صدام الجامع والقصر.. لماذا ينقلب ملوك السعودية على إرث الدولة؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قبل ثلاثة قرون، أطلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب حركته الدعوية في منطقة نجد، وشكل فهمها للإسلام مرجعا عقديا وسياسيا للدولة السعودية منذ نشأتها الأولى بعهد محمد بن سعود آل مقرن، فثبتت عبره أركانها في الداخل، ومدت من خلالها نفوذها إلى الخارج.

ومن هنا تشكلت طبيعة العلاقة بين الدولة السعودية ودعوة محمد بن عبد الوهاب من الأساس، حيث كان هناك عقد قديم بينهما منذ بداية التأسيس الأولى، في عهد محمد بن سعود، الذي ناصر الشيخ، وأخذ كلاهما عهدا على الآخر، بأن الملك في آل سعود، والمشيخة والإمامة في ذرية محمد بن عبد الوهاب، وهو العهد الذي أخل به آل سعود في مراحل مختلفة من الزمن، حتى نكلوا بالعلماء تماما في الآونة الأخيرة، وأصبح السؤال الدائم، الذي برز بشدة في الفترة الأخيرة، مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان، لماذا انقلبت الدولة السعودية على إرثها التاريخي؟

آل سعود وآل الشيخ

استمر الحلف طويلا بين آل سعود وآل الشيخ (أحفاد محمد بن عبد الوهاب)، وصارت مؤسسة السياسة مُختصرة في آل سعود ومؤسسة الدين مُجسدة بآل الشيخ، وتجدد عام 1902 الاتفاق القديم الذي تم عام 1744، وهذه المرة تصدر المشهد عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة بشكلها الحالي، في مدينة الدرعية "عاصمة آل سعود" مُجددا.

ثم قامت المؤسسة الدينية السعودية على مستويات من العناصر البشرية، أولهم العلماء، الذين يعلمون الناس بشكل أساسي، كما يعملون في القضاء ويعلّمون في المساجد طلابهم الذين يسمون بالمطاوعة، ويُشرف المطاوعة على توجيه وإرشاد الناس، وتأديب من لا يستجيب، ومن المطاوعة صدرَ "الإخوان"، وهم قوة بدوية حضرية مُستعدة دائما للقتال من أجل الدعوة، وكان "الإخوان" قوة ضاربة في بدايات تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد عبد العزيز، وكلما دخل "الإخوان" إلى واحة أو منطقة جديدة ازدادت أعدادهم وضُخت دماء جديدة في قواتهم.

استمر الحال بين الدولة والدعوة، بين التوافق تارة، والضربات القاصمة تارة أخرى، ومع وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وصعود الملك سلمان، برز في الأفق نجم محمد بن سلمان، الذي نكل بمنافسيه وأقاربه من آل سعود حتى يصل إلى منصب ولي العهد، ويصبح الرجل الأقوى في الدولة، وقدم نفسه للغرب والولايات المتحدة على أنه الممسك بزمام الأمور، وحامل لواء التغيير.

وفي سبيل ذلك أحدث بن سلمان، تحولات جذرية في البنية السياسية والاجتماعية والدينية في المملكة، واٌقام تحولاته أولا على جسد العلماء والهيئات الدينية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ انتزع اختصاصاتها وأهم الصلاحيات المخولة بها، وبعدها قام بحملة اعتقالات واسعة غير مسبوقة بحق العلماء والدعاة، وأودعهم المعتقلات والسجون، بل وصل الأمر إلى التورط باغتيال بعضهم في ظروف غامضة.

ومن هنا يأتي الرصد لسلوك محمد بن سلمان، الذي تحالف مع محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، والرجل الأول في الإمارات، ويعتبر بن زايد من المؤثرين على بن سلمان بشكل أساسي، كما جاء تقرب محمد بن سلمان إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مساعدا أساسيا له على إحداث تلك المتغيرات، كما فعل جده من قبل مؤسس الدولة عبد العزيز آل سعود عندما تحالف مع بريطانيا للتنكيل بالمطاوعة والعلماء.

إخوان من أطاع الله

من النماذج المبكرة في استخدام الدولة لرجال الدين، أو الجماعات الإسلامية ثم الانقلاب عليهم وإبادتهم، وهو ما حدث في العام 1912، عندما  تمرد الإخوان أو "إخوان من أطاع الله"، على عبد العزيز لأسباب أهمها علاقته ببريطانيا، وسلوكه الشخصي وتعدد زيجاته، ليعقد عبد العزيز آل سعود مؤتمرا يدعمه مجموعة من العلماء ضد "الإخوان"، انتهى بإعلانه الجهاد عليهم في منطقة ساجر، مقرهم الأساسي، وهي منطقة ظل ساكنوها يحملون ضغينة على مؤسس المملكة، بسبب تنكيله بهم، بعد أن حاربوا معه في بداية حكمه وآزروه.

