إعلام السيسي يصفهم بالغزاة.. كيف تأسس جيش مصر بيد الأتراك؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مع توسع أنشطة التنقيب عن الغاز شرقي البحر المتوسط تصاعدت حدة التوتر في العلاقات التركية المصرية مؤخرا، وبدأ إعلام السيسي شن حملة على تركيا.

بعض هؤلاء الإعلاميين هدد باستعداد القاهرة دخول حرب ضد أنقرة، ووصل الأمر إلى تجاوز الخلافات الحكومية على مستوى الأنظمة، للانزلاق إلى إشعال جذوة العداء بين الأمتين، المصرية والتركية، التي تربطهما أسمى روابط العلاقات الإنسانية، بداية من الدين إلى النسب والمصاهرة، وصولا إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية.

الدراما المصرية من جانبها بدأت تتحدث عن العثمانيين في صورة الغزاة، متناسية أن الجيش المصري الذي تمجده وتفخر به هو أساسا من تأسيس هؤلاء العثمانيين الغزاة! وما زالت المصطلحات العثمانية، والتركية مستخدمة في الحياة اليومية داخل ثكنات القوات المسلحة المصرية حتى يومنا هذا.

هؤلاء تناسوا كم العائلات تركية الأصل التي ما زالت تعيش في مصر حتى الآن، كما تغافلوا أن في إسطنبول "السوق المصري" الذي يعد أحد أشهر معالم المدينة التركية العتيقة.

مصطلحات تركية 

تعود بداية العلاقة القوية بين الدولة العثمانية، ومصر، إلى 22 يناير/ كانون الثاني 1616، عندما دارت رحى موقعة الريدانية الطاحنة، وظهر التفوق النوعي للعثمانيين جليا، فدمرت مدفعيتهم تحصينات ومدافع قوات طومان باي، ومع انسحاق المماليك، آخر حكام مصر قبل العثمانيين، بدأت مرحلة جديدة في التاريخ المصري المعاصر، تأثرت فيها القاهرة، بسيطرة الباب العالي في إسطنبول.

ومنذ ذلك الحين تعج اللغة العربية الشائعة اليوم، بمئات المصطلحات التركية، التي جاءت منذ فترة الوجود العثماني في الشرق الأوسط، ومن الروابط العتيدة بين العرب، والأتراك، وكذلك اللغة التركية تحوي بين مفرداتها الكثير من الألفاظ العربية. 

عبر عن ذلك "صادق أتاغول" أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة غازي عنتاب التركية، الذي قال في مقالة له: "اللغة التركية تأثرت على مر التاريخ بشكل كبير باللغتين العربية والفارسية، حتى بلغت نسبة المصطلحات العربية المستخدمة فيها قرابة الـ70%". 

لا سيما المصطلحات العسكرية، التي استخدمت داخل الجيوش العربية، والجيش المصري تحديدا، تحت تأثير، التأسيس الحديث لها، على غرار الجيوش العثمانية، ومن أبرز تلك المصطلحات:

"غارديا"، وهو لفظ كان متداولا في العهد العثماني، بمعنى "حرس"، واستخدمت الكلمة داخل الجيش المصري في عهد الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا، لتعبر عن قطاع مستحدث من القوات، تشكلت منهم فرقة الحرس المشاة، وكانت من أهم فرق الجيش المصري، من حيث الإعداد والتدريب، ووصل عدد عناصرها إلى 16 ألف مقاتل، وأول من رأسها الفريق راشد حسني باشا. 

بالإضافة إلى مصطلحات "برنجي، وكنجي، وشنجي"، وهى أسماء الخدمات التى تبدأ بعد طابور التمام المسائى، على مدار الليل لحماية المعسكرات والمنشآت العسكرية، وكلمة "برنجي"، تعني الأول باللغة التركية "Birinci"، وهو العسكري الأول الذي يستلم مناوبة الحراسة الليلية في الجيش المصري، ويسلمها للعسكري الثاني "كنجي"، وهي محرفة من الكلمة التركية إيكنجي"Ikinci" وتعني الثاني، أما كلمة "شنجي"، وهو العسكري الثالث الذي يستلم آخر المناوبات، فمحرفة من الكلمة التركية أوتشونجو "Üçüncü"، وتعني الثالث. 

ويوجد مصطلح "الطوبجي"، وهي كلمة تركية بمعنى المدفعجي، لأن الطوب تعني المدفع، والطوبجي تعني القائم بإطلاق المدفع، وكان للطوبجية "أميرالاي" أو قائد المدفعجية، وهي رتبة عسكرية ظلت موجودة داخل الجيش المصري حتى اندلاع ثورة 23 يوليو/ تموز 1952. في حين أن "الطوبخانة" تعني مخزن مدافع الجيش، بينما "الجبخانة" تعني بالتركية المكان الذي يُودع فيه الأسلحة والذخائر.

