بعد الطوفان.. كيف دمرت إسرائيل حياة أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني؟

كان هناك نحو 80 ألف فلسطيني يعملون في قطاع البناء قبل الحرب
بات العامل الفلسطيني أحمد حسن بلا عمل منذ أكثر من عام بعد أن أوقفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تصريحه كغيره من عشرات الآلاف بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي حديثه لـ"الاستقلال"، يروي حسن وهو اسم مستعار لعامل في قطاع البناء يخشى الكشف عن هويته لتجنب الضرر، قصة فقدانه لعمله ورفض إسرائيل تجديد تصريحه للعمل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
وهذه الأزمة نالت آلاف العمال في عدد من القطاعات أبرزها مجال البناء، كخطوة انتقامية من جموع الفلسطينيين بعد تنفيذ حركة المقاومة الإسلامية حماس عملية طوفان الأقصى.
إلغاء التصاريح
وفي مكان حسن الممنوع اليوم من العمل في أرضه المحتلة، أتيحت الفرصة لـ "راجو نيشاد" وغيره من العمال الهنود الذين استجلبتهم إسرائيل بديلا عن الفلسطينيين.
ومرتديا حزام الأمان والخوذة وحذاء العمل، يتحول نيشاد بين السقالات ويدق الحجارة التي ستشكل جزءا من مبنى في حي جديد بمستوطنة بئر يعقوب الإسرائيلية.
ويبدو وجود نيشاد وغيره من العمال الهنود الذين يعملون إلى جانبه في الموقع مألوفا، إلا أنهم لم ينضموا إلا أخيرا إلى قطاع البناء في إسرائيل، وفق ما تنقل وكالة الأنباء الفرنسية.
وجلبت إسرائيل آلاف العمال الهنود لملء الفراغ الذي تركه عشرات الآلاف من نظرائهم الفلسطينيين قسرا بعد منعهم من الدخول.
فمن بين سلسلة من القرارات التي اتخذتها حكومة الاحتلال بعد 7 أكتوبر 2023، إلغاء تصاريح العمل لنحو 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية.
ويضاف إليهم نحو 18500 عامل في مجال البناء من قطاع غزة، بدأوا بالعمل عام 2022 بعد منع منذ سنة 2006، لينضموا إلى نظرائهم في الضفة الذين يشكلون العدد الأكبر.

بالإضافة إلى ذلك، جرى احتجاز الآلاف من هؤلاء العمال بشكل غير قانوني ونقلهم إلى مراكز الاعتقال والتحقيق معهم عن مدى معرفتهم بعملية طوفان الأقصى قبل وقوعها.
وفي الوقت نفسه، بدأت إسرائيل مناقشات رسمية مع حكومات آسيوية مختلفة لتجنيد الآلاف من العمال الأجانب وأبرزهم الهنود ليحلوا محل القوى العاملة الفلسطينية.
ويعتقد الباحثون الإسرائيليون أن عدد الهنود العاملين في قطاع البناء لا يزال أقل من عدد نظرائهم الفلسطينيين الذين كانوا يعملون قبل الحرب، ما يعيق النمو العام في هذا القطاع.
فبحسب معطيات إسرائيلية، قبل الحرب، كان هناك نحو 80 ألف فلسطيني يعملون في قطاع البناء (من ضمن إجمالي 150 ألف في مجالات عدة)، إضافة إلى نحو 26 ألف عامل أجنبي.
لكن وزير الجيش السابق يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي جمدا التصاريح في كل من الضفة وغزة لأسباب أمنية في أعقاب الهجوم.
ووصل فقط نحو 16 ألف عامل من الهند إلى إسرائيل خلال عام واحد، في حين تخطط حكومة الاحتلال لجلب الآلاف غيرهم، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية.
والآن يوجد نحو 30 ألف عامل أجنبي فقط بالمجمل داخل إسرائيل، وهو عدد أقل بكثير مما كان عليه في السابق.
وبحسب باحثين فإن أنشطة البناء في الربع الأخير من عام 2024 أقل بنسبة 25 بالمئة عن مستويات ما قبل الحرب.
