتياجات والأولويات لإعادة بناء البنية التحتية شيئا فشيئا مما يساعد على تحسين جودة المعيشة وتحقيق قفزات أسرع نحو الاستقرار.
فبعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 انكشف حجم الدمار والخراب الذي خلفه قصف النظام البائد؛ ولهذا فإن نقص الخدمات وغياب البنى التحتية يشكل تحديا إضافيا للاستقرار وعودة النازحين واللاجئين.
إذ ما تزال مساحات شاسعة من سوريا غير صالحة للسكن بسبب دمار الحرب؛ حيث لا تزال أحياء كاملة في مدن كبرى بريف دمشق وشرق حلب ودمشق وفي إدلب وحمص والرقة ودير الزور مدمرة، فيما سويت قرى بأكملها بالأرض.
كما أن غياب البنية التحتية الأساسية والمياه النظيفة والكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية، يجعل إعادة الاندماج على نطاق واسع أكثر تعقيدا.
وأمام ذلك، فإن الأمل بمستقبل أفضل في سوريا الجديدة، خلق دافعا لإحياء المبادرة المجتمعية لدعم المشاريع التنموية في المحافظات والتي شكلت نموذجا محليا فعالا يبنى عليه على طريق التنمية.
وأقامت محافظة حمص ووزارة الثقافة، وبالتعاون مع فريق ملهم التطوعي، مؤتمر "أربعاء حمص"، في 13 أغسطس/ آب 2025، بهدف عرض مشاريع تنموية قابلة للتمويل تلبي احتياجات المدينة في قطاعات المياه والتعليم والخدمات العامة.
ويأتي المؤتمر كخطوة عملية ضمن حراك تنموي يسعى لدعم جهود التعافي وإعادة النهضة إلى محافظة حمص الواقعة وسط البلاد بعد سنوات من الدمار.
ووصل إجمالي التبرعات التي تم جمعها في المؤتمر نحو 13 مليون دولار، بحسب ما أعلن فريق “ملهم” التطوعي.
وعقب ذلك، أطلق أهالي محافظة درعا الواقعة جنوب سوريا، حملة "أبشري حوران"، في 30 أغسطس 2025 بوصفها مبادرة مجتمعية تهدف إلى دعم المشاريع التنموية في المحافظة حيث تجاوزت التبرعات التي جرى جمعها من الأهالي 40 مليون دولار.
وخلال الحفل الذي أقيم على مدرج مدينة بصرى الشام التاريخية، أعلن وزير المالية، محمد يسر برنية، تبرع الحكومة بمبلغ 10 ملايين دولار، لصالح الحملة.
وكان من أبرز المتبرعين الملياردير موفق قداح، الذي قدم 10 ملايين دولار لمساعدة محافظته على النهوض من جديد.
كذلك قرر أبناء محافظة دير الزور شرق سوريا إطلاق فعالية "دير العز"، في 11 سبتمبر 2025، حيث تهدف الحملة لجمع التبرعات المالية لدعم المحافظة التي نالت النصيب الأكبر من التدمير.
وقالت وكالة الأنباء السورية “سانا”، إن المبادرة المجتمعية في دير الزور تهدف إلى جمع 25 مليون دولار لدعم مشاريع خدمية وتنموية في المحافظة التي تعاني من دمار واسع تجاوز 80 بالمئة من بنيتها التحتية.
ويشارك في الحملة أبناء المحافظة داخل سوريا وخارجها، إلى جانب رجال أعمال وفعاليات وطنية.
"الجزء العاجل"
والتركيز المجتمعي في هذه المرحلة، على دعم المشاريع ذات الأولوية التي تشمل تأهيل وصيانة آبار المياه، وترميم المدارس، وتأهيل المشافي ورفدها بالأجهزة الطبية الحديثة، وتأهيل القطاع الخدمي، يعد وفق الخبراء إحدى اللبنات الأساسية التي تسبق إعادة الإعمار الطويلة وغير السهلة.
وتراوحت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بسوريا بين 250 و400 مليار دولار، في وقت لا يزال فيه أكثر من نصف السكان (24 مليون نسمة عدد سكان سوريا) يعيشون كنازحين، و90 بالمئة منهم تحت خط الفقر، ناهيك عن أن 16.7 مليون شخص في سوريا (أو 75 بالمئة من السكان) احتاجوا إلى مساعدات إنسانية عام 2024، وفقا للأمم المتحدة.
وضمن هذا السياق، يؤكد الباحث والمحلل الاقتصادي، رضوان الدبس، أن "المبادرة المجتمعية التي تشهدها بعض المحافظات لدعم المشاريع التنموية فيها لا تكفي، لأن التقديرات الأولية لإعادة الإعمار كلفتها كبيرة وتحتاج لمجموعة دول مع منظمات دولية لتغطية النفقات علاوة على الوقت الطويل".
