أسواق واعدة.. كيف تصبح دول جنوب شرق آسيا واجهة خلفية لمصانع بكين؟

العقوبات الأميركية على تصدير المنتجات الحساسة إلى الصين تسببت في وقف صناعة أشباه الموصلات
في ظل سباق التنافس المحموم بين الصين والولايات المتحدة الأميركية تعمل دول جنوب شرق آسيا بجدية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة كشركاء ذوي أهمية وتأثير في الاقتصاد العالمي، خاصة في مجال صناعة الإلكترونيات وأشباه الموصلات.
أسواق جديدة
صحيفة "لو موند" الفرنسية أوضحت في تقرير لها كيف استغلت هذه الدول العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على تصدير المنتجات الحساسة إلى صناعة أشباه الموصلات الصينية، لتفتح أسواقا جديدة لها وتتوسع في بلدان أخرى.
وبالإشارة إلى أن ماليزيا كانت تزود الصين بالسيليكون متعدد البلورات، تصف الصحيفة الفرنسية هذه الفرصة بأنها "واعدة" في تصنيع المكونات الإلكترونية.
جدير بالذكر أن السيليكون متعدد البلورات هو مركب رئيس لأشباه الموصلات، وخاصة الخلايا الكهروضوئية.
وفي هذا السياق، تذكر الصحيفة أن المادة استوردت في البداية من الولايات المتحدة، ثم عولجت في ماليزيا، ومن ثم بيع المنتج للصين من خلال مجموعة "سيلتيرا" الماليزية العامة لأشباه الموصلات، التي أنشأها في ماليزيا محمد قمر الزمان الذي ترأس المجموعة العامة الماليزية لأشباه الموصلات Silterra من قبل إعادة بيعها إلى الصناديق الخاصة في عام 2017.
وفي 2020-2021، تسببت العقوبات الأميركية على تصدير المنتجات الحساسة إلى بكين في وقف صناعة أشباه الموصلات الصينية.
في ذلك الوقت، صرح قمر الزمان، قائلا: "كانت الإعلانات الجديدة للحكومة الأميركية معقدة ومتغيرة، مما كان له تأثير رادع، حيث فضلنا إيقاف كل شيء بالتنسيق مع شريكنا الصيني".
وبشكل عام، تذهب الصحيفة الفرنسية إلى أن "الثورة المعلوماتية، ثم ثورة الإنترنت والآن الذكاء الاصطناعي، جعلت من أشباه الموصلات عصب الحرب التكنولوجية".

عزل الصين
وأكدت الصحيفة أن "هذه المكونات، الأكثر تعقيدا، هي في قلب إستراتيجية عزل الصين من قبل الولايات المتحدة، من خلال ترسانة من القوانين المصحوبة بعقوبات من وزارة الخزانة الأميركية".
وبعد العقوبات المفروضة على الصين، بدأت دول رابطة دول جنوب شرق آسيا، التي تضم عشرة أعضاء؛ منها ماليزيا وفيتنام والفلبين وإندونيسيا وتايلاند، في الاستفادة من عمليات نقل الأعمال التي قامت بها المجموعات اليابانية والكورية الجنوبية والتايوانية من الصين.
ونتيجة لذلك، كما توضح الصحيفة، أصبحت هذه الدول في موقع جيد لتعزيز دورها كبديل للصين.
وفي هذا الصدد، يقول ماركو فورستر، المدير لمنطقة الآسيان في شركة "ديزان شيرا" إنه "في مقرات الشركات متعددة الجنسيات، تعد إستراتيجية "الصين + 1" هي السائدة، وهي إستراتيجية تهدف إلى إعادة توجيه الاستثمارات نحو جنوب شرق آسيا، وخاصة في قطاع التكنولوجيا".
ويضيف فورستر -وفق الصحيفة- أن "الإستراتيجية تتضمن البقاء في الصين للسوق الصيني، لكن مع الذهاب إلى أماكن أخرى للتصدير لبقية العالم".
وهنا، تستحضر "لو موند" الفرنسية أحداث الحرب الباردة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والتي استفادت فيها جنوب شرق آسيا من ديناميكية مشابهة لتلك التي شهدتها تايوان وكوريا الجنوبية، وكذلك هونغ كونغ وسنغافورة.
حيث شهدت تلك الفترة عمليات نقل الأعمال الأميركية واليابانية، مما جعل بلدان منطقة جنوب شرق آسيا روادا عالميين في الإلكترونيات، وخاصة أشباه الموصلات.
وبالنظر إلى الوضع الحالي، تسلط الصحيفة الفرنسية الضوء على أن "ماليزيا، عند مقارنتها مع جيرانها، يمكن أن تفتخر بوجود قوة عاملة متمرسة في التكنولوجيا العالية منذ جيلين أو ثلاثة".
حيث تُعد ولاية بينانغ الماليزية "مركزا لأشباه الموصلات في البلاد"، وفق ما ورد عن الصحيفة.
واجهة خلفية
وبهذا الخصوص، تذكر الصحيفة أنه في عام 1972، افتتحت شركات "إنتل" و"AMD" و"هيتاشي" مصانع في أول منطقة للتجارة الحرة في البلاد.
وعلى حد قول الصحيفة، جعلت هذه الشركات من بينانغ، وماليزيا بشكل عام، رائدا عالميا في "الواجهة الخلفية" في عملية تصنيع الرقائق السيليكونية واختبارها.
ونتيجة لذلك، أعطت هذه التخصصات ماليزيا حصة سوقية تبلغ 7 بالمئة في التجارة العالمية لأشباه الموصلات بشكل عام، مما يجعلها تحتل المرتبة التاسعة عالميا.
وعلى جانب آخر، بالنسبة لرابطة دول جنوب شرق آسيا، تلفت الصحيفة إلى أن سنغافورة فقط هي من تتفوق على ماليزيا بحصة سوقية تبلغ 11 بالمئة من التجارة العالمية لأشباه الموصلات.
واستنادا إلى خبرتها، كما تقول "لو موند" الفرنسية، نجحت الدولة التي يبلغ عدد سكانها 34 مليون نسمة في تنفيذ سياسات الدعم العام المحلية والإقليمية بشكل كبير.
حيث تخصص ولاية بينانغ الماليزية فترات لا تتجاوز عشرة أشهر لإنشاء منشأة صناعية، كما تقدم سياسة ضريبية تُعد من بين "الأكثر تميزا".