وما يطلق عليه حامل مدفع "الأربيجي"، هو مستوحى من قوات حاملات المدافع في الجيش التركي، التي كان يطلق عليها "توب أرباجيلار": كانت هذه القوات هي وحدة المدفعية التابعة لجيش حراس الباب، وكانت المهمة الأساسية لهذه القوات نقل المدافع إلى مناطق الحرب.

الرتب العسكرية

ومن الرتب العسكرية العثمانية، التي لا تزال مستخدمة، أو استخدمت حتى وقت قريب داخل الجيش المصري، "شاويش" وهي كلمة تركية "çavuş"، ورتبة "صول" وتعني معاون اليسار، أما كلمة "لواء" المستخدمة إلى اليوم، فمشتقة من الكلمة التركية "مير لواء" أي أمير اللواء العسكري. 

ورتبة "مشير" مستخدمة إلى اليوم، وهو أكبر الرتب العسكرية بمنزلة الوزارة في الملكية، وكان المشير في مصر لقبا لصاحب منصب، لا تعلق له شارة عسكرية، بل كان عمله مقتصرا على التكلم عن السلطان في مجلس الاستشارة.

أما لفظ "أمباشي" وهو بنفس طريقة نطق الكلمة التركية "Onbaşı" بمعنى رئيس العساكر. وهناك "نوبطشي" من الكلمة التركية "Nöbetçi" أي العسكري المناوب.

ويشاع إلى اليوم في مصر استخدام كلمة "كركون"، وهو مصطلح مشتق من الكلمة التركية "كره كول" الذي كان منتشرا في العصر العثماني، ويعني مركز الشرطة، أو الحبس داخل قسم البوليس.

العسكرية الحديثة

في 31 مارس/ آذار 1801، وصلت القوات التركية إلى مدينة العريش شرقي مصر، بعدما قررت الدولة العثمانية، إرسال جيش إلى مصر، لانتزاعها من أيدي الفرنسيين، وكان محمد علي، نائب رئيس الكتيبة الألبانية، والتي كان قوامها 300 جندي، وكان رئيس الكتيبة، هو ابن حاكم قولة، الذي لم يكد يصل إلى مصر، حتي قرر أن يعود إلى بلده، فأصبح هو قائد الكتيبة.

وظل محمد علي باشا في مصر، يترقى في مواقعه العسكرية، وظل يواصل خططه، للتخلص من خصومه، إلى أن تخلص من خورشيد باشا، وأوقع بالمماليك، حتى خلا له كرسي الحكم، واًصبح واليا على مصر في 17 مايو/ آيار 1805، وكان تأسيس جيش قوي، هو أبرز إنجازات ذلك الوالي، الذي يعتبر مؤسس مصر الحديثة. 

وحسب كتاب "عصر محمد علي" للمؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي، المتوفى سنة 1966، كانت محاولة محمد علي الأولى لتأسيس جيش نظامي عام 1815، حيث قرر تدريب عدد من جنود الأرناؤوط الألبان التابعين لفرقة ابنه إسماعيل على النظم العسكرية الحديثة، في مكان خصصه لذلك في بولاق. 

لم يرق لهؤلاء الجنود ذلك، بسبب طبيعتهم التي تميل إلى الشغب والفوضى، فثاروا على محمد علي وهاجموا قصره ودار بينهم وبين الحرس قتال، استطاع خلاله حرس محمد علي السيطرة على الموقف، إلا أن محمد علي أيقن أنه لا يمكنه الاعتماد على مثل هؤلاء الجند، فأرجأ تنفيذ الفكرة.

بعد ذلك، كان أمام محمد علي مشكلة، أنه وبالتجربة ثبت أن الجنود الأتراك والأكراد والألبان والشراكسة لم يعودوا يصلحون ليكونوا عماد جيشه لعدم تقبلهم للاندراج في جيش نظامي، لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين. 

قاوم الفلاحون المصريون في البداية تجنيدهم، لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، واعتبروه عملا من أعمال السخرة، لكن عند إغرائهم بالرواتب والملبس والمأكل والمسكن، وبمرور الوقت تجاوب الفلاحون مع الوضع الجديد، استشعروا بحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة.

لوحة فنية للأميرالاي المصري أحمد عرابي

جيش نظامي

بحلول شهر يونيو/حزيران من عام 1830 أصبح لدى محمد علي 6 كتائب من الجند النظاميين، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي، فأمر بانتقالهم إلى القاهرة.

بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي في إحصاء عام 1833. كما أنشأ محمد علي ديوانا عرف بـ"ديوان الجهادية" لتنظيم شؤون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية، وتنظيم الرواتب.

 وسّع محمد علي في التعليم العسكري في مصر، فبعد أن أمر ببناء مدرسة الضباط في أسوان (جنوبا) ومدرسة الجند في بني عدي بمحافظة أسيوط (جنوبا)، أمر بتأسيس 3 مدارس أخرى جنوبي مصر في فرشوط بمحافظة قنا، والنخيلة بمحافظة أسيوط، وجرجا بمحافظة سوهاج.

كما أسس مدرسة إعدادية حربية بقصر العيني (وسط القاهرة) لتجهيز التلاميذ لدخول المدارس الحربية، يدرس بها نحو 500 تلميذ. واعتمد محمد علي على الإنتاج الحربي فأنشأ مصانع للأسلحة في مصر عام 1827.

وأورد الطبيب الفرنسي "كلوت بك" في كتابه "لمحة عامة إلى مصر"، عن تجنيد محمد علي للجنود المصريين، أنه "ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خيرة الجنود، لأنهم على الجملة يمتازون بقوة الأجسام وتناسب الأعضاء والقناعة والقدرة على العمل، واحتمال المشاق".

مضيفا: "ومن أخص مزاياهم العسكرية وصفاتهم الحربية الامتثال للأوامر، والشجاعة، والثبات عند الخطر، والتذرع بالصبر في مقابلة الخطوب والمحن، والإقدام على المخاطر، والاتجاه إلى خط النار  معا مع القتال بلا وجل ولا تردد".

واستمد محمد علي باشا، نمط تأسيس جيشه الحديث، وفقا لقواعد التجنيد والتأسيس المعتمدة لدى جيش الدولة العثمانية، كما اعتمد في القيادة على العناصر، التركية، والشركسية، وفي التسليح على الآليات، والمعدات التركية.

عثمانية متمصرة

قال الباحث المصري في التاريخ والحضارة الإسلامية محمد إلهامي، "للاستقلال": "مسألة تجنيد المصريين داخل الجيش، بدأت في عهد محمد علي باشا، وقبله كان الجنود العثمانيون، والأرناؤوط والألبان، وغيرهم من العناصر الشركسية، التابعة لجيش الدولة العثمانية، كانوا هم من يتولى مهمة الدفاع عن مصر".

وأضاف إلهامي: ومع ذلك "محمد علي اعتمد على المصريين في مهمة الجندية فقط، دون تولي مناصب قيادية، وأقصى مرتبة كان يمكن أن يصل إليها المصري في تراتيب الترقيات العسكرية، هي (أمباشي) أي رئيس لعشرة جنود".

وأكد الباحث المصري: "الجيش في تلك الفترة كان عثمانيا خالصا، ليس متأثرا بالثقافة العثمانية فحسب، بل عثماني بمعنى الكلمة من رأس القيادة إلى أسفل الهرم، بأسماء الرتب العسكرية، والأسلحة، والأوامر الصدارة، وأسماء المخازن، ونوبات الحراسة".

مضيفا: "كان دخول المصريين الجيش حدثا استثنائيا، أراده محمد علي لمجموعة أسباب، على رأسها استخدامهم في توسعاته وحروبه المختلفة، وسهولة انصياعهم للأوامر، ووفرة عددهم، على عكس الجنود الأتراك، والشركس، الذين عرفوا بالتمرد في تلك الفترة". 

وأردف إلهامي: "الترقيات بدأت في صفوف الجنود المصريين، في عهد أبناء محمد علي، وتحديدا الخديوي سعيد، لتظهر طبقة مختلفة من القيادات العسكرية المصرية، وشكلوا نواة (الثورة العرابية) بعد ذلك، ومنهم الأميرالاي (أحمد عرابي)، ليتم وقف الترقيات بعد ذلك لفترة من الزمن".

وأوضح: "حتى مع الاحتلال الإنجليزي لمصر، لم تتغير الأوضاع العسكرية بالنسبة للمصريين، على العكس تم تقليل عدد الجنود المصريين ليصلوا إلى 6 آلاف فقط، وعرفوا بالتجريدة المصرية". 

واختتم الباحث المصري حديثه: "الطبقة التركية، والأجانب، ظلوا في بنية الجيش المصري، حتى 23 يوليو/ تموز 1952، وظلت الألفاظ التركية مستخدمة، مع تمصيرها، فكانت عثمانية متمصرة، وهي موجودة حتى يومنا هذا، وجزء من ثقافة وتركيب الجيش المصري الحالي، ولا يمكن فصل التاريخ عن تلك الحقيقة، وهي أن الجيش المصري، من وضع نواته وأسسه العسكرية العثمانية".