وأضاف الدبس لـ"الاستقلال" أن "هذه المبادرة المجتمعية قادرة على تغطية الجزء العاجل من إعادة الإعمار للمدن المدمرة".
وأردف بأن "تلك المبادرة قادرة على تشجيع منظمات دولية أكبر وأخرى للأمم المتحدة وجمعيات خيرية لبعض الدول التي تمارس نشاطات عالمية على الدخول في الحالة السورية والمشاركة في البناء".
وألمح الدبس إلى أن "المطلوب في هذه المبادرات لجمع الأموال هو مراعاة جانب الشفافية العالية ووضع خطط واضحة لتوجيه التبرعات وصرفها على الاحتياجات المستعجلة والتي يجب أن يسبقها تقييم من قبل المحافظة".
وقبيل إطلاق تلك الحملات في بعض المحافظات، عملت منظمات محلية على تقييم المشاريع التي طُرحت بالتعاون مع المؤسسات الحكومية لتحديد الاحتياجات والأولويات.
وهنا يشير الدبس إلى أن "المبالغ التي يتم جمعها من قبل تلك الحملات في المحافظات السورية ينبغي أن تصرف في مشاريع وقطاعات تمس الحياة اليومية للمواطن مثل تأهيل المشافي ورفدها بالمعدات، وكذلك التعليم والمياه وغيره".
وكان لافتا أن كل محافظة اختارت مجلس أمناء للمبادرة من وجهاء وشخصيات لها حضور مجتمعي والتي ستحفظ التبرعات ضمن صندوق خاص وبالتنسيق مع المحافظة.
"الشفافية أولا"
ومع ذلك، يؤكد كثير من المراقبين أن الشفافية العالية مطلوبة في هذه المرحلة وبمثل هذه المبادرات التي يشكل نجاحها دفعة قوية نحو إعادة الإعمار.
وهذا ما يؤكده الدبس بقوله إن "الشفافية في مثل هذه الحملات المالية والمساءلة في جميع مراحل العمل، تسهم في خلق مبادرات جديدة في المحافظات السورية عندما تؤتي تلك التبرعات أكلها مما يشجع على التبرع السخي من قبل السكان".
وشدد على أن "مثل هذه الحملات هي رسالة للخارج على قدرة المجتمع المدني السوري على إعادة تنشيط الخدمات العاجلة في ظل عجز الدولة المالي في هذه المرحلة".
وذهب الدبس للقول “يجب ألا يذهب جزء من مجموع التبرعات نحو المصاريف الإدارية التي تقلل من نفعها على المجتمع”.
وتابع: "خاصة أن بعض المنظمات تأخذ من 20-40 بالمئة من مجموع التبرعات المالية كنفقات إدارية ولوجستية وهذه من النقاط التي يجب التركيز عليها في هذه المرحلة التي تمر بها سوريا, خاصة أن المنظمات العالمية والخيرية تأخذ ذلك الأمر في الحسبان قبل تقييم المشاريع المقدمة من قبلها لدعم المشاريع".
وأظهرت المبادرات الفردية والجماعية التي أطلقها سوريون فور سقوط “نظام الأسد" في مدنهم وبلداتهم مدى حضور "الحس الوطني" كرافعة أساسية لدفع سوريا نحو الانتعاشة.
وشهدت المدن السورية وما تزال حملات تنظيف كبيرة للشوارع وطلاء للجدران وتزيين الأماكن العامة.
وهذا السلوك يعكس روح التعاون والمساعدة وتضافر جهود الأهالي والمغتربين لدعم مدنهم الأصلية ودب الحياة فيها من جديد بعد سنوات من الدمار.
وهنا يشير الصحفي السوري عمر الحريري المنحدر من درعا، إلى هذه الجزئية بقوله: إن "البعض قد يظن أن حملة أبشري حوران كانت مجرد حملة تبرعات لإعادة ترميم المدارس والصحة والمياه، لكن ما ظهر خلف الكواليس كان أعظم".
وأضاف عبر حسابه على منصة "إكس" في 31 أغسطس أن "كل شيء كان تطوعيا من فريق خطط وحدد الأولويات والمشاريع وفريق درس احتياجات الناس ورسم خارطة العمل، وفرق للتصميم، والبث المباشر، والمواقع الإلكترونية".
وأشار الحريري إلى أن هناك "فريق أمن سيبرانيا تابع الثغرات التقنية ليحمي الحملة، وكذلك فريق معلومات جمع ونسق البيانات بدقة".
وختم بالقول "هذا المشهد لم يكن مجرد تبرعات، بل كان درسا تاريخيا في الوحدة، وأن ما يجمع الناس أكبر من أي ظرف، وأن الطاقة الكامنة في أبناء البلد قادرة على إعادة البناء من جديد".