ضفاف الأزمات.. ما الأسباب التي تجعل "المتوسط" منطقة صراع دائم؟
.jpg)
في البحر الأبيض المتوسط، تجري البحرية الروسية مناورات بالذخيرة الحية، وتصطدم السفن اليونانية بالتركية أثناء مطالباتها بالموارد الموجودة في أعماق البحر، وتحتدم الحرب الأهلية في ليبيا وسوريا.
كما تتوافد على المتوسط قوى خارجية ذات أجندات متنافسة، وتكافح قوات حرس السواحل والقوات البحرية الأوروبية لوقف تدفق اللاجئين الفارين من الاضطرابات في شمال إفريقيا والمشرق العربي.
كل هذا يؤكد أن هذا البحر بعيد كل البعد عن الهدوء، وأنه يستقطب كثيرا من المعارك والصراعات، حيث يعاني المتوسط مشكلة القرب من قوى متعددة، وكلما كان المنافسون أقرب، زادت صعوبة التعايش والوئام.
الأهمية الجغرافية
يشرح ذلك جيمس هولمز المتخصص في الإستراتيجية البحرية بالقول: "الآن أكثر من أي وقت مضى، يبدو البحر المتوسط مسرحا قتاليا سريع الاشتعال".
ويقول في مقال نشره موقع "ذا ناشيونال إنترست": "دعونا نبدأ بالجغرافيا. للتنبؤ بكيفية تطور التفاعلات، من الطبيعي أن نبدأ بمسح الساحة التي يسعى فيها المتنافسون مع بعضهم البعض".
ويتابع: "يمتد المتوسط لحوالي 2300 ميل من الشرق إلى الغرب، من مضيق جبل طارق إلى ميناء بيروت البحري، ولهذا يبدو عملاقا. فلا يفصله عن مركز البحرية الأميركية في نورفولك، فيرجينيا، إلا حوالي 3800 ميل، انطلاقا من جبل طارق، وذلك عبر المساحة الشاسعة الشاغرة لأحد أعظم محيطات الكوكب، المحيط الأطلسي".
وإن يكن البحر الأبيض عريضا أفقيا، فإنه ضيق عموديا، فحوالي 450 ميلا فقط تفصل بين الميناء الفرنسي في مرسيليا والساحل الجزائري، مما يشير إلى أوسع نقطة (تقاس من الشمال إلى الجنوب) في الروافد الغربية للبحر الأبيض المتوسط.
وإلى الشرق يقع كعب الحذاء الإيطالي (إشارة إلى شكل إيطاليا على الخريطة) على بعد 650 ميلا من أعمق نقطة في خليج سدرة في ليبيا.
بحر شبه مغلق
وعلى عكس "البحار الهامشية" الأخرى المغلقة أو شبه المغلقة مثل بحر الصين الجنوبي أو البحر الكاريبي، يشبه المتوسط شريطا من المياه يتعرج من الشرق إلى الغرب أكثر من كونه مسطحا مائيا مفتوحا.
فهو على عكس منطقة البحر الكاريبي، على سبيل المثال، حيث تشكل سلسلة جزر الأنتيل الصغرى الحدود الشرقية للبحر، فالكاريبي هي نظام مفتوح على النقيض من المتوسط، الذي يعد بمثابة نظام مغلق.
فطرق الشحن عبر البحر الأبيض المتوسط سواء للدخول إليه أو الخروج منه تمر على ثلاث بوابات فقط (قناة السويس والبوسفور والدردنيل)، واثنتان منها يمكن إغلاقهما بسهولة في أوقات الحروب البحرية. ليصبح المتوسط بركة من لهب.
كما أن الملاحة لا تسير في خط مستقيم حتى داخل البحر الأبيض المتوسط، لأن شبه الجزيرة الإيطالية وصقلية تقسم في الواقع، البحر إلى نصفين شرقي وغربي، تاركين ممرا بعرض 100 ميل فقط يفصل صقلية عن شمال إفريقيا.
