أبعاد التمدد الإيراني في تايلاند.. نفوذ ناعم يتحول إلى هاجس إقليمي

حوالي 1 بالمئة من سكان تايلاند من الشيعة
حالات من المد والجزر خلال السنوات الأخيرة، شهدتها العلاقات الدبلوماسية بين إيران وتايلاند، الممتدة على مدار 70 عاما.
ومع ذلك، فإن رغبة إيران في توسيع نفوذها لدى الطائفة الشيعية في تايلاند لم تتغير عبر الزمن، وخلال العام 2024، تصاعدت هذه الجهود بشكل ملحوظ.
ورصد مقال نشره معهد "دراسات الأمن القومي الإسرائيلي" (INSS)، النفوذ الإيراني المتزايد في تايلاند. مشيرا إلى أن “على إسرائيل احتواءه قبل أن يتفاقم”.
وجاء المقال بقلم الرائد احتياط، داني سيترينوفيتش، هو كبير الباحثين في معهد "آبا إيبان للدبلوماسية الدولية" في دولة الاحتلال، وخدم 25 عاما في مناصب قيادية متنوعة بوحدات الاستخبارات الإسرائيلية.
وقال سيترينوفيتش إن "إيران وتايلاند احتفلتا بمرور 70 عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وهي علاقات تستند إلى تاريخ عميق يربط البلدين".
وتعود جذور هذه الصلات إلى رحلة التاجر ورجل الدين الفارسي أحمد القمي، الذي وصل إلى سيام قبل نحو 420 عاما، مُنشئا رابطا مبكرا بين سكان فارس وسيام آنذاك.

تعميق العلاقات
وعلى مر السنين، شهدت العلاقات بين البلدين تقلبات عدّة، وبلغت أدنى مستوياتها عام 2012 حين أرسلت إيران خلايا لاستهداف أهداف إسرائيلية في بانكوك.
لكن بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، وفي ظل تعهّد إيران للسلطات في بانكوك بعدم تنفيذ هجمات على الأراضي التايلاندية، تحسّنت العلاقات بشكل كبير، وانعكس ذلك في تعمّق الروابط الاقتصادية.
وفي فبراير/شباط 2025، أبرم البلدان اتفاقا اقتصاديا جديدا أدّى إلى زيادة حجم التجارة بينهما بنسبة 25 بالمئة.
كما أسهمت وساطة إيران بين تايلاند وحركة حماس لتأمين الإفراج عن العمال التايلانديين، الذين احتُجزوا خلال هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، في تعزيز العلاقات بين الدولتين.
وبحسب سيترينوفيتش، فقد ينبع جزء من رغبة طهران في تعميق علاقاتها السياسية مع بانكوك من طموحها لتوسيع نفوذها على السكان الشيعة في تايلاند، فـ12 بالمئة من سكان تايلاند مسلمون، وحوالي 1 بالمئة منهم شيعة، وتتركز الغالبية العظمى منهم في منطقة بانكوك.
وفي السنوات الأخيرة، خاصة خلال العام 2024، عززت إيران الآليات المتنوعة التي أنشأتها في تايلاند، سعيا منها لـ"تعزيز قبضتها على هذه الأقلية وإخضاعها لأهدافها"، بحسب الباحث الإسرائيلي.
وكان أحد مؤشرات هذا الاتجاه زيارة ميثم مطيعي، المحاضر بجامعة الإمام الصادق في طهران، والذي يُعد أحد أهم الدعاة في إيران، ومقربا من المرشد الأعلى علي خامنئي.
ووصل مطيعي إلى تايلاند في سبتمبر/أيلول 2024، ويُقال: إن خامنئي أرسله بهدف واضح وهو تصدير "أيديولوجية النظام".
وأوضح المقال أن زيارة مطيعي كانت استثنائية، ليس فقط بسبب الدعاية التي حظيت بها، ولكن أيضا لأنه سعى إلى الترويج لـ"جامعة المصطفى"، التي لديها فرع نشط في بانكوك.
وتُعد هذه الجامعة "رأس حربة النظام الإيراني في تعزيز ونشر أيديولوجية الثورة".
ويدرس حوالي 50 ألف طالب أجنبي كل عام في الحرم الجامعي الرئيس للجامعة في محافظة قم وفروعها حول العالم (عبر الإنترنت)، حيث يتلقون في الغالب محتوى مؤيدا للنظام ومعاديا للغرب.
وتخضع الجامعة نفسها لعقوبات من الحكومة الأميركية بسبب قيام "فيلق القدس" بتجنيد ناشطين فيها لتنفيذ عمليات في الخارج.
وعام 2024، أغلقت السلطات الألمانية فرع الجامعة في برلين بدعوى أنه “يشكل مركز تجسس إيراني”.
توسيع النفوذ
ولم يكن مطيعي رجل الدين الإيراني الوحيد الذي زار تايلاند أخيرا، ذلك أن جواد مروي -وهو رجل دين إيراني وعضو في كل من المجلس الأعلى لحوزة قم وجمعية مدرسيها، ويُدرّس الفقه فيها- زار أيضا تايلاند في أغسطس/آب 2024.
وخلال زيارته، افتتح فرعا لـ"أهل البيت" في بانكوك، وهي مؤسسة أخرى يستخدمها النظام الإيراني لتصدير الثورة -وفق المقال- وفي حفل الافتتاح، أشاد مروي بالزعيم الراحل لحركة حماس، يحيى السنوار، وشبهه بالإمام الحسين بن علي.
وفي هذا السياق، وسّعت هيئة الإذاعة الإيرانية (IRIB)، وهي أداة رئيسة لنشر رسائل النظام بين المجتمعات الشيعية حول العالم، نطاق نشاطها في تايلاند خلال العام 2024، حتى إن مسؤولين كبارا من الهيئة زاروا بانكوك للترويج لإنتاجات مشتركة مع نظرائهم التايلانديين.
ويُعدّ المركز الثقافي الإيراني في العاصمة بانكوك قناة مهمة أخرى لجهود نفوذ طهران في تايلاند.
ويهدف هذا المركز الذي تديره السفارة الإيرانية بقيادة الدبلوماسي مهدي زارع بي عیب، في المقام الأول إلى توسيع نطاق دراسات اللغة الفارسية في البلاد، وتعزيز الروابط الأكاديمية بين الجامعات في تايلاند وإيران.
إلا أن هذه المراكز الثقافية تؤدي أيضا وظيفة سياسية -وفق المقال- وقد تجلى ذلك، على سبيل المثال، في روما، حيث يعمل المركز الثقافي الإيراني على تعزيز صورة إيران وتشجيع سياساتها المناهضة للإمبريالية، مما يُظهر أن هدفه ليس ثقافيا أو اجتماعيا فحسب.
ففي تايلاند، استضاف المركز الثقافي الإيراني مؤتمرا حول "الاحتلال الإسرائيلي" في القدس وفلسطين، في محاولة لزيادة الاستياء من سياسات الحكومة الإسرائيلية، وفق توصيف الباحث.
وبالمثل، تلعب المراكز الشيعية، وخاصة في بانكوك، دورا مهما في توسيع نفوذ إيران.
وكما هو الحال في الدول الأخرى التي تعمل فيها، تسعى إيران إلى السيطرة على المراكز الدينية الشيعية من خلال تعيين رجال دين درسوا في مؤسساتها، خاصة جامعة المصطفى، وفق المقال.
ويدير رجال الدين هؤلاء الحياة اليومية للسكان الشيعة في البلاد وفقا لـ"روح القائد" النابعة من طهران.
كما أن المراكز الدينية التي يقودها رجال دين معينون من طهران -والذين خدم بعضهم سابقا في صفوف رفيعة بالحرس الثوري - مسؤولة أيضا عن بعض المظاهرات ضد السفارة الإسرائيلية في تايلاند منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.
وذلك على غرار المراكز الدينية الشيعية في أستراليا التي قادت مظاهرات مناهضة لإسرائيل هناك.
وشملت هذه المظاهرات رفع أعلام حزب الله وصور القائد السابق لفيلق القدس، قاسم سليماني، بل وحتى حرق الأعلام الإسرائيلية.
ويرى الباحث أن "هؤلاء يهدفون إلى الإضرار بالتعاون بين تايلاند وإسرائيل، بما يخدم مصلحة إيران في دق إسفين في العلاقات بين تل أبيب وبانكوك".
وترافق هذه الجهود الإيرانية "رحلات حج" يجريها التايلانديون إلى الأماكن الشيعية المقدسة مثل كربلاء، مما قد يكون أسهم في الارتفاع الملحوظ في عدد المسلمين بتايلاند عموما.
وبشكل عام، و"فيما يبدو استمرارا مباشرا لهذا النشاط الإيراني، تجدر الإشارة إلى أن جميع الموظفين المسلمين في السفارة الإيرانية في بانكوك قد اعتنقوا المذهب الشيعي"، بحسب ادعاءات المقال.