وكان زعيم "إخوان من أطاع الله"، رجل يدعى سلطان بن بجاد، وهو الذي قاد القتال ضد الملك عبد العزيز آل سعود في واقعة "السبلة"، التي هزموا فيها، وقبض على سلطان وزج به في السجن حتى وفاته، ما أوجد جيلا في تلك البقاع يحمل خصومة للنظام الحاكم ولا يدين له بالولاء.

خاصة وأن قتلهم جاء من خلال الاستعانة بالطائرات البريطانية، وبذلك انتهى تمردهم تماما، وكانت هذه الواقعة بداية الصدام بشكل مباشر بين مؤسسة الحكم، والمؤسسة الدينية.

ومع الوقت تذبذبت العلاقة بين الطرفين وإن كانت الدولة الرسمية السعودية تحرص على تصدير وجهتها كدولة دينية تعتمد المنهج الوهابي كمسار لشعبها وحكامها.

رسالة الإمارة والبيعة

هذه الرسالة تعود أهميتها التاريخية في كونها، أول وثيقة مكتوبة ضد النظام السعودي، وشكلت الأساس الفكري الذي اعتنقته جماعة "جهيمان العتيبي" الذين اقتحموا الحرم المكي، وحاولوا إعلان البيعة لإمام منهم يدعى "محمد بن عبد الله القحطاني".

ففي 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1979، ما إن قام إمام الحرم المكي الشيخ "محمد سبيل" بالتسليم من صلاة الفجر، إلا ووجد نفسه محتجزا مع آلاف المسلمين داخل الحرم، في مفاجأة زلزلت أركان العالم الإسلامي، وبلغ صداها العالم أجمع، ورويدا رويدا بدأ الأمر في التبين عندما ألقى "خالد اليامي" خطبة شرح فيها أهداف جماعته من اقتحام الحرم، وطالب الجميع بمبايعة رجل يدعى "محمد بن عبد الله القحطاني" مابين ركن البيت الحرام ومقامه، بزعم أنه المهدي المنتظر، وكان أول من عقد البيعة " جهيمان العتيبي" الذي عُرف لاحقا بأنه رأس الجماعة، ومدبر الأمر.

وبدأ حصار شديد للحرم المقدس، وقتال دام بين أنصار جماعة جهيمان، والقوات السعودية، وأخبار غير رسمية عن وجود قوات فرنسية كانت داعمة للسطات الأمنية السعودية.

وفي الوقت نفسه، وزع في بعض المساجد داخل المملكة العربية السعودية، وفي دولة الكويت العربية، كتاب بعنوان (رسالة الإمارة والبيعة والطاعة.. وحكم تلبيس الحكام على طلبة العلم والعامة) لجهيمان العتيبي.

وكان هذا الكتاب بمثابة الوثيقة الرئيسية التي قامت عليها عقيدة الجماعة، التي كانت تعرف باسم (الجماعة السلفية المحتسبة)، وبث خلالها جهيمان أفكاره عن الخلافة الإسلامية، وشروط الإمامة، ومسألة الخروج على الحاكم، واعتقاده في حكام المسلمين الحاليين، وتفنيده لأحاديث الفتن وأشراط الساعة، ودعى في محتوى الكتاب إلى العزلة والاعتزال عن الناس، وصب جام غضبه على ملوك السعودية، وأولهم الملك عبد العزيز، ثم علماء المملكة، وتحديدا الشيخ ابن باز، إضافة إلى مؤسسات الدولة كوزارة الحج والأوقاف، ودار الإفتاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووزارة الإعلام.

ورغم انتهاء الحادثة بالقبض على أعضاء الجماعة، وإعدام العديد منهم، وعلى رأسهم جهيمان، لكنها تركت أثرا عميقا تجاوز مفردات ما خط في الوثيقة، فجيهمان كان عضوا في الحرس الوطني السعودي، كما أن بعض عناصر الجهاز انضموا إلى جماعته، وهو ما مثل وقعا شديدا على العائلة الحاكمة، باعتبار أن ضباط الحرس الوطني يمثلون نخبة في المجتمع السعودي ولاؤها مضمون للملك، وتمثل صمام أمان ضد أي انقلاب، وبعد هذه الأزمة تقرر إنشاء قوات الحرس الخاص.

خطاب المطالب

جاء العام 1991، الذي شهد حرب الخليج الثانية، وتشكلت معها معطيات مختلفة للمعادلات السياسية والدينية في الشرق الأوسط، حيث كان التدخل الأمريكي المباشر في الحرب، وقصف العراق، مسألة اختلاف كبيرة بين العلماء، وتبنت الدولة السعودية الرسمية والعلماء الرسميين التدخل الأمريكي، وجاءت الفتاوى بإمكانية الاستعانة بالأمريكان لتحرير الكويت، ووقف جموح حاكم العراق صدام حسين.

