"صفقة القرن".. كيف كشفت ملامحها موسوعة المسيري قبل سنوات؟

محمد ثابت | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"الوعود البلفورية مصطلح يعني أن ثمة نموذجا كامنا متكررا في الحضارة الغربية، يجعلها تنحو منحى صهيونيا.. تهدف إلى أن يكون نقل اليهود هو مقدمة لتأسيس دولة يقوم الغرب بتمويلها ودعمها اقتصاديا وعسكريا، على أن تكون وظيفتها هي خدمة مصالح الدولة الغربية التي تقدم الدعم، ومن ثم فإن الدولة الصهيونية هي دولة وظيفية".

هذه الكلمات من أبرز الجمل تعبيرا عن المفكر الإسلامي الراحل عبد الوهاب المسيري، الذي حلت ذكرى وفاته الحادية عشرة في 3 يوليو/تموز 2008، حيث رحل عن عالمنا بعد عمر قارب السبعين عاما، وكفاح مستميت للتعريف باليهودية والصهيونية.

تأتي ذكرى وفاة المسيري هذا العام متزامنة مع ترتيبات ما يُسمى بـ"صفقة القرن" واستعدادتها المتسارعة، خاصة بعد "مؤتمر المنامة" بقيادة جاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبمشاركة دول عربية.

"هدف ورشة المنامة هو التمهيد لإمارة في غزة، وتوسيعها والتخطيط لفصلها عن الضفة الغربية، وتهويد القدس. أي خطة لا تمر عبر الشرعية الفلسطينية مصيرها الفشل"، حسب المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة.

عاش المسيري ورحل كاشفا الزيف الغربي والدور المشبوه له في التمكين للصهيونية من فلسطين بالإضافة لحلمها الأثير المحبب للأخيرة في التوسع، وبالتالي عمالة أنظمة عربية في مساعدة الغرب والصهيونية. مجيبا في حياته ومؤلفاته وأبرزها "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" عن السؤال المهم: لماذا يناصر الغرب الصهيونية؟ وأي فائدة تعود عليه من هذه المناصرة؟

واشنطن والصهيونية

كشف كوشنر في آخر أيام الورشة في 26 من يونيو/حزيران الماضي بأن فريقه سيكشف عن التفاصيل السياسية للخطة التي لا تزال طي الكتمان "عندما نكون مستعدين"، مضيفا: "سنرى ما يحدث"، في حين صرح بجذب استثمارات لفلسطين تبلغ 50 مليار دولار، وهو ما رفضته السلطة الفلسطينية، وناصرته الإمارات والسعودية بشكل متحفظ في العلن، وأرسلت مندوبين لهما دولتا مصر والأردن.

حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أعلنت رفضها للصفقة مشيرة إلى أن ثمن الصفقة باهظ، وقال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية: الخطة "محاولات خادعة وتلاعب بالألفاظ على حساب الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني".

لكن لماذا يتبنى الغرب الفكرة الصهيونية بل يحميها ويناصرها منذ بداية قيام دولة الاحتلال حتى كوشنر و ترامب؟

يختلف الباحثون في تفسير أسباب ولادة هذا التحالف الذي تدفع فلسطين والوطن العربي ثمنا مريرا له، وإن كان منهم الذين يربطون الأمر بنشأة الفكرة الصهيونية وتضافرها مع المنطلقات العقائدية لدُعاتها، ومنهم أيضا الذين يربطون الأمر بظهور "النزعة الإمبريالية" الاحتلالية الغربية والتيارات الفلسفية والقومية الشعوبية السائدة في الغرب وقتها.

كما أن من الباحثين مَنْ يربط ظاهرة الانحياز الغربي للصهيوينة وبالتالي مناصرة اليهود ودولتهم المحتلة إلى الادعاءات بالمظالم اليهودية والاضطهاد، وبالتالي رغبتهم المزعومة في العودة إلى فلسطين تحت قيادة المهدي المُنتظر.

أما "يهوذا القلعي، تسيفي هيرش، وليو بنسكر"، وهم يمثلون رواد الصهيونية الحديثة فقد تخلوا عن ادعاءات انتظار المسيح المخلص، واكتفوا بمزاعم استعادة الوطن التاريخي في فلسطين، وانعكس التخلي عن الفكرة على تفسيرهم الانحياز الغربي المطلق لحركتهم.

هؤلاء الثلاثة وآخرون رأوا أن الانحياز يحقق مصلحة في الأصل للغرب نفسه، ورأى آخرون أن قوة اللوبي الصهيوني في الغرب هي السبب، وأخيرا رأى البعض أن وجود العقائد البروتستانتية التنبؤية المتضمنة لضرورة التجمع اليهودي في فلسطين هي السبب.