استبدال مستمر
ولذلك، منذ تصاعد الحرب في غزة، بدأ القائمون على التوظيف في إطلاق حملة جديدة لجلب الهنود إلى قطاع البناء في إسرائيل، بعد أن كانوا يعملون منذ عقود في مجالات منها الرعاية والطبخ وتجارة الألماس وتكنولوجيا المعلومات.
يقول سمير خسلا، رئيس شركة “داينمك” لخدمات التوظيف والتي تتخذ من دلهي مقرا، إنه جلب حتى الآن أكثر من 3500 عامل إلى إسرائيل التي تعد سوقا جديدا بالنسبة له.
ووصل خسلا إلى إسرائيل بعد شهر من عملية 7 أكتوبر، بناء على مكالمة عاجلة من سلطات الاحتلال لطلب عمال أجانب للعمل في قطاع البناء الذي توقف تماما بعد نشوب الحرب.
وتابع لوكالة الأنباء الفرنسية: "لم نكن نعرف الكثير عن السوق هنا، ولم تكن هناك قوة هندية عاملة في السابق. كان علينا التحرك لفهم احتياجات السوق".

وأضاف بأنه يرى أن الهند خيار طبيعي بالنسبة لإسرائيل نظرا إلى "العلاقات الممتازة" بين الطرفين.
وتضع هذه المعطيات، الإجراءات الإسرائيلية الجديدة ضمن السياق التاريخي الأوسع لعلاقة المشروع الاستيطاني الصهيوني بالعمالة الفلسطينية.
إذ تكشف عن نمط متكرر تستدعي فيه إسرائيل القوى العاملة الفلسطينية أو تستغلها أو تطردها أو تُحل محلها أطرافا أخرى بناءً على احتياجاتها.
ويقول العامل أحمد حسن إنه بات بلا عمل منذ طوفان الأقصى ويعيش على المساعدات هو وعائلته المكونة من 7 أفراد بسبب "القرار الإسرائيلي الانتقامي".
ولفت إلى أن قطاع البناء "ميت" في الضفة الغربية، وإن توفر القليل منه، "فأجره لا يوازي العمل في الداخل (الأراضي المحتلة)".
أما فيصل محمد وهو اسم مستعار لعامل آخر يبلغ من العمر 55 عاما ويقطن في الضفة الغربية، فقصته أكثر مأساوية.
يقول لـ"الاستقلال" إنه كان يوظف كعامل بناء في المدن العربية داخل الأراضي المحتلة، وإنه فقد عينه اليمنى خلال العمل دون أن يتلقى تعويضا أو علاجا من مشغليه.
وأضاف: "ازداد الطين بلة بعد سحب إسرائيل للتصريح، فأصبحت عاجزا عن العمل والعلاج معا لأنني لم أحصل على التعويض".
ونقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن وزارة الاقتصاد في مارس/آذار 2024، قولها إنها "تعارض بشدة السماح للعمال الفلسطينيين بالعمل في إسرائيل وتعمل على جلب آخرين من دول مسالمة".
وقالت إن “وزير الاقتصاد نير بركات اصطدم أخيرًا مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بسبب قضية العمال الأجانب”.
واتهم بركات نتنياهو بتأخير قرار مجلس الوزراء الذي من شأنه أن يسمح بوصول أعداد أكبر من العمال الأجانب ليحلوا محل نظرائهم الفلسطينيين.
أهداف بعيدة
ولطالما كان العمال الفلسطينيون مصدر قلق كبير لقادة الاحتلال، حيث تسود خشية دائمة خاصة مع تصاعد التوتر، من مشاركة هؤلاء في تنفيذ عمليات فدائية داخل الأراضي المحتلة.
ومن أجل منع ذلك، انتهجت سلطات الاحتلال مبكرا سياسة الاحتواء، باستخدام العمالة الفلسطينية لتلبية احتياجات الإنتاج مع ضمان استمرار إفقارهم المنهجي، وذلك على تقدير أن السيطرة عليهم تعني التحكم بسبل عيشهم.