التداعيات على إسرائيل
وقال سيترينوفيتش: إن هناك بعض التداعيات المحتملة على إسرائيل، منها تجنيد السكان المحليين في تايلاند للقيام بأعمال ضد المصالح الإسرائيلية أو الغربية.
ففي عام 2024، كشف إحباط هجوم كان يستهدف مصالح إسرائيلية في البرازيل، ونفّذه عناصر جُنّدوا بواسطة إيران أو حزب الله، أن وجود علاقات دبلوماسية طبيعية مع طهران لا يوفّر أي حصانة من عمليات إيران.
وبالتالي، يرى الباحث أنه إذا رأت طهران أن الظروف العملياتية مناسبة لتنفيذ هجوم ما، فستُقدِم عليه بغضّ النظر عن الثمن.
ومن التداعيات المحتملة أيضا ممارسة الضغط عبر الفاعلين الشيعة على الحكومة التايلاندية بهدف الإضرار بالعلاقات بين تايلاند وإسرائيل.
ويجري ذلك من خلال تأجيج مشاعر العداء لإسرائيل في الشارع التايلاندي وتشجيع التظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية.
كذلك منها "تشجيع المواطنين التايلانديين على إعطاء الأولوية للمصالح الإيرانية، ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في عرض فرع جامعة المصطفى صورا للخميني وخامنئي، ولكن ليس لملك تايلاند"، وفق المقال.
وأضاف أن من التداعيات المحتملة توسيع إطار التهديد الإيراني لدى الدول الآسيوية ليتجاوز المسألة النووية، وذلك من خلال "القوة الناعمة" الإيرانية.
وتابع: "فإسرائيل تميل إلى التركيز على التهديد النووي، لكن القيادة التايلاندية لا تنظر بالضرورة إلى هذا الملف بصفته تهديدا مباشرا لأمنها”.
وبحسب المقال، فإن "ما يحدث اليوم في تايلاند يظهر أيضا في الهند وفي دول آسيوية أخرى، خصوصا في الأماكن التي توجد فيها مجتمعات شيعية، كبيرة كانت أو صغيرة".
وتابع: "ولذلك، عند عرض التهديد الإيراني على الدول الآسيوية، ينبغي لإسرائيل ألا تكتفي بالتشديد على الطموحات النووية الإيرانية، بل عليها أيضا إبراز مساعي طهران للتأثير في المجتمعات المحلية عبر أدوات دينية وثقافية ناعمة”.