الراعي الإمبريالي

أما المسيري فيرى الأمر على نحو بالغ الوضوح بداية من تعريف مصطلح انحياز الغرب لإسرائيل: "بمعنى حماية دولة الكيان الصهيوني وضمان بقائها واستمرارها، ودعمها اقتصاديا، وتقويتها عسكريا، وتأييدها دبلوماسيا".

لكن لماذا يضمن الغرب استمرار بقاء دولة الصهاينة فهو ما يراه المسيري (علاقة) قائمة بين راعٍ إمبريالي قوي ودولة وظيفية عميلة له، تقوم على التزام المستوطنين بالعمل داخل مستوطناتهم لحساب مصالح الحضارة الغربية على أن يلتزم الراعي الإمبريالي بحماية المستوطن العميل عسكرياً، ودعمه اقتصاديا.

وبالتالي فإن الصهيونية عند المسيري ظاهرة غربية استعمارية استيطانية إحلالية، والولايات المتحدة هي الراعي الإمبريالي للدولة الصهيونية الوظيفية التي تدعمها وتموّلها وتضمن بقاءها واستمرارها. لكن لماذا تدعم واشنطن المشروع الصهيوني وصولا لـ"صفقة القرن"؟

هذا ما يدقق المسيري فيه أكثر ليرى أن الولايات المتحدة توقن أن إسرائيل قاعدة عسكرية وحضارية وأمنية للغرب.. وأن المصالح الإستراتيجية الغربية (الأمريكية)، هي التي تحدد القرار الأمريكي، وأن الضغوط الصهيونية ذات أهمية ثانوية.

الأمر لدى المسيري قائم على المصلحة المطلقة، والتي يستفيد الغرب وعلى قمته واشنطن من إسرائيل الصهيونية، قبل أن تستفيد الأخيرة من الغرب، ولذلك فإن الولايات المتحدة هي الراعي الإمبريالي الأصلي لإسرائيل المحققة لمصالح الغرب ومصالحها في المنطقة العربية، وبالتالي فتأثير اللوبي الصهيوني في صناعة القرار الأمريكي تأثير ثانوي، لإن الأصل أن أمريكا هي الأكثر استفادة من إسرائيل لا العكس.

تحقق إسرائيل للغرب وظيفة مهمة بحسب المسيري، "بل إن دولة الاحتلال دولة وظيفة متجددة لنيل خيرات الوطن العربي"، ومن هنا يمكن تفسير "صفقة القرن" وغيرها بوضوح.

يبرهن المسيري على صحة نظريته في الانحياز الغربي للصهيونية بتأييد مذابحها في حق الفلسطينيين، واستعمال الفيتو لمجرد نقدها، باعتبارها دولة سامية، بالإضافة لضمان رؤساء الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، وهو ما فعله ترامب حتى بعد وفاة المسيري.

الحماية العسكرية الأمريكية للدولة الصهيوينة كانت واضحة في حرب أكتوبر حتى أن واشنطن: "أقامت جسراً جوياً بينها وبين إسرائيل، إذ نقلت إليها في أيام قليلة 22 ألف طن من العتاد العسكري لتعويضها عن خسائرها التي مُنيت بها"، أما بعد الحرب فوصلت المساعدات 3 مليارات دولار، طبقا للإحصائيات الرسمية الأمريكية.

حصول إسرائيل على ربع المعونات الأمريكية سنويا جعلها أكبر دولة في العالم اعتمادا على المعونات الخارجية: و"يصل مجموع المساعدات الأمريكية لتل أبيب إضافة إلى التعويضات الألمانية عن المحرقة النازية، والجباية اليهودية منذ عام 1949 وحتى عام 1996م، إلى أكثر من 179.4 مليارات دولار.

المعونات الأمريكية والألمانية لإسرائيل موزعة بين 79.6 مليارات دولار مساعدات حكومية متنوعة، و60 مليار دولار تعويضات ألمانية، 19.4 مليارات دولار جباية يهودية، 23.4 مليارات دولار أصول أجنبية في إسرائيل، هذا بالإضافة إلى المساعدات غير الحكومية التي تتلقاها إسرائيل من أفراد ومؤسسات داخل الولايات المتحدة منذ منتصف السبعينيات".

تواريخ بلفورية

يرى المسيري أن علاقة اليهود بالغرب بدأت قبل بلفور ووعده عام 1917، بل إن المسيري يوضح أن نابليون بونابرت أول الذين أصدروا وعدا بلفوريا تضمن معظم البنود الواردة في "وعد بلفور"، كما صدر وعدد مماثل من ألمانيا في سبتمبر/أيلول 1898م، مع وعد روسي قيصري بعد المؤتمر الصهيوني الخامس عام 1901م.