ويواصل الكاتب: "المضائق ليست كالبحر المفتوح، وهوأ كثر رشاقة من مضيق مياكو - وهو ممر يمر عبر سلسلة ريوكيو اليابانية التي تثير غضب البحرية الصينية - بنحو 50 ميلا. ولا ندري هل صقلية منطقة مباركة أم ملعونة بسبب موقعها المركزي المطل على البحر الضيق، ولذلك دائما محل طمع الإمبراطوريات عبر التاريخ".
فقد أراد المغامر الأثيني ألكبياديس احتلال الجزيرة واستخدامها كنقطة انطلاق لغزو شمال إفريقيا وإيطاليا وغرب اليونان. ولا عجب أن جيوش الحلفاء بقيادة جورج باتون وبرنارد مونتغمري قفزت عبر المضيق من شمال إفريقيا للهجوم على صقلية قبل استخدام الجزيرة كمنصة للقفز إلى جنوب إيطاليا في عام 1943.
الأهمية العسكرية
على صعيد الإستراتيجية العسكرية، يقول الكاتب: إن مناطق قليلة من البحر المتوسط، مؤهلة لتكون ملاذا آمنا للشحن في عصر الأسلحة الدقيقة بعيدة المدى.
لاختيار مثالين عشوائيين، فإن قاذفات القوات الجوية وطائرات البحرية الأميركيتين تستخدمان الآن صواريخ طويلة المدى مضادة للسفن (LRASMs) بمدى يبلغ 200 ميل.
ولا شك أن هذا الرقم أقل من الحقيقي، كما هو معتاد من أرقام وزارة الدفاع (البنتاغون) التي يتم نشرها علنا. بالإضافة إلى سلاح الجو ذي المدى الطويل جدا أو حتى المدى القصير للمقاتلة البحرية فإنهما بإمكانهما الآن ضرب السفن في أي مكان في حوض البحر الأبيض المتوسط.
زد على ذلك، أن القوة البحرية بعيدة المدى ليست مجالا أميركيا بحتا، فقد تم تجهيز القوات الجوية السوفيتية وتدريبها منذ فترة طويلة للوصول إلى أهداف بعيدة.
قبل خمس سنوات، أرسلت سفن حربية تابعة للبحرية الروسية صواريخ كروز سقطت على أهداف تنظيم الدولة في سوريا من بحر قزوين البعيد، على بعد أكثر من 900 ميل.
كانت هذه صواريخ هجوم أرضي بطبيعة الحال، ولكن يمكن إعادة استخدام صواريخ الهجوم الأرضي لمهاجمة السفن كما بدأ الجيش الأميركي بفعل ذلك مع صواريخ توماهوك.
هذه هي الظروف والمخاطر -سواء من البحر أو من البر- التي تعمل فيها الأساطيل البحرية والتجارية، في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
الأهمية السياسية
أما على صعيد السياسة، فثمة مجتمعات متعددة الأشكال والأحجام تزدحم على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.
ويقول الكاتب: "لا توجد قوة مهيمنة طبيعية تتمتع بالسيطرة على الدول المطلة على المتوسط بالطريقة التي تتفوق بها الولايات المتحدة على البحر الكاريبي وخليج المكسيك أو كما تهيمن الصين على بحر الصين الجنوبي".
ويرى أن العديد من القوى الوسطى متحالفة مع بعضها البعض أو مع الولايات المتحدة من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهناك قوتان متوسطتان تمزقهما الحرب الأهلية الآن، هما سوريا وليبيا.
تهتم القوى العظمى الخارجية مثل أميركا وروسيا وبدرجة أقل الصين اهتماما كبيرا بشؤون البحر المتوسط، وتحاول موسكو العودة بينما يفكر قادة الولايات المتحدة في المدى الذي ينبغي عليهم فيه نشر قوات جديدة في المنطقة كثقل موازن.