قانون "الرقائق"
وبالإشارة إلى أن اقتصاداتهم تُعد من أكثر الاقتصادات تقدما في المنطقة، تقول الصحيفة إنه "إذا كان التنويع، بديلا عن الصين، يفيد ماليزيا بفضل خبرتها، فإنه يثير الإلهام لدى جيرانها، فيتنام والفلبين وإندونيسيا وتايلاند".
ووفق ما ورد عن الصحيفة، يمكن لتلك الدول الأربع الاستفادة من قانون "الرقاقات والعلوم" الأميركي، الذي وقع عليه الرئيس جو بايدن في أغسطس/ آب 2022.
ومن بين أمور أخرى، يتضمن هذا القانون تخصيص 39 مليار دولار (36 مليار يورو) من التمويلات العامة لتعزيز إنتاج أشباه الموصلات على الأراضي الأميركية، بحسب الصحيفة.
وفي رأيها، إذا كان هذا الدعم، من الناحية النظرية، يهدد بحرمان بعض البلدان من الاستثمار، فمن المرجح أن يفيد جنوب شرق آسيا في أنشطة التجميع والاختبار، لا سيما في البلدان التي لديها عمالة مدربة بأقل تكلفة مثل ماليزيا.
وفي هذه النقطة، يؤكد ماركو فورستر على أن "الاستثمار لم يتراجع لحظة واحدة منذ قانون الرقائق والعلوم في جنوب شرق آسيا، بل زاد ولا يوجد أي علامات على التباطؤ".
علاوة على ذلك، تلفت "لو موند" إلى أن هذا ينطبق بشكل أكبر على البلدان التي من المتوقع أن تستفيد من الصندوق الدولي للأمن والابتكار التكنولوجي، أحد أجزاء قانون "الرقائق والعلوم".
حيث يخطط الصندوق لتخصيص 500 مليون دولار على مدى خمس سنوات "لتنويع وتعزيز سلسلة القيمة العالمية لأشباه الموصلات بين الدول الحليفة".
وكما تذكر الصحيفة الفرنسية، فإن ثلاثة من أصل خمسة "شركاء" مختارين حتى الآن يقعون في جنوب شرق آسيا، حيث يشمل ذلك فيتنام في المرتبة الأولى، بالإضافة إلى إندونيسيا والفلبين.
وتصف الصحيفة هذا المشهد قائلة إن "الدول الثلاث تمثل نقاطا جديدة في إستراتيجية "الصداقة" و"تعزيز الإنتاج في بلدان الأصدقاء" التي تنتهجها الحكومة الأميركية، بعد أن أظهرت ماليزيا وسنغافورة فعالية في هذا المجال بالفعل".
الحوض الرئيس
وبشكل عام، تخلص الصحيفة الفرنسية إلى أن "كل الدلائل تشير إلى أن آسيا ستظل الحوض الرئيس لسوق شبه الموصلات العالمية".
بالإضافة إلى أن "قوانين الرقائق الأميركية والأوروبية قد تسرع بالفعل في إعادة توزيع هذه الأنشطة على حساب الصين وتايوان، إلى صالح لاعبين جدد مثل فيتنام والفلبين وكذلك الهند".
وفي نهاية التقرير، تخصص الصحيفة الحديث قليلا عن فيتنام قائلة إنها افتتحت أول مصنع للتجميع والاختبار بالاستثمار من "إنتل" في عام 2010، وذكرت أنها "تسعى بوضوح للتقدم بخطى سريعة".
موضحة بذلك أنها "تعتزم استثمار حوالي مليار دولار في تدريب 50 ألف مهندس في شبه الموصلات بحلول عام 2030".
ولكن على جانب آخر، تصف الصحيفة فيتنام بأنها "تحد يجب التصدي له بجدية"، فقد تصدر البلد المرتبة الثانية عالميا في تصدير الهواتف الذكية في أقل من عقد من الزمان بعد الصين.