صدر الوعد الأخير إلى هرتزل، مؤسس الدولة الصهيونية، من وزير الداخلية الروسي فون بليفية، وجاء في رسالة بالوعد: "ما دامت الصهيونية تحاول تأسيس دولة مستقلة في فلسطين، وتنظيم هجرة اليهود الروس، فمن المؤكد أن تظل الحكومة الروسية تحبذ ذلك. وتستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا إذا ساعدت الإجراءات العملية التي يفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا". 

هذه الوعود الثلاثة الألمانية والفرنسية والروسية تمثل جذورا واضحة للرؤية الأوروبية الغربية في مناصرة اليهود حتى قبل وعد بلفور، ومن العجيب أن المسيري يرى أن محمد علي أثّر، دون أن يدري، في استواء وظهور الفكرة الصهيونية الغربية.

يرى المسيري أن ظهور محمد علي قلب الموازين، فكاد أن يضع بطموحه حدا للمشروع الاحتلالي الغربي وتقسيم تركة الدولة العثمانية، فتوحدت أوروبا وعقد مؤتمر لندن عام 1840، واضطرار محمد علي لتوقيع "معاهدة لندن لتهدئة المشرق".

نقل المسيري عن، رئيس المنظمة الصهيونية ومؤلف كتاب "تاريخ الصهيونية" ناحوم سوكولوف أن هذا التوقيع "نقطة تحول في تاريخ فلسطين، إذ تبلورت الفكرة الصهيونية بسرعة، بحيث خرجت من نطاق الأفكار ودخلت حيز المشاريع السياسية".

ورغم كل ما مضى فإن المسيري يرى أن أوروبا المتحالفة مع المصالح الصهيونية لم تكن تحب الصهاينة لأنهم أصحاب أفكار شاذة، ولتميزهم عن عامة الشعب، مما قربهم من النبلاء، وبتحول دورهم رأسماليا، أصبح اليهود عبئا على المجتمع الأوروبي، ليصبحوا جماعة وظيفية بلا وظيفة فيه.

وهنا يعلن المسيري في خلال كتابه "الصهيونية والحضارة الغربية" أن مشروع توطين اليهود في فلسطين لم يكن إلا وسيلة لطرد اليهود من الغرب: "وهكذا لعبت ذهنية الاستعمار الغربية دورًا مهمًا في حل المسألة اليهودية، فالصهيونية هي الحل الاستعماري للمسألة اليهودية".

بل إن بلفور، صاحب الوعد الصهيوني الأشهر كان يرى اليهود جماعات معادية في الغرب يجب إقصاؤها، ومن هنا جاءت فكرة المصلحة الغربية السابقة الذكر بجمعهم في فلسطين.

ومن هنا انطلق المسيري إلى أن إسرائيل جيتو منعزل داخل الوطن العربي، يعادي غيره ويراهم أغيار، وبالتالي فالإسرائيليون ينتمون للوطن العربي جغرافيا لا حضاريا، كما نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي امتد لقرون لكنه انتهى سلميا، وهو ما يراه المسيري نهاية مستقبلية لإسرائيل أيضا، بحسب رأيه.

تهديد بالقتل

ولد المسيري في أكتوبر/تشرين الأول 1938، في محافظة البحيرة (شمال)، والتحق عام 1955 بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة الإسكندرية، وبعد تخرجه تم تعيينه معيدا فيها، ثم سافر للولايات المتحدة عام 1963 لينال الماجستير العام التالي، ثم الدكتوراة عام 1969 من جامعة رتجرز.

درّس المسيري في جامعة عين شمس بمصر، والملك سعود بالسعودية، والجامعة الإسلامية بماليزيا، كما تم تعيينه مستشارا ثقافيا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى الأمم المتحدة بنيويورك (1975-1979) ثم تفرغ للبحث في سنوات عمره الأخيرة.

 تولى المسيري في عهد الرئيس المخلوع مبارك منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية"، وللمسيري دراسات منها اللغوي والنقدي الأدبي وأبرزها المتناولة للصهيونية منها: "الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية"، و"موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية".

حسن فهم المسيري للصهيوينة في الموسوعة الأخيرة وتعريتها تسبب في تهديد عضو الكنيست ورئيس جماعة كاخ الصهيونية "مائير كاهانا" في يناير/كانون الثاني 1984 له بالقتل سواء في الرياض حيث كان يعمل أو القاهرة حيث يسافر صيفا، وعكف المسيري على موسوعته قرابة ربع قرن، وتردد أنها كانت من أبرز أسباب محاولة اليهود تشويه صورة المسيري وأمثاله.

حصل المسيري على عدد من الجوائز منها جائزة العويس، وجائزة القدس التي كان من المفترض أن يتسلمها من الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب لولا وفاته.