بين الأوروبيين، بقيت فرنسا وبريطانيا كقوى متبقية ومنافسة، بينما تنشر إسرائيل الآن مقاتلات شبح من طراز F-35 وأسطولا مثيرا للإعجاب - وربما سلاحا نوويا - من الغواصات.
ومع تغير القوى يأتي احتمال حدوث صراعات واضطرابات. يضيف الكاتب: "فبعض المتنافسين على خلاف مع بعضهم البعض في هذا المسرح الضيق، إنهم يتنافسون على ميزة جيوسياسية أو موارد طبيعية، وأحيانا تكون خلافاتهم طويلة الأمد".
ويعتقد أنه غالبا ما تتداخل الخلافات أو تختلط، مما يجعلها معقدة ويصعب إدارتها في ظل غياب شعور الدول بالود والصداقة فيما بينها وهو شعور يتضاءل في الوقت الحالي.
باختصار، تأتي الخلافات الجيوسياسية في عالم البحر الأبيض المتوسط ضمن المساحات الأخرى المتنازع عليها في المحيط الأوراسي.
ثلاثة عوامل
هناك ثلاثة عوامل يمكن أن تسبب صراعا في البحر الأبيض المتوسط:
حساسية الجوار
بادئ ذي بدء، تشعر الدول الساحلية بحساسية عالية في كل ما يتعلق بسيادتها وحقوقها في الموارد الطبيعية البحرية.
في المتوسط كما في أي مكان آخر، لا سيما في بحر الصين الجنوبي، فإن الشحن غير العسكري – كمراكب خفر السواحل، وسفن الوكالات البحرية غير العسكرية وحتى السفن التجارية - هو التطبيق المفضل للحكومات التي تدافع عما تعتبره مياها مخصصة لها بموجب القانون الدولي.
وتمثل القوات البحرية بالنسبة لتلك الدول خطة احتياطية لوقت الحاجة. في الأسابيع الأخيرة، على سبيل المثال، استكشفت سفينة المسح التركية (اورتش ريس) Oruc Reis موارد المياه التي تطالب بها اليونان أيضا. واصطدمت السفن الحربية اليونانية والتركية أثناء تتبع السفينة مما يوضح كيف يمكن للمساعي المدنية المزعومة أن تتحول إلى صراع عسكري.
ولحسن الحظ، استدعت أنقرة سفينة المسح الخاصة بها من المنطقة المتنازع عليها، ويبدو أن العاصمتين التركية واليونانية ستعقدان محادثات تهدف إلى ترسيم الحدود البحرية بينهما.
ومع ذلك، تواصل سفينة الحفر التركية وسفينة المسح الزلزالي الإبحار في المياه التي تطالب بها قبرص، مما أثار غضب المسؤولين القبارصة. كانت قضية Oruc Reis غريبة وغير متوقعة، مما زاد من احتمالية المنافسة الجيوسياسية أو حتى الحرب داخل حلف الناتو، وهو الحلف الذي يعبر عن الزمالة العسكرية الأكثر نجاحا واستمرارية في التاريخ.
لكن التضاريس المعقدة والمزدحمة تجعل من المستحيل رسم خطوط على الخريطة تشير إلى الحدود المائية لكل دولة، بحيث تكون قسمة عادلة ترضي جميع الأطراف. وقد تسود النوايا الحسنة في أثينا وأنقرة فتحسم الخلاف.
اضطرابات دول الحوض
ثانيا، يدمر الصراع الداخلي بعض دول البحر الأبيض المتوسط، لا سيما ليبيا وسوريا. في عام 2011، أطاح الناتو بالزعيم الليبي معمر القذافي وترك البلد في حالة فراغ، مما دفع البلاد إلى حرب متواصلة.