ولكن هذا الأمر لم يرق لمجموعات أخرى من علماء المملكة قررت أن تتبنى رأيا مغايرا، وإصدار فتاوى بحرمة الاستعانة بجيوش "الغرب" على المسلمين، ودخلوا في خلافات مع القيادة السياسية والدينية، وأصدروا "خطاب المطالب"، الذي سلم إلى للملك فهد بن عبد العزيز، حاملا 10 نقاط تدعو إلى إصلاحات شاملة وواسعة في الدولة والمجتمع، ووقع عليه 400 شخص على رأسهم 52 عالما إسلاميا، من أبرزهم الشيخ عبد الله بن جبرين، وسلمان العودة، وكان خطاب المطالب بنية تحتية لمذكرة أخرى سميت بـ"مذكرة النصيحة"، أصدرت في سبتمبر /أيلول 1992، وهنا بدأت الضربة الموجعة.

وعملت الدولة السعودية على التنكيل بهم، واعتقالهم لفترات طويلة كما فعلوا مع الشيخ خالد الراشد.

ولم تكن "مذكرة النصيحة" هي الحالة الوحيدة في التواصل، بين ملوك المملكة، ودعاتها، فمع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، اتجهت العيون نحو السعودية، الدولة المتهمة بكونها أكبر مصدر تمويلي للجماعات المتطرفة حول العالم، مما صب الضغط الإعلامي والسياسي عليها بطريقة دفعتها للتحرك لتبعد هذه السمعة عن نفسها.

وعمل التيار الإصلاحي أو "الصحوة"، داخل المملكة بإصدار العديد من العرائض والبيانات السياسية المطالبة بالملكية الدستورية إلى القيادة السياسية، وتشكلت مرحلة أخرى في العلاقة بين العلماء، وبين آل سعود ومؤسساتهم الحاكمة، وكان من أشهر تلك العرائض والبيانات:

  • خطاب "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" عام 2003 م
  • خطاب "نداء إلى القيادة والشعب معا" عام 2003 م
  • خطاب "رؤية لاستقلال القضاء" عام 2004 م

الأمير يتوعد

في 22 مارس/ آذار 2018، ومن خلال مقالة بعنوان (الإصلاحيون السعوديون يواجهون الآن اختيارات صعبة)، قال الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي، مستعرضا الوضع الحقوقي في المملكة تحت قيادة محمد بن سلمان "إنه لأمر مروع حقا أن نرى أن رموز الإصلاح البالغين من العمر 60 و70 عاما يوصفون بأنهم خونة على الصفحات الأولى من الصحف السعودية"، وكان مقصد خاشقجي إقدام بن سلمان على حملة اعتقالات واسعة، طالت عددا كبيرا من العلماء والدعاة، وبعض الساسة والمفكرين.

واستمر خاشقجي في توجيه نقده لولي العهد السعودي، بسبب اعتدائه المتكرر على الدعاة، حتى أُسكت إلى الأبد عندما قتل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، وفي مقاله الأول لـ"الواشنطن بوست" الذي نشر بتاريخ 18 سبتمبر/ أيلول 2017، والذي جاء بعنوان (السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد. أصبحت الآن لا تطاق)، قد تحدث فيه عن إجراءات القمع والترهيب والتخويف العلني للمثقفين ورجال الدين الذين يجهرون بآرائهم.

وقال جمال خاشقجي عن طبيعة الأوضاع الاستبدادية داخل المملكة: "في الأشهر الأخيرة، اتخذت المملكة العربية السعودية سلسلة من السياسات الجديدة والمتشددة بدءا بالمعارضة الكاملة للإسلاميين، وصولا إلى تشجيع المواطنين على اقتراح أسماء لإضافتها إلى قائمة الحكومة السوداء. وكانت أسماء المعتقلين مدرجة في تلك القائمة. فقد طالب كتاب الرأي المقربون من القيادة السعودية مرارا باجتثاث الإسلاميين".

وعقّب في خاتمة المقال (أريد أن تعرفوا أن هذا لم يكن حال السعودية على الدوام. نحن السعوديين نستحق ما هو أفضل).

وقد وصل الأمر إلى الهجوم المباشر على الوهابية في التلفزيون السعودي، ومن علماء بارزين مقربين إلى القيادة السياسية، كما حدث يوم 19 يوليو/تموز 2018، عندما شن المستشار بالديوان الملكي عبد الله المنيع هجوما على الوهابية في برنامج "فتاوى" المذاع على التلفزيون الرسمي، والذي قال بأن الوهابية هي وصف يسيء إلى المملكة، وما هي إلا وهم وخيال ليس لها من الواقع شيء.

ليصبح التساؤل من أين إذاً جاءت الوهابية؟ التي روّجت لها الدولة لعقود طويلة، وصدّرتها إلى الخارج في معظم الدول العربية؟

وهل كانت الوهابية مجرد دعوة يستدعيها ملوك آل سعود كلما دعت الحاجة إليها، ثم يتركوها عاجلا ويخلفوها وراء ظهورهم؟

في ظل ما ظهر من عزم محمد بن سلمان، على نزع الغطاء القديم كاملا، وتغيير جلد المملكة نحو المجهول تحت راية الحداثة والتطور، ماضيا على أجساد نشطاء وعلماء ودعاة طالما كانوا من أبرز المنظرين الذين حملوا راية تشكيل فكر ومجتمع الشعب السعودي لفترات طويلة.