وكان يهدف الاحتلال إلى استخدام هذه التصاريح كوسيلة لإحباط المقاومة المتصاعدة، مما أدى إلى زيادة اعتماد الفلسطينيين على الاقتصاد الإسرائيلي.
فعلى مدى العقد الماضي، سلط قادة الاحتلال الضوء على المقاومة الفلسطينية المتزايدة بصفتها تهديدًا رئيسا لاستقرار الدولة الاستعمارية الاستيطانية.
وردًا على ذلك، قدموا جهودًا أمنية متزايدة وتدابير اقتصادية لإحباط النضال الفلسطيني وتهدئته عبر زيادة التصاريح الممنوحة للعمال، وفق ما تقول شبكة السياسات الفلسطينية.
وقالت الشبكة في دراسة نشرتها في 5 يناير/كانون الثاني 2025، إن إسرائيل تتبع أربعة أساليب رئيسة من أجل ترسيخ تبعية اليد العاملة الفلسطينية:
أولًا، تشغيل العمال الفلسطينيين في أعمال متدنية الأجور بشكل حصري عند الحاجة لسد الفجوات في القوى العاملة في السوق الإسرائيلي.
ثانيًا، التركيز على تشغيل الفلسطينيين في قطاعات الزراعة والصناعة والبناء، بشكل يضمن حدوث عجز خطير في الأيدي العاملة الفلسطينية، كون تلك القطاعات، ضرورية لتحقيق الاكتفاء الاقتصادي الذاتي.
ثالثا، الاستمرار بالتوسع في بناء المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وبذلك تُنمِّي إسرائيل اقتصادها وفي الوقت نفسه تتسبب في انكماش الاقتصاد الفلسطيني بسبب الاستيلاء على الأراضي.
رابعًا، سحب تصاريح العمل حينما تنتفي الحاجة إلى العامل الفلسطيني أو حين يشاء المستعمر فرض عقوبة جماعية على السكان الأصليين، ليعود العمال إلى القطاعات الفلسطينية التي جفَّفها الاحتلال أصلًا ومن ثم استبدال آخرين أجانب بهم.
وتنطوي السياسات الإسرائيلية تجاه العمال الفلسطينيين على آثار بعيدة المدى، لأن تشغيلهم في السوق الإسرائيلية يشكل ركيزة رئيسة للاقتصاد الفلسطيني.

إذ تدر أجور العمال أكثر من 380 مليون دولار أميركي إلى السوق الفلسطينية، وتشكل دعامة أساسية لعائلاتهم، وفق الدراسة.
كما يتقاضى العامل الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948، نحو 81 دولارا أميركيا كمتوسط أجر يومي، أي أكثر من ضعف متوسط أجر نظرائه في الضفة الغربية.
ويتعدى فقدان تلك الأجور المشقة الشخصية للأفراد والأسر كون إلغاء تصاريح العمال يهدد بخسارة أكثر من 20 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي الفلسطيني.
وأدى الإلغاء التعسفي لتصاريح العمل إلى تعطيل الخدمات الحيوية والقطاعات التجارية كذلك. وفقد الفلسطينيون في الضفة الغربية ما مجموعه 306 آلاف وظيفة، أي ما يعادل أكثر من ثلث إجمالي العمالة، بحسب الدراسة.
وأشارت إلى أن معدلات البطالة بين الأفراد المشاركين في القوى العاملة ارتفعت إلى نحو 32 بالمئة مقارنة بما يقارب 13 بالمئة في الربع الثالث من عام 2023، وزادت معدلات الفقر من 12 إلى 28 بالمئة، في تفاقم ملحوظ للأزمة الاجتماعية والاقتصادية.
وفي ظل ذلك، فشلت الحكومة الفلسطينية طيلة الأزمة الراهنة في معالجة قضية خلق فرص عمل بديلة لعمالها.
وعلى المدى البعيد، تسعى إسرائيل في تعاملها مع العمال الفلسطينيين إلى تحقيق هدف أساسي يتمثل في جعل حياة المواطنين اليومية لا تطاق بحيث يصبحون مجبرين على الخروج من موطنهم بالتزامن مع التوسع في الاستيطان اليهودي، يخلص المركز.