اتخذت الفصائل المتناحرة مسار القوة لتحديد من سيحكم، كما سقطت سوريا في حالة من الفوضى عندما تصاعدت الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد البعثي إلى قتال بين النظام والقوات المعارضة، والأكراد السوريين والقوات التركية، بالإضافة إلى الأجانب الذين يقاتلون تنظيم الدولة الذي استغل فراغ السلطة لترسيخ نفسه في سوريا والعراق..
وقد أشرك الصراع قوى خارجية مثل روسيا وإيران والولايات المتحدة وكذلك تركيا.
لذلك، هناك الكثير من القوات المسلحة التي تقاتل أعداء مختلفين في الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وهذا يجعله بؤرة للنزاع.
مسرح للقوى العظمى
وثالثا، تتنافس القوى العظمى على النفوذ والمكانة في البحر الأبيض المتوسط، فمن يحكمه سيحجز له مقعد نفوذ في سياسات الشرق الأوسط.
كما يمكن للسفن أن تمارس تأثيرا ضئيلا على طول السواحل البحرية الأجنبية التي لا تستطيع الوصول إليها. ومع ذلك، فقد استقرت روسيا في ميناء طرطوس البحري السوري، مما جعلها قوة مقيمة في شرق المتوسط.
ويقول الكاتب: "إذا تمكن أسطول روسيا البحري من حرمان أساطيل الناتو البحرية من الوصول إلى المياه الشرقية - أو جعلهم يدفعون ثمنا باهظا مقابل جرأتهم على الذهاب إلى هناك - فقد يهزم ذلك جزءا مهما من إستراتيجية الولايات المتحدة البحرية".
ويتابع: "سيتم دفع القوات الأميركية إلى الوراء، ويتحقق هدف سوفيتي وروسي طويل الأمد. وفي سيناريو مثالي، قد تجعل روسيا من شرق المتوسط محمية بحرية، وهذا احتمال يزعج بالتأكيد الإيطاليين واليونانيين والإسرائيليين وغيرهم من سكان المنطقة الشرقية الفرعية".
ومن هنا جاءت مناورات البحرية الروسية التي يقال إنها ستستمر في المياه الشرقية حتى 25 سبتمبر/أيلول. وهذه المناورات بمثابة بيان حول البراعة البحرية الروسية.
لكن دوافع موسكو أكثر من كونها عملياتية أو إستراتيجية بحتة، فجزء من المنافسة الإستراتيجية اليوم هي بقايا من الحرب الباردة.
تنظر القيادة الروسية العليا إلى الانهيار السوفييتي على أنه "كارثة جيوسياسية" لم تكلف روسيا فقط نفوذها بل شرفها الشرعي وكرامتها واحترامها بين الأمم.
ويعتقد الكاتب أن إظهار قدرة جيشهم على التنافس بشكل فعال مع الناتو مرة أخرى يساعد الروس على استعادة مكانتهم الدولية بينما يخفف من إحراجهم من نتيجة الحرب الباردة.
ما الحل؟
وعلى ما تقدم، يواجه الإستراتيجيون العسكريون والبحريون مهمة لا يحسدون عليها وهي محاولة الحفاظ على توازن دقيق في البحر الأبيض المتوسط.
وقد يكون ثمة بصيص أمل وسط كل هذه الكآبة، فقد يؤدي هذا الاحتدام الدولي في البحر الأبيض إلى قدر من الرصانة بين صانعي القرار الإقليميين، بحيث لا يُمنع أي أسطول تجاري أو بحري أو جوي تابع لأحد.
وأردف الكاتب: "يمكن للعمل العسكري الجاد في مياه وسماء البحر أن يجعلها منطقة محظورة على الجميع، ولكن جعل منطقة المتوسط خالية من الشحن والطيران لا تناسب أي طرف".
ويختم: "يبدو أنه في البحر كما في الإستراتيجية النووية، يجب أن تتكافأ القوى من أجل ضبط النفس".